لم تكن الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا، واجتماعه إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مفاجئاً . فالعلاقات بين البلدين عرفت ازدهاراً ونمواً وتطوراً لافتاً خلال السنوات العشر الماضية . ولم يكن تخصيصاً من تركيالروسيا من دون غيرها من الدول، بل كان في إطار سياسة الانفتاح التركي على جميع الدول المجاورة لها من كل الاتجاهات السياسية وفق ما سمي حينها سياسة "صفر مشكلات"، حيث تجاوزت تركيا كل الحساسيات التاريخية والدينية والجغرافية مع روسيا، كما مع اليونان مثلاً، ونسجت علاقات متينة، لاسيما على الصعيد الاقتصادي، وهي سياسة أثمرت مكاسب تركية كبيرة، فنما اقتصادها وتعزز دورها الإقليمي . غير أن ما سمي ب"الربيع العربي"، كان بداية مسار جديد في تحول في العلاقات بين تركيا ومعظم جوارها ومنهم روسيا، إذ إن الأحداث في منطقة الشرق الأوسط وضعت روسياوتركيا على طرفي نقيض في أكثر الأزمات، بدءاً من ليبيا، حيث شاركت تركيا ولو متأخرة وبعد تمنع في عمليات حلف شمال الأطلسي التي اعتبرتها روسيا مناقضة لقرار مجلس الأمن الذي لم يفوض أحداً القيام بعمليات عسكرية، وصولاً إلى بيت القصيد، وهو الأزمة السورية التي رأت فيها تركيا فرصة ذهبية للتفرد بالهيمنة على المنطقة من خلال السعي لإطاحة الرئيس السوري بشار الأسد، وتالياً حلفائه في العراق ولبنان وإيران، واستكمالاً بتثبيت أنظمة موالية لها في تونس ومصر . وهنا لم تقرأ تركيا جيداً الموقف الروسي وأهمية سوريا تحديداً للمصالح الروسية بإبقاء سوريا في الكنف الروسي . وهكذا دخلت العلاقات التركية الروسية في توترات غير مسبوقة بسبب سوريا، وأبرز ذلك موافقة تركيا على نصب رادارات لمنظومة الدرع الصاروخية في منطقة كوريجيك بملاطية في تركيا وهدفها الأساسي رصد حركة الصواريخ البالستية الروسية والإيرانية . واستتبع ذلك بنصب تركيا بطاريات باتريوت لاعتراض أي هجوم صاروخي سوري أو إيراني أو روسي على تركيا . وهنا بالطبع دخلت العلاقات الثنائية بين موسكووأنقرة في مهب الصراع الروسي مع حلف شمال الأطلسي، إذ إن تركيا ورداً على التهديدات المحتملة من سورياوإيرانوروسيا لم تجد سوى الورقة الأطلسية ترفعها لمواجهة تهديدات غير واقعية، واعتبار حدود تركيا حدوداً أطلسية على لسان كل المسؤولين الأتراك . وأضيف إلى البعد الأطلسي من الخلاف التركي الروسي الدور المتنامي والخطر للمجموعات الدينية المتطرفة التي تقاتل في سوريا وفي العراق، حيث ينتمي قسم كبير منهم إلى الجمهوريات الواقعة ضمن الاتحاد الروسي ولا سيما في شمال القوقاز وتخوف روسيا المشروع من عودة هؤلاء إلى الداخل الروسي بل من استخدامهم أدوات في أكثر من اتجاه . والغضب الروسي أن أغلبية هؤلاء كانوا يتخذون من الأراضي التركية مقراً وممراً لهم في الطريق إلى سورياوالعراق . ولا يخفى أن روسيا منزعجة أيضاً من الدور التركي في مجال الطاقة العالمي وتوظيف موقعها الجغرافي في خدمة المصالح الغربية في الصراع مع روسيا والذي تستفيد