أُقحِمَت المساجد في أتون التجاذبات والصراعات السياسية، التي شهدتها مصر خلال السنوات الماضية، في ظاهرة خطيرة باتت تمثّل تهديداً للمجالين الديني والسياسي معاً. ففي أعقاب ثورة 25 يناير 2011، اندلع استقطاب حاد بين الإسلاميين والعلمانيين في مصر، على خلفية استفتاء 19 مارس الشهير، انتقل من المجال السياسي إلى المجال الديني، حينما قامت بعض أحزاب التيار الإسلامي بتحويل المنابر والمساجد إلى أداة للحشد والتجنيد السياسي، عبر دعوة الناس إلى سلوك اتجاه تصويتي بعينه باعتباره «واجباً شرعياً»، مع التعريض الذي يصل إلى حد الطعن في الاتجاه التصويتي الآخر باعتباره مخالفاً للدين، وفي مرحلة لاحقة تعرّضت بعض المساجد لظاهرة «التحزيب»، عندما استخدمتها بعض الأحزاب الإسلامية أداة للدعاية الحزبية من أجل الترويج لمرشحيها في الانتخابات البرلمانية. وفي الاتجاه المضاد وبشكل أشد، حضرت المساجد في الأزمة السياسية الجارية بين السلطة الحاكمة في مصر وجماعة الإخوان المسلمين وحلفائها، على خلفية إطاحة الجيش بالرئيس المعزول محمد مرسي في الثالث من يوليو 1913. منذ ذلك الحين اتخذت الحكومة المصرية ممثلة في وزارة الأوقاف، العديد من الخطوات الاستئصالية الخشنة التي تهدف إلى إحكام قبضة الدولة على المساجد والمنابر، و»تأميم» الخطاب الديني وإخضاعه لهيمنة السلطة، وإبعاد الدعاة والخطباء المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها عن ممارسة الخطابة واعتلاء المنابر، وتأتي هذه الاجراءات ضمن إطار أوسع يضمن إحكام الدولة لقبضتها على المجال العام بكل أجزائه بشكل كلي. كانت البداية بقرار وزير الأوقاف في أغسطس 2013، بمنع إقامة صلاة الجمعة في الزوايا والمساجد الصغيرة، ثم جاء القرار 64 لوزير الأوقاف، في مارس2014 بضم جميع المساجد والزوايا إلى الوزارة. وفي يونيو 2014 أصدر الرئيس المؤقت عدلي منصور القانون 51 الخاص بتنظيم الخطابة والدروس الدينية في المساجد، الذي قصر ممارسة العمل بالدعوة على خريجي الأزهر ومراحله التعليمية، والمعاهد التابعة للأوقاف، ومنع سواهم من ممارسة الخطابة، كما منح مفتشي الأوقاف سلطة مأمور الضبط القضائي في تنفيذ العقوبات التي نص عليها، التي تصل إلى حد الحبس والغرامة، وهي خطوة بالغة الخشونة تتجاوز مرحلة «التأميم « إلى مرحلة «أمننة» المساجد. وقد سمح هذا القانون لوزارة الأوقاف باستبعاد نحو 12 ألفاً من الدعاة والخطباء من العمل بالدعوة واعتلاء المنابر. كما جرى توحيد مضمون خطبة الجمعة ،عندما منحت وزارة الأوقاف لنفسها الحق في تحديد موضوع الجمعة وأفكارها الرئيسية في كل بقاع مصر، عبر صدور ميثاق الشرف الدعوي الصادر في يونيو 2014، الذي نص على عدم جواز استغلال المساجد من أجل تحقيق منافع سياسية أو حزبية أو انتخابية. وامتدت تلك الإجراءات إلى كيانات أخرى اتخذت موقفاً محايداً، ونأت بنفسها عن الخوض في الأزمة الطاحنة بين السلطة وجماعة الإخوان المسلمين مثل «الجمعية الشرعية»، التي قررت وزارة الأوقاف مؤخراً ضم مساجدها وإخضاعها لسيطرتها، وتعيين خطباء تابعين للوزارة بها، وحتى «الدعوة السلفية» لم تسلم من قرارات منع الخطابة، رغم أن ذراعها السياسي «حزب النور» كان شريكاً أساسياً في ترتيبات ما بعد 3 يوليو. ما يدل على أن الأمر يتجاوز دعوى محاربة التطرف والقضاء على التوظيف السياسي للمنابر والمساجد، إلى القيام