قطر دولة حديثة العهد على الساحة العالمية، مثلها مثل كثير من الدول، وبالتحديد الخليجية، الافريقية، دول أمريكيا اللاتينية وأوروبا الشرقية، لم يكن اسمها يذكر على خارطة العلاقات الدولية، بل حين نشأت معظم المنظمات العالمية، لم يكن مفهوم الدولة والشعب القطري سوى مجرد خيال بعيد يراود قلة من شيوخ القبائل المنتشرة على أرضها القاحلة. هذا الخيال تحول تدريجياً لفكره واقعية بتواز مع صياغة بعض شيوخ القبائل الاخرى المنتشرة على امتداد شبه الجزيرة العربية، لفكره تكوين كيانات سياسية جديدة وشعوب متماسكة وقادرة على مجاراة العصر وتجاوز مخلفات الماضي. وقد تبلورت هذه الفكره بشكل مواز لنشأة بعض من الدول المكونة لمجموعة الدول النامية ودول عدم الانحياز، التي تشكل قطر حالياً جزءاً منها. مثلها مثل كثير من الدول الحديثة العهد، ظهرت دولة قطر لتلبية إرادة جماعية تجسدت ذاتياً من خلال بيان الاستقلال عام 1971. رغم كل ما يشاع عن تدخل الدول الاستعمارية في تكوين بنيانها، بالتحديد بريطانيا، فان ذلك لم يكن يختلف عن تدخل هذه في مجرى الأمور، بدول ومناطق عدة من العالم. لم يكن امام هذه بديل آخر وأفضل. الآن، كون قطر مخلوقا سياسيا حديثا، لا يزيد أو ينقص من حقها في ممارسة دور فعال على مختلف المستويات، خاصة إن سنحت لها الفرصة وامتلكت الإرادة والإمكانيات اللازمة. بمعنى آخر، يحق لدولة قطر ما يحق لغيرها من الدول العريقة تاريخياً فى ممارسة العمل السياسي، الاقتصادي، الثقافي، الإعلامي والاجتماعي، التي تعتقده مناسباً والقادرةً على إنجازه بشكل يتناسب مع المصالح المحلية والإقليمية، مع القيم والمبادئ العربية- الإسلامية، مع الأعراف الدولية ومع رغبة الجماهير التي تنظر لها على انها بصيص من الأمل. ان وفت بكل هذا، لا يصح أن تُساوم أو أن تُمنع من فعل أي شيء يُعتقد بأنها مؤهلة له، بذريعة قصر عمرها وحجمها. في العادة خلف كل مقولة تتستر مواقف مبطنة. هنالك دول أصغر حجماً وأقل مقدرة منها ولا أحد يشكك في حقها أو قدراتها على الفعل والقول. بالتالي، قطر متساوية في هذا الحق مع مختلف الدول، وهو حق مصان في كافة الاتفاقيات والمواثيق الدولية والإقليمية. الغريب عندما تقوم هي تحديداً بذلك تُبرم كثير من الأقلام واللسن لقول العكس والنقص من حقها فى هذا الشأن، بل وأحياناً تستخدم تعابير تتجاوز حدود العقل والمنطق، مثل ذلك أمر غير ملائم في محيط مفتوح يتساوى فيه الكبير والصغير. خلال مرحلة تأسيس وبناء الدولة الحديثة لم تكن قطر، شعباً ودولة، قادرة على التعاطي مع معظم المجريات الدولية والإقليمية. مثل ذلك أمر أكثر من بديهي، فالمقدرات كانت محدودة والكوادر البشرية كانت شبه معدومة. خلال تلك الفترة كان حضورها شبه ظاهر، حتى حينه، لم يكن هنالك مؤتمر إلا وقيادتها جالسة، تسمع وتراقب أكثر مما تتحدث وتعبر. مثل هذا الوجود كان مطموسا بحكم كبر حجم الأحداث ووجود شخصيات مهيمنة على كافة الساحات، مثل فيصل، السادات، صدام، الأسد، حسين، عرفات، بومدين، حسن الثاني. شخصيات تتزعم دولا وشعوبا تصعب منافستها بسهولة. مثل ذلك جعل من قطر دولة غير قادرة على لعب دور في معظم الأحداث التي كانت تعصف بالمنطقة، خاصة تلك المتعلقة بالصراع العربي- الإسرائيلي والنزاعات العربية- العربية. الاختلاف الجذري حدث بعض حقبة التسعينات، وهو اختلاف مرتبط بثلاثة عناصر متداخلة ضمنياً. العنصر الأول هو تبلور نخبة وطنية مثقفة وذات كفاءات عالية. نخبة تقدمية واثقة من نفسها، من واجبها، من حقها ومن الامكانيات المتاحة. أحد أهم أفرازات ظهور هذه النخبه هو ازاحة الجيل ذي الرؤية القديمة، الذي كان يرمز له جيل الشيخ خليفة بن حمد، وحل مكانه جيل جديد راغب في إعطاء دفعة جديدة للدولة الحديثة. على رأس هذا الجيل تربع الثنائي المشكل من الشيخ حمد بن خليفة، صاحب الشخصية الودودة والعقلية المتزنة، والشيخ حمد بن جاسم، صاحب الشخصية المندفعة والمواقف الصارمة. بدون أن يغفل كذلك دور حرم الرجل الأول، الشيخة موزة، صاحبة النظرة الوسطية التي تتماشى مع العصر