منه تركيا أيضاً . وأبرز عنوان للدور التركي السلبي تجاه روسيا كان إقامة مشروع خط أنابيب نفط وغاز يمتد من باكو عاصمة أذربيجان، مروراً بجورجيا، وصولاً إلى ميناء جيحان التركي على البحر المتوسط والذي بدأ قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام ،2002 وكان مشروعاً استراتيجياً في إضعاف روسيا لجهة إقامة خط بديل عن خط النفط والغاز الروسي الذي يمر عبر أوكرانيا وصولاً إلى الدول الأوروبية . وتعددت بعد ذلك المشاريع الغربية التي تعمل على تهميش أو تعطيل خطوط النقل الروسية إلى أوروبا وكل هذه المشاريع الغربية كانت تتخذ من جغرافية تركيا وسيلة لتنفيذ أهدافها . ولا شك أن هناك العديد من القضايا الخلافية بين تركياوروسيا، ومنها القضية القبرصية، كما القضية الأرمنية والصراع بين أرمينياوأذربيجان حول مرتفعات قره باغ ووقوف روسيا، إلى جانب الأرمن وتركيا، إلى جانب قره باغ، وهي في النهاية قضايا شائكة جداً متفجرة، وتبقي العلاقات التركية الروسية في دائرة التوترات المعلنة أحياناً والكامنة دائماً . زيارة الرئيس بوتين إلى أنقرة ليست كما قلنا جديدة ولا مفاجئة، وقد زارها أكثر من مرة خلال السنوات القليلة الماضية، وفي ذروة التوترات بين البلدين، غير أنها هذه المرة تكتسب بعداً جديداً . 1- يواجه الطرفات تحديات جمة من قبل الغرب والولايات المتحدة تحديداً . فالخلافات التركية مع أمريكا حول المسألة السورية وحول اتهامات أردوغان لواشنطن بأنها تريد إطاحته وضعت العلاقة في دائرة التوتر الشديد، خصوصاً بعد اتهامات نائب الرئيس الأمريكي جو بادين لأردوغان بأنه يدعم التنظيمات الإرهابية، ومنها "داعش" و"جبهة النصرة" . 2- وتمر العلاقات الروسية مع الغرب بشقيه الأوروبي والأمريكي بأسوأ مراحلها منذ أن تحسنت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، حيث كانت أوكرانيا شرارة هذا التوتر الذي عرف أبعاداً غير مسبوقة لجهة الرغبة الغربية في معاقبة روسيا على دعمها للانفصاليين الأوكرانيين، وعلى ضمها لشبه جزيرة القرم . وقد بلغت الحرب الغربية الاقتصادية على روسيا مرحلة محاولة خنق الاقتصاد الروسي من خلال خفض أسعار النفط والغاز في العالم إلى مستوى يهدد المصالح الاستراتيجية لروسيا ومشاريع التنمية، خصوصاً أنها تعتمد بشكل كبير على قطاع الطاقة لممارسة دور عالمي . في ظل هذه الأجواء جاء بوتين إلى أنقرة حاملاً ملفات تعاون كبيرة ليجد من يتلقفها، فيعززان بالتالي قدرتهما على مواجهة الضغوطات الغربية . لقد نجح بوتين وأردوغان في تحييد الخلافات السياسية حول سوريا وقبرص وأرمينيا وغيرها من المشكلات لمصلحة تعزيز العلاقات الاقتصادية . ووقع الجانبان على سلسلة من الاتفاقيات التجارية التي ترفع حجم التجارة من 33 مليار دولار حالياً إلى مئة مليار دولار حتى العام ،2020 وهذا رقم خيالي غير مستحيل التطبيق، لكنه طموح جداً . واتفق الجانبان على تلزيم روسيا بناء محطة نووية في مرسين التركية للأغراض السلمية لتسير تركيا على خطى إيران في