يتجه كل من السودان والعراق الى إحداث نقلة نوعية في ممارستهما السياسية الداخلية يمكن أن تكون لها انعكاساتها على المنطقة عموما. والنقلة المشار اليها تتلخص في أمر وحيد وبسيط وهو رد الأمر الى الناس ليحددوا من يحكمهم عبر صندوق انتخابات وفي حرية لا تحددها سقوف و لا ضوابط حزبية أو مرجعية تاريخية أو أسرية تجعل من الممارسة تحصيل حاصل كما هو الأمر عبر مختلف الممارسات في دول المنطقة العربية تحديدا. ومع ان لكل دولة ظروفها وأحوالها الخاصة المرتبطة بتطورها السياسي والاجتماعي، إلاّ ان بعض متاعب البرلمانات الثلاثة التي شهدها السودان انها كانت تتم في بيئة تعتبر الى حد كبير معادية لفكرة اللجوء الى صندوق الانتخابات الحر. ويكفي ان أحد الحوادث التي شهدتها الفترة الثالثة 1986-1989 عملية اغتيال المعارض العراقي الحكيم التي أرسلت رسالة واضحة أسهمت بصورة مباشرة أو غير مباشرة في اضعاف التجربة البرلمانية السودانية واظهارها بمظهر الضعف في مجال حيوي يتعلق بالأمن، وأن يد الديكتاتورية طويلة تطال من تريد دون خوف. تتشابه ظروف السودان والعراق في عدة جوانب: فهناك الموارد الطبيعية الهائلة، والتنوع الذي يتميز به البلدان سياسيا ودينيا واثنيا، بروز طبقة متعلمة وشىء من الأرث في الممارسة النقابية والديمقراطية، لكن رغم ذلك قعد بهما سوء السياسات في العهود الوطنية والتقلب بين البرلمانية والشمولية التي انتهت في الحالة العراقية الى شمولية توتاليتارية بإمتياز تجاوزت المرحلة الحزبية الى القبلية فالأسرية الى الفردية التي أملت أن تؤدي في نهاية الأمر الى الربط بين النظام والبلاد، وهو ما سعى اليه بصورة ما الانقلابان العسكريان الأخيران في السودان. تلك هي الفترة التي شهدت بروز مقولات الأمن القومي العربي والبوابة الشرقية التي يحرسها العراق بدون تحديد قاطع لمضمون ومفهوم ذلك الأمن القومي ومسؤولية كل طرف في حمايته ودعمه أو تهديده. وليس أدل على ذلك من أن عراق صدام حسين فرض على غالبية العرب دعمه تحت ذلك المفهوم في مواجهة ايران رغم انه هو الذي بدأ بالهجوم على جارته. وبنفس هذه المفاهيم كان العراق يسعى الى أن يصطف السودان الى جواره دعما للثورة الارترية ودون أن يضع في الاعتبار كلفة ذلك على السودان المجاور لأثيوبيا. واتساقا مع ذلك المنطق بدأت تبرز بعض المقولات في السودان ووصفه انه بوابة العرب الجنوبية، وذلك في اشارة الى عمليات التمرد في جنوب السودان التي استقطبت لها بعداً دولياً، وهي في جوهرها كما الأمر في العراق تتعلق بالفشل في البناء القومي للدولة وعدم استيعاب آمال وطموحات الجنوبيين في السودان وهو نفس الفشل مع الأكراد في الحالة العراقية، الأمر الذي أدى الى حروب أهلية متصلة وتدخلات أجنبية لم تدفع بالطبقة السياسية الى التصرف برشد والنظر في جذور المشكلة وإنما البحث عن عدو حقيقي أو متوهم في الخارج. فالأعداء لا يمكن لومهم على استغلالهم لنقاط الضعف والثغرات في الجبهة الداخلية. يختلف مسار التجربة العراقية في ان التغيير هناك تم عبر غزو عسكري أمريكي بريطاني