استوقفت المراقبين للعملية الانتخابية الجارية الآن في السودان المواقف الأمريكية الداعمة لقيام الانتخابات في مواعيدها، وسلامة إجراءاتها وحيدتها ونزاهتها، بالمخالفة تماماً لمزاعم القوى السودانية المعارضة جميعها بما في ذلك الحركة الشعبية، اكبر القوي المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بواشنطن . وانعكس الأمر بشكل مثير للغاية، حيث صب قادة القوى المعارضة جام غضبهم على واشنطن، ووصفوا موفدها الخاص (سكوت غرايشن) بأوصاف عديدة أبرزها ما قاله السيد الصادق المهدي من انه (ساذج) ويعزو البعض الموقف الأمريكي إلى حرص واشنطن على قيام الاستفتاء المقرر بشأن جنوب السودان في مواعيده حرصاً من واشنطن – كما يزعم البعض – على فصل الإقليم!! لقد تردد هذا التحليل طويلاً طوال الأسابيع المنصرمة واعتبره البعض هو التفسير الحقيقي الوحيد لدعم واشنطن للعملية الانتخابية على الرغم من مطاعن ومآخذ القوى القربية منها على العملية. غير أن الأمر في الواقع غير ذلك تماماً، فكما قال مستشار الرئيس السوداني القريب أو الممسك حقاً بملف واشنطنوالخرطوم والذي يتمتع بقدر من سعة الأفق والتحليل العميق الدكتور غازي صلاح الدين أن موقف واشنطن يصنف ضمن ما أسماه (المواقف العارضة) بمعني أنه ليس موقفاً في إطار إصلاح علاقات البلدين حيث لا تزال هناك قضايا ثنائية عالقة ولا يزال السودان في نظر واشنطن دولة داعمة للإرهاب ولا تزال العقوبات الاقتصادية سارية على الخرطوم. وما من شك أن ما أشار إليه د. غازي صحيح، وهو بالضبط ما يفسر طبيعة موقف واشنطن من الخرطوم فقد أدركت واشنطن – بأدلة ملموسة واضحة – أن السودان اتخذ كافة الإجراءات المعقولة المتعارف عليها دولياً لإقامة هذه الانتخابات وراجعت واشنطن – بدقة متناهية – هذه الإجراءات وخلصت إلى سلامتها. كما أن واشنطن بالطبع ليست (جاهلة) بطبيعة القوى السياسية السودانية قوة وضعفاً، وحجماً ووزناً فهي عكفت على قراءة خارطة الأحزاب والقوى السياسية وعرفت الأوزان، وميول الناخبين وقدرات هذه القوى السياسية والأكثر سوءاً عرفت استحالة توافق القوى المعارضة هذه على حد ادني يجمع بيها يضمن إمكانية إدارتها لبلد كالسودان بسلاسة ودون تعقيدات ومشاكل. ولم تجد سوى المؤتمر الوطني كلاعب محترف جاد، قادر على إدارة الشأن العام بقدر من المرونة والذكاء. وفي العادة فان واشنطن لا تبحث عن فوضي وعدم استقرار في السودان، كما انها تعلم أن المؤتمر الوطني يتحلي بمرونة جيدة وقادر على إجراء موازنات، واستطاع أن يحافظ على اتفاقية سلام صعبة ومعقدة ويصل بها إلى هذه المحطة الهامة. لقد كان من الطبيعي – إزاء ذلك – أن تقر واشنطن بالحقيقة وان تدعم الواقع لان السياسة هي التعامل مع الواقع وليس التهويم في الخيال، كما أن الزعم بان واشنطن تسعي لفصل الجنوب، ربما كان صحيحاً نظرياً ولكنها في الوقت نفسه حريصة على إنقاذ اتفاق نيفاشا 2005م بأقصى درجات الحيطة والحذر ولهذا فانه من الناحية العملية فهي لا تملك (ضمانات) لفصل الإقليم، كما لا تملك ضمانات لأن يكون الإقليم بعد انفصاله مستقراً وهذا ما يجعلنا نتصور أن واشنطن تحرص على وصول القطار الى محطته سليماً بصرف النظر عن ما يحمله لها من بضائع!!