انقضت أيام الانتخابات في الساحة السودانية ، بكل ما شهدته من تفاصيل اجتذبت انتباه المراقبين ، وسط تغطية اعلامية خارجية للشأن السوداني ، غير مسبوقة وعلى مستوى مكثف . ويتيح التأمل الهادئ لهذا الحدث الفرصة لقراءة عدة معطيات في واقع العمل السياسي في السودان وحراكه المتجه نحو محاولة ارساء تجربة متوافق عليها للتحول الديمقراطي المنشود. نقول انه حقا قد أتيحت مجالات للتنافس السياسي لكسب ثقة الناخبين بقدر وافر نسبيا ، مقارنة مع المرات السابقة التي جرت فيها انتخابات خلال عهد حكم « الانقاذ الوطني» . ولكن صورة التنافس قد تشوهت نوعا ما ، حينما فشلت الحكومة التي يقودها حزب المؤتمر الوطني في اجتذاب الرموز السياسية الكبيرة ، لاكمال شوط المنافسة الانتخابية حتى نهايته ، فقد جرت الانتخابات في ظل انسحاب عدد من المرشحين المرموقين على مستوى التنافس لنيل ثقة الناخبين ، ونقصد بذلك انسحاب زعيم حزب الأمة الصادق المهدي ومحمد ابراهيم نقد زعيم الحزب الشيوعي وياسر عرمان القيادي في الحركة الشعبية .ان القراءة المتأنية لأسباب احجام هؤلاء المرشحين عن خوض غمار المنافسة الانتخابية تحمل عدة اشارات لها مغزاها ، فمن جانب أول ، فاننا نرى بأن هنالك كوادر داخل حزب المؤتمر الوطني قد عملت على عرقلة التوجه الذي أبدته قيادة الحزب بشأن الدخول في تنافس حر ونزيه مع أي حزب آخر يرغب في المشاركة حراك العملية الانتخابية ، وتلك الكوادر ، داخل « المؤتمر» لا ترغب في أن يكتمل مسار «التداول السلمي للسلطة» ، اذ انها قد واصلت ذات النهج المتشدد في التعامل مع القوى السياسية الأخرى ، فتعذر الايفاء بالشروط التي طالبت بها قوى معارضة رئيسية ، من اجل اتاحة الفرصة لها للمشاركة في حراك انتخابي لا تتحكم فيه ظروف « تقييد الحريات السياسية والاعلامية» ، وهي الظروف التي صحبت لفترة طويلة تجربة حكم « الانقاذ الوطني» . ومن جانب آخر ، فاننا نعتبر بأن واقع الاستقطاب السياسي المرتبط برغبة « الحركة الشعبية» وحلفاء دوليين لها في الوصول سريعا ، وبالشروط الخاصة بها ، الى محطة استفتاء تقرير المصير قد خلق معطيات غير ملائمة للمشاركة الحرة في العملية الانتخابية . ولقد اسهب العديد من المحللين في تأكيد أن ما أحاط بالاستحقاق الانتخابي من معطيات معلومة ، يرتبط ب «الطبيعة الثنائية» لاتفاقية السلام ( اتفاقية نيفاشا) ، المتضمنة لفترة انتقالية مدتها « 6» سنوات ، تتضمن العودة للشعب عبر انتخابات عامة هدفها تحديد « الأوزان الانتخابية» ، لمختلف القوى السياسية المنخرطة في الحراك السياسي. الى ذلك ، نرى بأن المشاهد السياسية التي تضمنها حراك هذه الانتخابات في السودان ، قد أثار التساؤلات عن مدى تمتع بعض القوى الحزبية التقليدية بما كانت تمتلكه بالأمس من نفوذ جماهيري مشهود ، ونشير هنا الى ان حالة من التردد قد طبعت مسلك تلك القوى لدى تشاورها من أجل اتخاذ قرار بشأن «المشاركة» في هذه الانتخابات أو مقاطعتها ، وهو تردد ربما يرتبط بمخاوف لدى تلك القوى الحزبية من احتمال اخفاقها في الظفر بما ترتجيه من نسبة عالية من التأييد وثقة الناخبين