بعملية «تأميم» خشنة وواسعة النطاق للمجال الديني بشكل عام، وإخضاعه لهيمنة الدولة بشكل كامل. وقد تحقق السلطة بعض أهدافها على المدى القريب، من تلك الحملة العاتية التي تنتهجها من أجل «تأميم» المساجد، إلا أنه وعلى المتوسط والطويل، ستكون لها آثار خطيرة وعواقب وخيمة. ففي البداية يتعين القول بأن احتكار الدولة للخطاب الديني وتوجيهه في اتجاه آحادي، يتنافى بالأساس مع تعدد المدارس الفقهية، وطبيعة العلوم الشرعية القابلة للأخذ والرد، طبقاً لاختلاف تأويل النصوص الدينية. كما أن عملية «تأميم» المساجد تعني توريطاً صريحاً للمؤسسة الدينية الرسمية، من قِبَل السلطة الحاكمة في الصراع السياسي الجاري، بهدف إسباغ الشرعية الدينية على مسلكها السياسي تجاه خصومها، ودفعاً للقول الذي يردده بعض معارضيها بأنها حملة تجاه الدين، إلا أن الزّج بالمؤسسة الدينية الرسمية على هذا النحو، يجعلها طرفاً في الأزمة، وسيؤدي لاحقاً إلى إسقاط هيبتها في أعين العامة، حيث سيبدو خطابها وكأنه يردد رغبات السلطة، ويقول ما يرضيها، وهذا يعني ضرباً لمصداقيتها في الصميم. وهو ما سيدفع الناس إلى الإعراض عن خطابها، والبحث عن خطاب ديني بديل، يتمتع بقدر من المصداقية، ويكون على مسافة ما من السلطة، ما سيفسح المجال لظهور خطاب آخر، بعيد عن الأطر التقليدية، سيكون غالباً على قدر من التشدّد والانغلاق، لأن التطرّف لا ينمو ولا ينتعش إلا في ظل مناخ قمعي إقصائي كالمناخ الحالي. ففي الماضي القريب وعقب قيام الضباط الأحرار بانقلابهم في 23 يوليو 1952، وانطلاقاً من مبدأ معاداة النظام الجديد، لوجود أي كيان سياسي أو اجتماعي يحظى بقدر من الاستقلالية عن الدولة، وعلى خلفية صدامه المدوي مع جماعة الإخوان المسلمين أيضاً. قام النظام ب»تأميم» الأزهر الشريف على عدة مراحل، بدأت بضرب استقلاله المالي، عندما وضعت الدولة يدها على أوقافه، ثم إلغاء نظام الوقف الأهلي بالكلية، ثم إلغاء نظام المحاكم الشرعية عام 1955، ثم كانت الخطوة الأخيرة بصدور القانون سيئ الذِكر والصيت 103 لسنة 1961 المعروف بقانون «تطوير» الأزهر، الذي كان بمثابة الضربة القاضية لما كان يتمتع به الأزهر من استقلال مالي وإداري عن الدولة، ومازال يعاني الأزهر من آثاره الكارثية حتى الآن.. فماذا كانت النتيجة وماذا كانت العواقب؟ ولكن يبدو أننا لا نقرأ تجارب الماضي، ولا نتعلم من دروسها، ونعيد إنتاج الأخطاء نفسها، وبصورة أسوأ من ذي قبل. فإن كان «تحزيب» المساجد خطأً فادحاً، فإن «تأميم» الفضاء الديني خطيئة كبرى، كما أن اتباع النهج الأمني مع المساجد، وإرهاب الدعاة والأئمة، وتجريم مجرّد الحديث في الشأن العام على المنابر، ومصادرة الدولة للخطاب الديني وتوظيفه سياسياً ليكون بوقاً للسلطة لتسويغ توجهاتها، أفضل وقود لنشر التطرّف، فضلاً عن الحملة الإقصائية الاستئصالية الممنهجة التي تمارسها السلطة تجاه تيار بعينه. وتكمن المشكلة بالأساس، في طريقة التعامل مع هذه الأزمة، فقد بات واضحاً لكل ذي عين تُبصر أن تعاطي السلطة الحاكمة بمصر مع مختلف الأزمات ينحصر في الحلول الأمنية، كما أن صناعة القرار السياسي باتت أسيرة للمنهج الأمني وللرؤية الأمنية في حين تغيب عنها تماماً أي رؤية سياسية، في وقت باتت فيه المؤسسة الأمنية هي نقطة الارتكاز، ومركز الثقل في بنية النظام الجديد بمصر. ٭ كاتب مصري المصدر: القدس العربي 4/11/2014م