تتسم معطيات الواقع السياسي السوداني في المرحلة الراهنة بتعقيدات كثيرة، ففي الوقت الذي تخصص فيه العديد من القوى السياسية بالداخل اهتمامها الكبير لاستحقاق الانتخابات، ترتسم من جديد عدة تحديات تواجه واقع الاستقرار في الساحة السودانية، وهذه التحديات ترتبط بالمآلات المرتقبة للأوضاع في جنوب السودان ودارفور. ومما لاشك فيه أن نظرة العديد من المراقبين والمحللين الى ما يحدث الآن من حراك سياسي متعدد المحاور في السودان تستحضر بشكل أساسي أهمية حماية الساحة السياسية الداخلية من أية هزات محتملة، على خلفية النزاعات الظاهرة التي تظلل العلاقات بين عدة أطراف من فرقاء العمل السياسي في السودان. في الأيام القليلة الماضية، انشغلت الساحة السودانية بمحاولات التكهن بمآل العملية الانتخابية نفسها خاصة بعد أن لوحت بعض الأطراف السياسية بامكانية انسحابها من مسار العملية الانتخابية تحت ذرائع شتى معلنة، في مقدمتها ابداء تلك الأطراف لمخاوفها من احتمال تعرض العملية الانتخابية لمحاولات لتزييف ارادة الناخبين. وهذا الأمر يعكس استمرار حالة انعدام الثقة بين أطراف سياسية في المعارضة السودانية من جهة وحزب المؤتمر الوطني من جهة اخرى، ونحن نرى، في تحليلنا لهذا الجانب بأن الظروف التي يجري فيها استحقاق الانتخابات السودانية، ليست هي الظروف المثالية في درجتها الكاملة المأمولة، بحيث أنها كانت تأمل في تهيئة مناخ أفضل لمسار عملية التحول الديمقراطي والذي اكتسب زخما قويا منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل لحل مشكلة جنوب السودان، في نيروبي بتاريخ 9 يناير 2005. لقد كانت هذه القوى في معسكر المعارضة للمشروع الذي تقدمه «الانقاذ» للشعب السوداني، تأمل بأن يرافق احلال السلام في الجنوب جهد تطبعه الجدية والحرص التامان، لتهيئة الساحة السودانية للدخول الى واقع التداول السلمي للسلطة، بالشكل الملائم. وذلك كان يتطلب في نظرها اصطحاب شريكي اتفاقية السلام وهما «المؤتمر الوطني» و «الحركة الشعبية» لآراء ومقاربات بقية القوى السياسية في الساحة الوطنية، لأجل التوافق على الأسلوب الملائم لانفاذ استحقاق «التحول الديمقراطي» . ان هنالك الكثير من الحساسيات لا تزال سائدة حتى الآن، في علاقة بعض الأحزاب المعارضة بحزب المؤتمر الوطني. ونفس تلك القوى الحزبية ظلت لفترة طويلة شريكة مع «الحركة الشعبية» في عهد الراحل الدكتور جون قرنق في الحلم بسودان السلام والوحدة والديمقراطية والتنمية. اننا نتذكر أن كيان التجمع الوطني الديمقراطي المعارض خلال فترة عمله خارج السودان قد طرح فكرة ان يشارك تجمع المعارضة في مفاوضات «سلام نيفاشا». تحت مظلة «الايقاد»، وذلك تطلعا الى ايجاد حل سياسي شامل لكافة أزمات الواقع السياسي السوداني، وليس لقضية الجنوب فقط. ان تلك المشاركة في مفاوضات السلام لم تتم، اذ انحصر التفاوض بين الحكومة - بقيادة حزب المؤتمر الوطني والقوى الحزبية الشمالية والجنوبية الشريكة معه في الحكم آنذاك.من جانب، و «الحركة الشعبية» من جانب آخر. ورغم تحفظ قوى «التجمع المعارض» على ما أسمته حينها ب «ثنائية التفاوض»، الا أنها لم تعارض انفاذ اتفاق سلام الجنوب. ووقتها ظل زعيم التجمع الميرغني يردد بأنه «الشريك الخفي» في ذلك الاتفاق، نظرا لما ظل معروفا وقتها من علاقة مميزة جمعت الميرغني بالراحل قرنق، وكان المعلن هو ان تلك العلاقة ستكرس لأجل احلال السلام وترسيخ الاستقرار في السودان. ان استرجاع هذه الخلفية الموجزة بشأن طبيعة نظرة بعض القوى السياسية المعارضة الى مجمل الحراك الذي يدور في الساحة السودانية قد يعيننا على فهم أسباب «التوتر» في علاقة هذه الأطراف المعارضة بحزب المؤتمر الوطني. ونذكر أيضا بأنه قبل اغلاق فرص الترشح في الانتخابات، كان العديد من الحادبين على مصلحة السودان قد حثوا تلك القوى المعارضة بأن تتناسى «حساسيات التوتر السياسي» بينها و «المؤتمر الوطني»، وذلك عبر ترجيح كفة المشاركة في مسار العملية السياسية التي تحمل بعض الايجابيات باتجاه ارساء تجربة جديدة للتحول الديمقراطي الشامل في السودان، رغم استمرار تحفظات عديدة في أوساط المعارضة بأن التجربة الراهنة المتجهة الى تداول للسلطة عبر صناديق الاقتراع لا تلبي كل الاحتياجات التي تطالب بها القوى المعارضة. ان العمل السياسي يتطلب باستمرار أن يتمتع الساسة بالقدر اللازم من المرونة لتفادي الأزمات التي تواجه مسار عملهم في دنيا السياسة، وفي نفس الوقت استثمار ما يوجد من ايجابيات في المشهد السياسي حتى ولو كانت أقل من المطلوب ففي السياسة لا يكون الاختيار بين السيئ والحسن وانما بين السيئ والأكثر سوءا أحيانا، بمعنى انه لابد من المرونة في وضع الحسابات بشأن تقييم طبيعة ما يتم من تحولات سياسية على أرض الواقع، وذلك من أجل ان يكون الحصاد دائما مليئا بالايجابيات المتاحة والممكنة عبر تفاعلات الواقع السياسي. ونقول أخيرا بأن النظرة الحكيمة لمسارات العمل السياسي في الساحة السودانية يجب أن تستحضر باستمرار ضرورة ترجيح كفة المصلحة الوطنية العليا في أية خطوة سياسية يخطو اليها ناشطو العمل السياسي، فذلك وحده يمثل صمام الأمان لحماية الاستقرار في الساحة السودانية من أية مهددات محتملة. المصدر: الوطن القطرية 29/3/2010