أنباء فشل الاجتماعات الأخيرة لمنظمة دول حوض النيل المعروفة باسم "المبادرة" في شرم الشيخ في منتصف أبريل 2010 بين تسع من دول حوض النيل، أحدثت ردود فعل شبه عصبية في العاصمة المصرية. وبدا تصرف سبع من دول الحوض التسع الحاضرة مثيراً بالفعل نتيجة تمسكها بإعلان الشروع في توقيع اتفاقية تنظيم الموارد المائية للنهر خلال شهر من الآن ولمدة عام فقط مهما كان موقف الدولتين المتحفظتين وهما مصر والسودان. ويمكن اعتبار ذلك مباشرة تهديداً لهاتين الدولتين الأخيرتين، اللتين هما دول مصب بأن مصادرهما المائية ستصير عرضة للتهديد المباشر بأية مشاريع تقيمها الدول السبع الأخرى على منابع النيل وبينها دولة مثل إثيوبيا يأتي منها حوالي 85 في المئة من مياه نهر النيل إلى مصر والسودان. اندهش الكثيرون من هذا المسلك الحاد لدول جوار في حوض النيل، وبدأ آخرون عارفين بهذه النتيجة، منذ أعلن هؤلاء التحدي في اجتماعات سابقة في كنشاسا والإسكندرية خلال الشهور الست الأخيرة. وراح هؤلاء وهؤلاء يبحثون عن أسباب تقليدية حول طبيعة النظم في هذه الدول التي لم تعد ودودة، بل قد تكون فاسدة، مما سهل- في رأى كثيرين- القول إن الأصابع الإسرائيلية تستطيع النفاذ بسهولة في تلك البيئة. هذا ما لم يلمح البعض- للمرة المائة- إلى زيارة "ليبرمان" الوزير الإسرائيلي العدواني الذي دفع ببعض الإغراءات إلى مسؤولي هذه الدول أو لوح بالمساعدات العملية الممكنة من قبل إسرائيل. ورغم محاولة التعامل مع الحدث بهدوء نسبي من قبل بعض المسؤولين المصريين، إن الأمر لم يخل من صيغ أقرب إلى "التهديد" الذي لوح به البعض الآخر، إذا فشلت الجهود الودية والمفاوضات "طويلة الأجل" التي مازال حبلها ممتداً! هذا ما لم يلمح طرف ثالث بأنه ممكن الإغراء ببعض المشروعات والخدمات لترضية نفوس الغاضبين. وبالطبع لابد أن نتخيل مصدر عصبية الجانب المصري إزاء هذا الفشل في وقف التدهور في مفاوضات مياه النيل مع تصاعد نغمة فشل سياسة مصر مؤخراً في أفريقيا. وزاد الطين بلة خلال الأسبوع نفسه أخبار التدهور في علاقة شمال السودان بجنوبه، والتلويح الظاهر بإمكان انفصال الجنوب في يناير القادم، مما سيجعل الدول السبع الواقعة في حوض النيل ثماني ويدفع يد الدولة الجديدة إلى عنق مصر المائي، مع دولة إسلاموية في الخرطوم، مما لن ييسر عمل "الثنائي التقليدي" في منظومة حوض النيل التي تجعل هيئة مياه النيل بين مصر والسودان منذ 1959 قوة تفاوض ذات شأن مناسبة في حوض النيل. والسؤال الذي يلح على أي متابع الآن، يتجه إلى أسباب الصعوبة أمام دول حوض النيل بالذات لإنشاء منظومة إقليمية لتنسيق المصالح المائية والتنموية فيما بينها على نحو النمط القائم في أحواض كثيرة بينها في أفريقيا، نهر السنغال، ونهر النيجر، ونهر الكونغو، بل إن أنهاراً أخرى رأينا توتراً بين الدول المتشاطئة عليها، دون أن يصل إلى هذا الحد، سواء في المشرق العربي نفسه، أو في أوروبا وأميركا اللاتينية؟ في حالة نهر النيل، لا يبدو أن ثمة تحليلًا مقبولًا بسهولة، إلا تأمل مقولة "قوة الدولة الإقليمية" في نظام عالمي يتطور من الحركات القومية القارية والإقليمية، إلى نظام عولمي يعتمد على التفتيت أو المنظمات الإقليمية الموالية مباشرة. وإن قوة الدولة الإقليمية تكاد تبقى هي العنصر الفاعل في معظم هذه الحالات. وفي هذا الصدد، ظلت مصر مع السودان، كتلة إقليمية قوية لا تستطيع دول حتى لو كانت بحجم أثيوبيا، ناهيك أن تكون مثل رواندا أو بوروندي، أن تتصدى لمصالح القاهرة الاستراتيجية، أو مصر والسودان بهذه الطريقة المثيرة للسخرية التي ظهرت في اجتماعات شرم الشيخ! أما القول بأن إسرائيل وراء ذلك كله على نحو ما ذهب البعض وما يزال، فإنني أحب أن أكرر أن إسرائيل ليست دولة