يفتقر الى أية شرعية، وهي خطوة ستظل الى أمد طويل مثار جدل ونقاش والتحقيق الذي يجري في بريطانيا حالياً دليل على ذلك، لكن ليس من شك انه فتح الباب أمام ما يشهده العراق في الوقت الحالي من تداول للسلطة عبر الانتخابات والتطور التدريجي الذي يعيشه لتأسيس الممارسة السلمية للعملية السياسية. فالانتخابات الأخيرة شهدت نسبة عالية من التصويت، كما ان السنة الذين قاطعوا الانتخابات الأولى عادوا وشاركوا في الأخيرة، وان عمليات الاستقطاب المذهبي والعنف التي عانت منها الفترة الأولى شهدت تراجعاً في الممارسة الأخيرة. أما في السودان فإن التوجه نحو السلام نبع مبدئيا من قناعات داخلية، وهو ما وفر الأساس للدعم الدولي الذي رعى المفاوضات وقدم الدعم الفني والمالي لاستكمالها عبر سنوات، كما ان التوجه نحو التحول الديمقراطي في الحالة السودانية جاء نتيجة لالتقاء الموقفين الدولي والسوداني بشقيه من الحكومة والحركة الشعبية، وكل لحساباته الخاصة. فالحكومة بقراءتها لتاريخ البلاد الحديث رأت ضرورة الانفتاح على القوى السياسية الأخرى عبر مشاركة متدرجة تضبط مسارها وأن ذلك الخيار أفضل لها من أن تفرض عليها الأمور كما حدث من قبل عبر انتفاضتين شعبيتين لم تنجحا في نهاية المطاف من تحقيق أهدافيهما، وإنما هيأتا المناخ لتجربة عسكرية أخرى. أما الحركة وبقيادة جون قرنق فإن نجاح خطابها في اثارة الأطراف وقضايا المهمشين جعلها أميل الى الخيار الانتخابي السلمي وتكوين كتلة ضخمة تتمكن من تحقيق تغيير سلمي وجذري في تركيبة البلاد. والغرب الذي يعتبر الممارسة الانتخابية السلمية من أبرز ثوابت قناعاته السياسية كان أسعد حالا بالموافقة والاسهام في هذا التوجه، ولهذا لم يصر على أن تكون الانتخابات «حرة وعادلة» وإنما يكفي أن تتمتع بشىء من المصداقية كونها خطوة أولى على طريق تحقيق قدر من الاستقرار السياسي والسماح للجنوب بممارسة حق تقرير المصير. وهكذا تتاح أمام المنطقة ولأول مرة منذ عدة عقود فرصة لممارسة ديمقراطية تجد حدها الأعلى في ممارسة حق تقرير المصير وان الجنوبيين في السودان كما الأكراد في العراق، هم الذين سيحددون نوعية علاقتهم بالدولة الأم. وهذه نقلة نوعية في المفهوم البالي للأمن القومي العربي المستند الى الإرث الشمولي. والنقلة الجديدة تتلخص في أن أفضل ضمانة لهذا الأمن تتمثل في قيام كل دولة بحلحلة متاعبها في اطار سلمي يضع في أولى أولوياته هموم واهتمامات الناس وليس جرهم الى معارك ضد بعضهم البعض وضد جيران وقوى خارجية لأسباب عدائية منها الحقيقي ومنها المتوهم. ولهذا تكتسب الانتخابات المقبلة في السودان أهمية اضافية بسبب هذا البعد الاقليمي. وكما نجح العراقيون في التصدي الى العنف وتجاوز السنة مرارات السنوات التي أعقبت الغزو والاسهام بنشاط في التجربة الانتخابية الأخيرة، فإن القوى السياسية السودانية تصبح مطالبة بالعمل الجاد على انجاح التجربة والبناء على ما يجري في العراق لتسهم في تمديد الفعل الديمقراطي في المنطقة بما يعود عليها بفائدة مضافة. نقلا عن صحيفة الرأى العام 11/3/2010