العبث الأمني الخطير الذي يعبثه الجيش الشعبي هذه الأيام في مناطق أبيي تمهيداً لخلق مواجهة مع قبائل المسيرية يمكن اعتباره عملاً (غير مسؤول) بكل ما تعنيه الكلمة، ولعل الأمر الأكثر اثارة للاستغراب أن الجيش الشعبي لم يعترف بمواجهة لقبائل المسيرية فحسب، ولكنه – وامعاناً منه في المكايدة وعدم المسؤولية – أرسل تحذيرات شديدة اللهجة بأنه سوف يشن حرباً لا هوادة فيها اذا تعرض لأي عمل من جانب قبائل المسيرية. نحن هنا حتى لا يساء فهم ما تقوله – لا ندافع بحال من الأحوال عن قبائل المسيرية ولا نوجه جام غضبنا واتهاماتنا نحو الجيش الشعبي، ولكننا نضع الأصبع على موطن الداء، فالجيش الشعبي – عملياً الآن – هو المسؤول الأول عن الأمن في جنوب السودان اذ ان الأمر المؤسف ومؤلم في آن واحد – أن حكومة جنوب السودان رغم ما توفر لها من أموال طوال ما يجاوز الأربعة أعوام وكان متاحاً أمامها الاستفادة من خبرات محلية واقليمية وأجنبية الا أنها لم تنشئ أجهزة أمنية محترفة ومهنية (شرطة وأمن)، وأوكلت بكل بساطة مهمة حفظ الأمن للجيش الشعبي، ولسوء الحظ، فإن الجيش الشعبي نفسه ليس جيشاً بالمفهوم الفني المجرد للجيش أي ليس جيشاً نظامياً منضبطاً يحتكم الى قواعد الانضباط العسكرية المعروفة، فهو عبارة عن مجموعة مقاتلين بعضهم تلقى تدريبات عسكرية، وبعضهم دخل الميدان أيام الحرب بالمصادفة وقاتل كيفما اتفق دون أن يمر بالقنوات التدريبية المتعارف عليها. هذا الوضع أوجد جيشاً – عدده ضخم يفوق المائة الف – وفي يده سلاح بأنواع مختلفة، ولم تستطع حكومة الجنوب تغطية نفقاته ومرتباته وهذا جعله جيش يمارس تجارة السلاح، ويقوم بعض أفراده (بحل مشاكلهم المالية عن طريق التجارة في السلاح، وهذا بدوره قاد إلى انتشار السلاح بين القبائل الجنوبية، ومن ثم نشبت الصراعات القبلية الدامية التي لا يعرف كيف سيتم حلها وهي تهدد الأمن القومي الجنوبي والأمن القومي السوداني كله. بهذه الخلفية (السوداء الداكنة) فإن الجيش الشعبي وفي منطقة (بالغة الحساسية)، وهي مثار نزاع بين الشمال والجنوب تم الفصل فيه بقرار هيئة التحكيم الدولية في لاهاي ومن المنتظر ترجمة القرار على أرض الواقع ثم تطبيق قانون المشورة الشعبية عقب الاستفتاء على تقرير المصير في الع2011ام، يؤجج صراعاً ليس هذا وقته ولا من المفروض إثارته فالمسيرية ومهما كان موقفهم أو شعورهم بالغبن فهم مواطنون في المنطقة ووجودهم هناك هو عنوان للانصهار القبلي والوحدة الوطنية، واذا ما أمعن الجيش الشعبي في تهديد هذا الانصهار وجعل منه موقعة حربية فهو يقوض العملية السلمية بعد ما قوض الأمن والاستقرار في الجنوب، ولعل من سخريات القدر ومضحكاته أن الجيش الشعبي الذي أعيته الحيلة حيال جيش الرب القليل العدد، والذي يستحق هو الحرب والطرد، يستأسد الآن على المسيرية!!