التعاون مع روسيا في المجال النووي، وهذا مكسب روسي كبير . غير أن التعاون الأبرز كان على صعيد الطاقة من نفط وغاز طبيعي . فتركيا تلبي أغلبية احتياجاتها من النفط والغاز الطبيعي من روسيا، ومن ثم إيران ودول أخرى . وإذا كانت أسعار الطاقة انخفضت هذه الأيام، فالقاعدة أنها ستعود للارتفاع ريثما تنقضي الغاية السياسية من وراء تخفيضه، وتركيا ليست بلداً منتجاً للنفط وتستنزف وارداتها من الطاقة جزءاً كبيراً جداً من ميزانيتها، وقد قدمت روسيا خلال زيارة بوتين أسعاراً تشجيعية للنفط والغاز تقل بنسبة ستة في المئة عن السعر التجاري الرائج، وهذا مكسب تركي . لكن القنبلة التي فجرها بوتين هي في إلغائه وتخليه عن الخط الذي بدأ فعلاً بإنشائه ويسمى خط "الدفق الجنوبي" . ويبدأ من روسيا ويمتد تحت البحر الأسود، وصولاً إلى بلغاريا، ومنها إلى أوروبا . الاقتراح الروسي الذي وافق عليه أردوغان وتم التوقيع عليه فعلاً يلحظ وقف العمل بالمشروع السابق ومد الأنابيب من روسيا إلى الأراضي التركية، ومنها إلى اليونان، فأوروبا حيث ستقام محطة توزيع للغاز على الحدود بين تركيا واليونان . مشروع "الدفق الجنوبي" كان ردة فعل روسية على الغرب وعقوباته وعلى موقف بلغاريا ضد روسيا بشأن الأزمة الأوكرانية . أما تركيا كبديل، فرغم أنها دولة أطلسية غير أنها اكتفت بالانتقادات اللفظية ضد الموقف الروسي في أوكرانيا والقرم ولم تشارك في العقوبات الغربية على روسيا . واستكمال خط "الدفق الجنوبي" عبر تركيا وليس بلغاريا يعد انتصاراً لتركيا التي تتحول تدريجياً إلى أكبر وسيلة تصدير وسيطة للنفط والغاز الروسي، كما للنفط والغاز من حوض قزوين وإيران ومنطقة الشرق الأوسط، لاسيما من العراق ومنه إقليم كردستان، وهذا يعزز دورها الإقليمي والدولي، فضلاً عن استفادتها من أسعار تفضيلية لوارداتها من الطاقة من الدول التي تصدر عبر تركيا . لقد وجد بوتين وأردوغان كل في الآخر منقذاً له من أزماته الراهنة فتقاطعت المصالح الاقتصادية والسياسية . ومع أن البعض يتطلع إلى أن تنعكس الانطلاقة الجديدة للتعاون الثنائي تقارباً في الملفات الخلافية، فإن هذا غير متوقع، خصوصاً أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، وجزء من المنظومة الغربية الأوروبية الأمريكية وهي في تعاونها مع روسيا إنما تستخدمها ورقة ضغط على حلفائها الغربيين، كما حصل في مسألة شراء منظومة صواريخ صينية لم تبصر النور بعد، وبالتالي فإن البعد الاستراتيجي من العلاقات التركية الروسية لا يبنى على مشكلات ظرفية يواجهها القيصر الروسي والسلطان العثماني، ويعملان على مواجهتها ببعض الاتفاقيات الاقتصادية . فتركيا لا تزال، كبلد ودولة، ضرورة استراتيجية للغرب، ولا يمكن له أن يتخلى عنها ويسمح بتحالف استراتيجي بينها وبين روسيا . أما مشكلة وجود سلطة سياسية متمردة في أنقرة أو لها أجندتها المختلفة في بعض القضايا، فهذا من قبيل المشاغبة التي لا تستمر . . وأردوغان قبل غيره يعرف ذلك . المصدر: الخليج الاماراتية 154/12/2014م