مع إنشغال الساحة السياسية السودانية باستحقاق الانتخابات و المرحلة المفصلية المقبلة فى غضون الاشهر الممتدة منذ الآن و حتى العام المقبل 2010 ، فإن قضية أمنية بالغة الخطورة و الاهمية لا يبدو أنها تحظي باهتمام القوى السياسية المختلفة بما فى ذلك الحركة الشعبية نفسها المرتبطة بهذه القضية . و نعني بالقضية الخطيرة ، قضية الجيش الشعبي ، ذلك المكوِّن القتالي الذى تكون طوال فترة الحرب الطويلة التى دامت لما يقارب العقدين من الزمان . قبل ايام تواترت انباء عن عمليات اغتيال قام بها الجيش الشعبي لتجار شماليين احداها فى مدينة الرنك بأعالي النيل ،و يقول مواطنين فى انحاء متفرقة من الجنوب السودان أنه ما من صراع بين قبيلتين او حادثة من الحوادث او محاولة اغتيال أو أزمة أمنية الاّ كان طرفها إن لم يكن محركها الاساسي هو الجيش الشعبي ، إذ ان الازمة الحقيية لهذا الجيش أنه جيش غير نظامي البتة ، حيث لم يتأسس على غرار الجيوش المنظمة المنضبطة المحكومة بلوائح عسكرية ،و غالب افراده لم يتلقوا التدريبات العسكرية المعروفة ، فقد كان اقصي ما يتلقاه الفرد المقاتل الذي يتلحق به هو معرفة كيفية استخدام البندقية سريعة الطلقات، و يقول خبير عسكري سوداني ان ما يجاوز ال90% من الجيش الشعبي تم اجبارهم فى زمن الحرب وإلحاقهم بمعسكرات تدريب سريعة لا تستغرق شهراً واحداً يتم فيها التركيز على تعليم المقاتل كيفية استخدام السلام وإعطائه جرعة تعبوية ساخنة تجعله شديد الحنق فى مواجهة من يقاتلهم ،و لذلك حين انتهت الحرب فان غالب او كل هؤلاء المقاتلين ، و هم يحسبون بعشرات الآلاف وجدوا أنفسهم بلا عمل ولا دخل ،و يشعر بعضهم ان الذين يتولون قيادتهم قد تخلّوا عنه و انشغلوا بقضاياهم الخاصة ومن ثم راجت عمليات بيع السلاح و تهريبه ، و انتشر وسط المواطنين ، بل ان أفراد الجيش الشعبي كما يقول أحد السلاطين فى مدينة راجا ببحر الغزال يبيعون السلاح ثم يعودون لنزعه ممن باعوه لهم فيقع الصدام ،و يقول السلطان انهم رصدوا حوالي مائتين و عشرين حالة صدام جرت من افراد من الجيش الشعبي بسبب هذا السلوك و خلفت وراءها قتلي و جرحي . و فى مدينة جوبا يقول احد موظفي احدي المنظمات الاجنبية الطوعية ان افراد الجيش الشعبي يقومون بأعمال أمنية ليست من اختصاصاتهم و لم يُدرَبوا عليها ،و يستخدمون السلاح الناري فى اقل الحالات خطورة ،و لهذا فقد خلقوا مواقفاً مضادة لهم من قبل القبائل و الافراد العاديين ،و يضيف الموظف ، إن منظماتهم نفسها كثيراً ما تعرضت لعميات نهب و اختطاف من قبل افراد الجيش الشعبي و لا يجدوا من يشتكون اليه . و ما من شك ان هذا الجيش الشعبي بحالته الراهنة و انتشاره الواسع فى الاقليم و العامل القبلي الذى اصبح يؤثر فيه اصبح مشكلة خطيرة للغاية للجنوب السوداني ، فسواء اختارالجنوب الوحدة او المضي باتجاه الانفصال فان الجيش الشعبي سيظل قضية مهددة للأمن لأنه حتى الآن لم تجر عملية لتسريحه او اعادة صياغته و التخلص من عشرات الآلاف الذين لا ينبطق عليهم وصف الجنود النظاميين ،و هؤلاء عادة ما لا ينصاعون لأي تعليمات تصدر اليهم ،و بعضهم يخوِّف القادة انفهسم و يهددونهم ،و البعض يستنصر بقبيلته اذا تعرض لأي إجراء . و تبدو القضية أخطر اذا علمنا ان نسبة كبيرة من الجيش الشعبي لم تنسحب جنوب حدود 1956 وفقاً لما هو مقرر فى بند الترتيبات الامنية باتفاقية السلام الشامل الموقعة فى نيفاشا 2005 ، فيا تري كيف ستحل قضية هذا الجيش ، المهدد الأمني الأكبر لجنوب السودان و الازمة المعقدة المؤجلة ؟