ولا تختلف مع التقاليد والمعتقدات الخاصة والعامة. بغض النظر عن الانتقادات الحادة التي وجهت للرجلين، ما لا يمكن إنكاره هو أن كل واحد منهما سعى قدر المستطاع الى الوفاء بالمهام الواقعة على عاتقه. الاختلافات الحادة برزت في الجانب المتعلق بالشأن الخارجي. ومثل ذلك أمر أكثر من طبيعي، خاصة أن هنالك من كان يعتقد بأن مقدرات العمل القطري الخارجي محدودة، أو هكذا يجب أن تكون، تحت ذريعة حجمها وقلة سكانها. مثل ذلك الحكم المسبق يهدف إلى منع قطر من فتح آفاق جديدة، حالها حال أي دولة أخرى فى العالم. عدم التقييد بمثل ذلك سمح لها بالمساهمة فعلياً في تقريب وجهات النظر بين جهات محلية متنازعة، كما حدث مع السودان، أفغانستان، لبنان وفلسطين. ذلك لم يكن بالأمر الهين، لكن على كل الأحوال كل ما يهم من عانى ويعاني من وطأة مثل تلك النزاعات هي نتائج الأفعال. العنصر الثاني هو امتلاك قطر مقدرات مالية تسمح لها التحرك بنوع من الحرية. ما كانت ومازالت تعجز قطر الوفاء به سياسياً تحاول تعويضه مادياً. مثل ذلك ليس عملاً حصرياً عليها، فمعظم الدولة القادرة تنتهج نفس السياسة، بل أحياناً بتبجح وتعسف. القضية هو أن قطر انتهجت هذا النهج انطلاقاً من شعور وطني، قومي وديني، أو هكذا يبدو وحسبما تصرح به. هنا يصعب تفنيد أو رفض مثل ذلك بسهولة، خاصة ان لم يكن هنالك ما يثبت عكس ذلك. مثل هذا السلوك حق وواجب رغم ما يعتقده الغير بأنه تجاوز لحدود الواقع والمنطق. أي مواطن يواجة أزمة خانقة، مثل التي يعاني منها الفلسطيني والسوري، يثمن كل مساعدة سياسية واقتصادية، قادمة من قطر أو من أي دولة أخرى. أمثال هؤلاء ينظرون للمساعدة بحد ذاتها بغض النظر عن مانحها وعن الاجندات والحسابات الظاهرة والمخفية. المؤكد هو أن هؤلاء، رغم قيمة المساعدة وكبر حجم المأساة، ألا أنهم قادرون على صيانة مصالحهم والدفاع عن سيادة قراراتهم. والحق يقال، غالبية المشاكل الداخلية التى تعاني منها كثير من دول المنطقة هي مشاكل سابقة على وجود دولة قطر على الخريطة السياسية، لذلك يصعب تحميلها مسؤولية كل ما قد اتلفه الدهر وما لم تتمكن الزعامات الوطنية من إصلاحه. العنصر الثالث متعلق بوجود فراغ على مستوي القيادة والوعي العربي. وقطر، بحكم امتلاكها الرؤية الخاصة، الرغبة الطموحة والمال الكافي تقدمت لاملاء جزء من هذا الفراغ. في الوقت نفسه حاولت التعبير عما يدور في الوجدان العربي من احباط على كافة المستويات. وقد عبرت عن ذلك من خلال تسخير جزء من الإمكانيات المادية في وسائل الإعلام غير التقليدية. نقصد هنا أولاً تشكيل قناة الجزيرة وما رافق ذلك من قفزة نوعية في الفكر والوعي العام. ثانياً من خلال توزيع القروض والمنح الميسرة على الدول المحتاجة، وثالثاً من خلال التوسط في النزاعات المحلية بهدف ترسيخ الحلول السلمية. رغم أنها لم تكن الدولة السباقة يمكن القول انها تقدمت في هذا المسار انطلاقاً مما يمليه الواجب. دول أخرى فعلت مثل ذلك، لكن لم يوجه لها كم هائل من التجريج، الاتهامات والانتقادات. من أجل ملء الفراغ، تحييد الاحباط وتوعية الإنسان العربي، كل ما تحتاجه أي دولة، كانت هذه قطر أو غيرها، هو امتلاك الإرادة الثابتة، الرغبة في تجسيد الواقع، السخاء في العطاء والايمان بواجب القيام بشيء ما لاحداث قفزه نحو الامام. والجميع على دراية بأن ما يصبو إليه الإنسان العربي منذ زمن هو شيء من الثقة، المساعدة، الراحة والأمل، لينهض بنفسه من جديد. ونوعاً ما قناة الجزيرة مدته بشيء من ذلك. وهذا ما دفعه وغيره في الداخل والخارج أن يضع نصب عينيه كل سلوك تنتهجه هذه الدولة والقناة المرعية. أكبر دليل على ذلك هو أن الغالبية العظمى هجرت القنوات الوطنية المملة وبدأت تتابع عن كثب القناة الجديدة، بحكم كونها تجلي الصدور وتكشف المستور. وقد اتبعت في ذلك طريق التوعية والتنوير، لتتجاوز الأسوار وتفكك المربعات الفكرية المغلقة والمظلمة. في العادة المراهنة، الرغبة والعمل على هذا الأساس يولد كثيرا من الحساسيات وسوء الفهم. المصدر: القدس العربي 17/3/2014م