لم يكن مهماً ما إذا كان الحلو قد قضى نحبه أم أنه أصيب بجراح بالغة أو ما يزال حياً يقود المعارك، ويعقد المحاكمات ويصدر قرارات الإعدام بحق المدنيين العزل فى أبو كرشولا. فى مثل هذه المعارك (المصيرية) فإن فرضيات الموت والحياة لا تقاس بذات المقياس فى الظروف الطبيعية، ذلك أن متمرد مثل عبد العزيز الحلو يرتكب – بوجوده المباشر فى الميدان – مثل هذه الجرائم البالغة البشاعة من ذبح وتقتيل وتعليق على الأشجار يعتبر بمقياس الأعراف والتقاليد – السودانية وغير السودانية – فى حكم الميت لأنه لم يكن يرتكب جرائمه تلك بحق أجانب غاضبين اعتدوا على السودان، ولا كان يقاتل استعماراً خارجياً؛ كان يقتل ويعلق على المشانق (ذات المهمشين) الذين يزعم أنه يدافع عنهم وأنه ثار من أجلهم. لقد أعطى الحلو صورة سياسية مصغرة لما سيؤول إليه الحال إذا دانت له الظروف وأمسك مقود السلطة، ولهذا فإذا كان لمثل هذا لفعل الشائن من فائدة، فهو ألّب ضده وضد مجموعته بأسرها السودان كله حتى أولئك الذين كانوا يبيِّتون المقت والكُره للحكومة السودانية، فقد رأوا رأي العين (البديل الديمقراطي) وقرءوا بعين فاحصة لا تغشاها غشاوة (بنود الفجر الجديد). لقد أفادت عملية أبو كرشولا فائدة كبرى فى إماطة اللثام (بياناً بالعمل) كما يقول العسكريون فى لغتهم الموجزة عن طبيعة البرنامج السياسي لما يسمى بالثورية! برنامج حافل بالدماء والأشلاء وترويع الأطفال والاغتصاب المرئي من الجميع (نظراً ومشاهدة)! ومن المؤكد أن الذين جلسوا الى الحلو وعقار فى كمبالا وبادلوه الهمسات الضحكات ومهروا وثيقتهم بتوقيعاتهم طأطئوا رؤوسهم خجلاً وهم يرون هذه المذابح التى لم يفعلها المغول ولم تعرفها مجاهل التتار وهولاكو وجنكيز خان، كيف بهؤلاء لو ولوجوا الى المدن الكبيرة وعواصمها المزدحمة؟ كم نهر من الدماء يجاوز مياه النيل سوف يسيل؟ كم من الأشلاء ستملأ طرقات المدن وأطرافها؟ كمن من الأطفال والنساء سيكونون فى غيابة الجب السوداوي المظلم لرجال ما عرفوا الحق ولا الرحمة، بل لا يعرفون حتى معنى الثورية والثورة لأن الثائر هو الذى يثور على أوضاع ويعمل على تغييرها وليس ذلكم الذى يثور على المواطنين والمدنيين ويذقهم بأسه ويذبح أوردتهم وهم عزل دون تكافؤ فى المواجهة، ولا تساوي فى الفرص. ولهذا فإن القضية لم تعد قضية تحرير لمنطقة أبو كرشولا ولا مقاضاة الحلو والاقتصاص منه ولا ما إذا كان الرجل (مدركاً وواعياً) لما يفعل، ولكن القضية قضية من سايروا الرجل واعتقدوا أنه (نبيّ الجبال) ومهديها المنتظر، أولئك الذين تعاهدوا معه على إسقاط النظام بشتى السبل وهم يعلمون أن الرجل مصاص دماء من نوع فريد وتعاهدوا معه على إقامة (نظام تعددي ديمقراطي) فإذا بالرجل يعطيهم أول ما يعطي (هذا النموذج الديمقراطي التعددي) الذى تعددت مذابحه ودماؤه وأشلاؤه! إن استعادة الجيش السوداني لأبو كرشولا أمر كان من الأساس مفروغ منه وكان مسألة وقت فقط إذ أنّ محاسبة المعتدين أوكلت الى الجيش السوداني، بالرصاص والقذائف اللاهبة ولكن تبقى محاسبة (المساندين داخلياً) والمتخفين وسط الناس، وقادة القوى السياسية الواقعين في حبائل الحلو وعقار. تبقى هذه المحاسبة السياسية ضرورية لأن الوطن ما عاد يحتمل من يتآمرون (بقلب ميت) يمسون ساسة ويصبحون متمردين؛ ويصبحون ساسة، ويرفعون أصواتهم بالحديث عن الديمقراطية والحرية بينما يسنّون الرماح (سراً) لمن يبقرون به بطون الأمهات ورقاب الأبرياء!