ينظر المراقبون باهتمام كبير الى مجمل الحراك السياسي غير المسبوق الذي شهدته الساحة السودانية، خلال الأشهر والأسابيع الأخيرة، في ظل انفاذ الاستحقاق الانتخابي، بكل ما يبدو في صورة هذا الحراك من دلالات سياسية مهمة. ووسط التحليلات المتعددة، داخل الساحة السودانية وخارجها، لمجمل التطورات والأحداث الجارية، فان حيزا عظيما من الاهتمام ينصب على اختبار حقيقة ما يطرحه الفرقاء السودانيون، بين موقعي الحكم والمعارضة، من شعارات متعددة يتصدرها شعار ( التحول الديمقراطي ). لقد شهد الأسبوع الأخير، قبيل انطلاق العملية الانتخابية في السودان، احتدام معركة ( تبادل الاتهامات ) بين عدة احزاب معارضة من جهة، والحكومة بقيادة حزب المؤتمر الوطني من جهة أخرى.لقد اعتبر سياسيون في موقع المعارضة بأن «المؤتمر» قد قام مبكرا بمسلك محدد، يعتقد هؤلاء السياسيون أنه مسلك يمس بالهدف المنشود، والمتمثل في اجراء انتخابات حرة ونزيهة، تحت بصر العالم كله، ليتم في خاتمة المطاف، تحديد خيار الشعب السوداني بشأن من سيقومون بتمثيله في ساحة العمل السياسي، خلال المرحلة المقبلة. أما حصيلة التصريحات التي أتت من معسكر القوى التي تشكل الحكومة، فقد تركزت على وصف من انسحبوا من الاستحقاق الانتخابي ب « الهاربين»، اذ يقول ساسة في حزب «المؤتمر» ان العديد من قياديي الأحزاب المعارضة، ممن اختاروا الانسحاب من السباق الانتخابي، قد أدركوا بأنه لا حظوظ أمامهم للفوز بثقة مجموع الناخبين. اننا في هذا الجانب نورد بعض الاشارات بشأن طبيعة المرحلة الحالية من عمر السودان، باستحضار الكم الهائل من أشواق أهله الى عبور « نفق الأزمات»، والتوصل الى المعالجات الضرورية للمشاكل الأساسية التي تواجه الساحة السودانية بأسرها. ان تفاعل حالة القلق والتوتر سياسيا في ساحة العمل الوطني السوداني الآن هو أمر يزيد من وجاهة مقترحات بادرت بها شخصيات قومية وقوى حزبية ونخب سياسية تعمل باستقلال عن كافة الأحزاب، وهي مقترحات الاحتكام الى الحوار الوطني الصريح، من خلال منابر مفتوحة، للتوصل الى ( برنامج الشعب السوداني)، بدلا من برنامج هذا الحزب أو ذاك، بغض النظر عن النتيجة التي سيحملها فرز « بطاقات الاقتراع». ان المتابعة الدقيقة لمجمل الحراك في الساحة السودانية، في التوقيت السياسي الراهن، تتجه الى محاولة استكشاف الاجابات بشأن عدة أسئلة رئيسية تتعلق بقضايا حيوية تهم الرأي العام السوداني، وفي مقدمتها الأسئلة المتعلقة ب « مصير الجنوب»، في أفق الاستفتاء المرتقب بهذا الخصوص، والذي ينتظر اجراؤه في يناير 2011 . ان النظرة الواقعية التي تستقرئ مجريات وتطورات الأحداث، خصوصا على مستوى العلاقة السياسية بين شريكي اتفاق نيفاشا ( اتفاقية السلام لمعالجة قضية جنوب السودان) ، وهما « المؤتمر الوطني» بقيادة الرئيس عمر البشير و« الحركة الشعبية» بقيادة سلفا كير، تتجه الى رسم مؤشرات واضحة بأن هنالك رأيا عاما جنوبيا له ثقل كبير، يعتبر أن فرصة ترجيح كفة «خيار الوحدة» على « خيار الانفصال» قد صارت ضئيلة، بما يثير القلق بشكل كبير ازاء معطيات وحدة السودان واستقراره. ونرى هنا أنه برغم تزايد مؤشرات الانفصال لجنوب السودان، الا أن المراجعة التي تنفذ الى تحليل رؤى واشنطن ومواقفها من قضية « وحدة السودان»، تشير الى معطيات أخرى.. وهنا فانني أقتبس بعض الاشارات حول ( مواقف واشنطن ) من قضية وحدة السودان، عبر حوار صحفي - كنت قد أجريته ( لصحيفة الرأي العام السودانية ونشر في 16 فبراير 2007) - مع البروفيسور أحمد الأمين البشير باعتباره من بين خبراء سودانيين معدودين تخصصوا بعمق شديد في الشأن السياسي الأميركي لعقود طويلة، وهو يقول في تحليله عن موضوع وحدة السودان: ان الموقف الأميركي معقد .. ولا نستطيع أن نعامل أميركا ككتلة واحدة . فاذا تكلمنا مع بعض المتطرفين المسيحيين ستكون اجابتهم ان الوحدة لا لزوم لها. أما الادارة الأميركية، المتمثلة في البيت الأبيض ووزارة الخارجية فهي لا تحبذ انفصال الجنوب لأسباب سياسية جيوبوليتيكية، وترى انه اذا حدث الانفصال فقد يفتح (صندوق باندورا) في افريقيا. وهناك « مدرسة الايكولوجي» والتي تضم أنصار الحفاظ على التوازن البيئي، ورموز هذه المدرسة يقولون ان تفتت افريقيا قد يخلق اختلالا في التوازن البيئي في العالم. وهناك أيضا بعد اقتصادي، فشركة « شيفرون» مثلا اعتقد بأنهم ليسوا قادرين على أن يتحملوا أكثر - في اشارة الى رغبة شيفرون في العودة الى موقع سابق كانت تحتله باستخراجها للبترول السوداني في عهد الرئيس الراحل جعفر نميري - فهناك عامل مهم في أميركا وهو الاهتمام بالحفاظ على حيوية الحركة الاقتصادية في السودان.. وأنا أرى أن شركة شيفرون ترغب في وحدة السودان. ان الرؤية الواقعية بشأن احتمالي الوحدة والانفصال في السودان، يجب أن تحاط بالمعطيات التي تتجه للتفاؤل فرغم كل المهددات للوحدة فان آمال النجاح في توحيد أفكار السودانيين حول أهمية العمل على منع تفتت السودان يجب ابقاؤها حية في النفوس. ولا شك أن الاستحقاق الانتخابي بكل ما يتضمنه من حراك سياسي عام في الساحة السودانية يوفر فرصة مهمة للتحاور بين كافة ألوان الطيف السياسي السوداني، بما يقود في المحصلة النهائية الى ترجيح كفة « التصويت لخيار وحدة السودان». المصدر: الوطن القطرية 12/4/2010