الاستثمارات الكبيرة التي تغري بها، وإنها لا تملك إلا بعض المساعدات الفنية واللوبي النشط عند من يمتلكون زمام الأمور على الصعيد المالي الدولي، ولهذا حديث يجب أن يدرس بعناية، والكل بات يعلم حجم تحكم البنك الدولي في كثير من مشروعات المنطقة، فضلاً عن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من جهة أخرى، أما ما بدا أكثر نشاطاً الآن، فهي اليابان والصين بل وتركيا، وكلها ذات مال وخبرات ومطامح. وكم أود أن أبعد عن التفكير التآمري وراء نشاط كل هؤلاء، فرأس المال العالمي يبحث عن منافذه بمختلف الأساليب، وبالتحالفات والإغراءات والمنافسات مما نتوقعه من أسماء المانحين، تكفي أرقام ثلاثة مليارات دولار ونيف مجمل عمليات البنك الدولي آخر أجزائها قبل اجتماع شرم الشيخ بأسبوع واحد، واتفاق ياباني بحوالي ستين مليون دولار مع أثيوبيا في الفترة ذاتها، ومن يقلب صفحات الإنترنت يجد المليارات هنا وهنالك، ليعرف أنها فقط المليارات العربية التي لا تعرف هذا الطريق. القوة الإقليمية أصبحت تُشكل مصالح، وتوقف مخاطر مثل الحال في حوض النيل، ولقد كانت إسرائيل وراء توتر مبكر بين مصر ودول الحوض منذ الستينيات، لكن رقبة أثيوبيا كانت تربطها حبال الصومال وإريتريا الممتدة في قبضة القاهرة، وكانت تنزانيا تريد تحييد ناصر إزاء نكروما، وأوغندا وبوروندي ورواندا مهددة بالانقسامات القبلية، حيث زعماء الجميع في القاهرة أيضاً، وخبراء الري المصري موجودون راسخون حول بحيرة فيكتوريا من موانزا إلى جنجا، والنفوذ على المياه الأثيوبية يغطيه عار وجود أكبر قاعدة أميركية في "كانيوسيتشن"، بينما الصومال وإريتريا في دفء العلاقة مع القاهرة بعيداً عن النفوذ السوفييتي أو الصيني الثوري، في هذا الجو لنفوذ مصر الإقليمي، بدأ طرح العمل المشترك مع "الأممالمتحدة"، وليس البنك الدولي، في مشروع ضم معظم دول الحوض للبحوث الهيدرومترولوجية حول مياه النيل ونظامها، وليس حول اتفاقيات مياه النيل- وجاءت السبعينيات لنفتقد التنسيق عند التفكير في قناة جونجلي، ولننسق مع الأميركان مقاومة "اليسار" في أثيوبيا، والتطرف الثوري في إريتريا، ونراعي كامب ديفيد في أى هجوم على النشاط الإسرائيلي المتزايد دبلوماسياً وسياحياً ودعائياً في كينيا وتنزانيا. وبعد ذلك لم يعجبنا النظام الديمقراطي لفترة و"الانقاذي" لفترة أخرى في السودان. هذا كله- بدوره أصاب الحضور المصري في أعز ما يملك وهو نجاح مشروع التنظيم الإقليمي لدول حوض النيل على أسس المصالح الإقليمية الحقيقية التي يكون للقوة الإقليمية حضورها القوي داخلها لضمان هذه المصالح. وحين تطورت "المبادرة" فيما بين 1998/1992 لتصبح صاحبة المشروعات الحاكمة بموعد غايته 2012، أصبحت في يد "البنك الدولي" أساساً وهو ليس المؤسسة- مهما حسنت النوايا- التي ترعى "المصالح الإقليمية" الحقيقية ناهيك عن الرؤى الوطنية للقوى الإقليمية. لذلك فإن الأمر يحتاج لدراسة العلاقة بين القوى المتنوعة في إقليم حوض النيل، في ائتلاف لا مفر منه بين مصر والسودان، ويسعى لدى المال العربي، وبدبلوماسية وعمل شعبي ممكن في مجمل هذه الدول مع مصر والسودان على السواء، لنصل إلى حالة من القرار الجامع ورغبة حقيقية في تنظم إقليمي يغذي مشروعاته بنفسه بدرجات أكبر تجعل المانحين الخارجيين في حاجة إلى التعاون وليسوا متحكمين فيه، متأملين في الوقت ذاته، فائدة المنافسات الدولية رغم قوة المركزية "العولمية"، لأنه عند منابع النيل الحيوية في أثيوبيا خاصة يصعب تصور حلف قريب بين الأميركيين والصينيين والاتحاد الأوروبي، الذين يمارسون النفوذ حالياً بهذا الترتيب تقريباً، وبقدرة على "التوازن" في المصالح، لا تستطيع إسرائيل نفسها إلا التسلل عن طريقه. المصدر: الاتحاد 20/4/2010