عبر صندوق الاقتراع . ووسط مجمل المشاهد السياسية التي اتاحتها « أيام الانتخابات الخمسة» ، فان هنالك عدة مؤشرات تتعلق بواقع العمل الوطني في السودان ، ترتسم في المشهد العام . وأول هذه المؤشرات ، هو ظهور احتياج قوي لعمل مكثف ومدروس من اجل اعادة بناء الأحزاب في السودان بشكل يتيح لها المزيد من الفاعلية - في اعلى درجاتها - في خيارات التغيير وتحولات السياسة من جهة ، ويجعلها معبرة عن نبض المواطن البسيط من جهة أخرى . وهنالك - ايضا - مؤشر آخر ، نقرأه في هذا السياق ، عبر قراءتنا لدلالات الانتخابات في السودان ،وهو البحث عن المسارات الحقيقة للتغيير المنشود في مفاهيم العمل السياسي وأهدافه. فمن المهم ، في المرحلة الراهنة أن يتأسس ويتبلور حوار وطني سوداني عميق ومخلص ، يتجه الى تحديد واستخلاص آليات وأساليب ترقية الأداء السياسي ، بشكل يقوم على المصداقية والعقلانية وسعة الأفق . لقد كشفت مشاهد « الحراك الانتخابي» كذلك ، بأن هنالك احساسا بالمسؤولية الوطنية ذا صبغة متميزة لدى المواطن السوداني البسيط ، فرغم أن هنالك أحزابا تعتبر أحزابا ذات ثقل تاريخي سياسي معروف قد قاطعت الانتخابات : كحزبي الأمة و «الشيوعي» مثلا ، الا أن نسبة المشاركة في التصويت في أوساط الناخبين قد جاءت في مستوى مرتفع نسبيا ، وهو ما يؤكد أن الناخب يتطلع لاقرار تجربة التحول الديمقراطي من خلال الخيار الانتخابي الحر والنزيه ، كأساس لتولي السلطة وللوصول الى مواقع صنع القرار في المنظومة السياسية. نقول في ذات المنحى ، ان حراك الاحتكام الى صناديق الاقتراع ، وبرغم مقاطعة عدة قوى سياسية للعملية الانتخابية ، يحمل ايجابية رئيسية تتمثل في تأكيد رفض أي خيار بعيد عن الديمقراطية ، ليصبح طريق الوصول الى السلطة هو طريق واحد : طريق الظفر بثقة الناخبين عبر ارادتهم الحرة في انتخابات حرة ونزيهة. اجمالا فاننا نعتبر بان حراك العمل السياسي في السودان ، سوف يستمد العديد من الدروس عبر المعطيات التي توافرت من خلال تجربة « الاستحقاق الانتخابي» ، في ظل وجود مراقبين اقليميين ودوليين ، سوف تنشر تباعا تقاريرهم عن مسار العملية الانتخابية في السودان بكل شفافية. وفي ظل الأسئلة السياسية الجديدة التي سينتجها واقع « ما بعد الانتخابات في السودان» ، نحسب بأن الساحة السياسية ستكتسب - في المحصلة الختامية - ثمرات مهمة على مستوى اختبار مؤشرات وارهاصات التغيير الذي يحلم به المواطن السوداني البسيط . في العمل السياسي ، تتواصل حلقات التجارب ، ومن المهم أن يعمد الساسة الى قراءات عميقة ومتأنية ، تتجدد بين الحين والآخر ، هدفها استكشاف السبيل الأمثل لخدمة المجتمع ، عبر الوسائل الديمقراطية المشروعة ، بالشكل الذي يحقق تراكمات متواصلة ، من حلقة زمنية الى أخرى ، تقود في نهاية المطاف الى صنع ملامح تجربة سياسية متفردة في الساحة السودانية ، تنفتح على أفق التجارب الانسانية كلها ، ذلك أن الجهد السياسي الصائب لابد له دائما من الاستناد الى رؤى فكرية سليمة ، تقوم على اختبار حقائق الواقع بجدية ومصداقية. المصدر: الوطن القطرية 19/4/2010