الأسبوع الماضي منعت قوات حفظ السلام الأممية الإفريقية العاملة فى دارفور والمعرّفة اختصاراً ب(اليوناميد) كلٌ من مفوّض العون الإنساني سليمان عبد الرحمن، ومنسق الشئون الإنسانية بالأمم المتحدة (علي الزعتري) من دخول محلية السريف بولاية شمال دارفور بحجة إنعدام الأمن فى المنطقة التى كانت قد شهدت أعمال عنف مؤخراً. مفوض العون الإنساني احتج على قرار اليوناميد، ولكن الأخيرة أصرّت على موقفها وبدا وكأن اليوناميد -بهذا الموقف المدهش- كمن تستهِل سياسة جديدة تود إنفاذها فى الإقليم دون أن يكون لها التفويض اللازم لذلك. فمن الناحية القانونية المحضة فإن التفويض الممنوح للبعثة من العام 2006 لا يتجاوز توفير الحماية للمدنيين، وحتى في هذا النطاق المحدود فإن البعثة عليها أن تقوم بتنسيق تحركاتها مع السلطات السودانية بحيث تتناغم مع موجهات السياسة السودانية قدر الإمكان، لأن من شأن أي تعارض أو تقاطع بين الطرفين أن يهدم مبدأ وجود البعثة من أساسه، خاصة وأن الحكومة السودانية كانت قد رفضت بشدة مجيء البعثة باعتبار أن الأوضاع فى المنطقة تحت السيطرة ولا تحتاج لقوات من الخارج لمواجهتها. كما أن خبراء القانون الدولي يؤكدون على أن البعثات المعنية بحفظ السلام فى أيّ بلد ما ينبغي لها أن ترسم لنفسها (سياسة خاصة بها) تبعدها عن نطاق تفويضها من جهة؛ وتجعلها فى حالة صدام مستمرة مع البلد المضيف. ولعل الأمر المستغرب والملفت للإنتباه هنا أن اليوناميد طوال فترة وجودها فى الإقليم ظلت (محل حماية) من جانب السلطات السودانية جراء ما ظلت تتعرض له مراراً من هجمات وحالات نهب من عدد من الحركات الدارفورية المسلحة. ووصل الأمر فى بعض الأحيان الى درجة استنجادها بالسلطات السودانية لحمايتها، بل وبلغ الأمر فى بعض الأحيان أن الشكوك بدأت تساور الحكومة السودانية بشأن (درجة من التواطؤ) لدي بعض قوات البعثة مع حملة السلاح، حيث ظلت بعض هذه الحركات المسلحة تحصل على تشوين وسلاح -بسهولة شديدة- من قوات اليوناميد، بينما تزعم الأخيرة أنها تعرضت لهجوم من الحركات المسلحة. وتحفل المضابط الرسمية بولايات دارفور الثلاث بالعديد من البلاغات والحالات المثيرة حقاً للشكوك والارتياب ادّعت فيها اليوناميد تعرضها لهجمات من قوات متمردة، فى الوقت الذى تعكس فيه الوقائع على الأرض أن الأحداث لا تخلو من غرابة وعلامات استفهام هائلة. ولهذا فإن موقف اليوناميد الأخير لا يمكن قراءته إلا فى سياق إجراء أكبر تزمع جهات فى مجلس الأمن الدولي إقراره قريباً بشأن توسيع نطاق القوات وزيادة صلاحياتها حيث بات من المعروف أن قوى دولية كبرى بدأت فى الزعم إن إقليم دارفور يشهد توترات وأعمال عنف متزايدة. وقد ردّدت الخارجية الأمريكية -غير ما مرة- هذه الاتهامات وإدعت أن الحكومة السودانية تقوم بأعمال قصف للمدنيين فى دارفور! وهى التهمة نفسها التى تأسست على أساسها بعثة حفظ السلام قبل حوالي 7 سنوات وثار بشأنها جدل ولغط كثيف بين الخرطوم ونيويورك. من المؤكد أن قرارات اليوناميد الأخيرة ما هي إلا قطرة تمهيدية لتغيير بنية هذه القوات وتوسيع نطاق صلاحياتها وفق خطط أمريكية على وجه الخصوص لتضييق الخناق على الحكومة السودانية فى دارفور من جهة، وفى جنوب كردفان والنيل الأزرق من جهة أخرى، فاللعبة مزدوجة ولا تخلو من مكر، إذ بينما تلتفِت الأنظار الى دارفور بالحديث عن تجدد أعمال العنف وتعريض المدنيين للقصف؛ تبدأ تحرُّكات المتمردين فى جنوب كردفان والنيل الأزرق لإحداث ارتباك أمني واسع النطاق في السودان يشكل ضغطاً على الحكومة السودانية لتبدي مرونة فى التفاوض مع قطاع الشمال وما يسمى بالثورية وإنفاذ اتفاقية التعاون المشترك بينها وبين الحكومة الجنوبية. اليوناميد بموقفها الجديد المدهش ليست سوى (زر صغير) جرى الضغط عليه بصورة خاطفة تمهيداً لأزرار أخرى يتم الضغط عليها لاحقاً، فيا ترى ما الذي تخبؤه الأقدار تحت هذه القبعات الزرقاء؟