الملاحظ أن التبرير الحكومي في الإصرار على إجراء الاستفتاء للتقرير بشأن الوضع الإداري لدارفور استناداً فقط على أنه استحقاق لاتفاقية الدوحة يعوزه الكثير من المنطق السياسي، فالاتفاقية على أهميتها والدعم الدولي الذي حظيت به إلا أنه لم يتوفر لها الشمول الكافي بحيث يتحقق شرط أن تضع الحرب أوزارها بصورة نهائية، ويتحقق السلام بتوقف الحرب، ثم الولوج في الترتيبات اللاحقة لوقف إطلاق النار الشامل، وعودة اللاجئين وإعادة توطين النازحين، وانتفاء أشكال الاعتماد على الوجود الدولي عسكرياً وإنسانياً، صحيح أن الحكومة حققت تقدماً عسكرياً مهماً، وتراجعت مساحة وجود الحركات المعارضة المسلحة، إلا أن الصحيح أيضاً أن طبيعة الأزمة القائمة في الإقليم لا تزال حاضرة، وتجلياتها شاخصة بدرجة لا تجعل سبيلاً للزعم بأن ملف الأزمة والنزاع طويت نهائياً. صحيح أن الحكومة لا تتحمل وحدها مسؤولية تعثر التطبيق الكامل لاتفاقية الدوحة، إذ أن إصرار الحركات الرافضة للتوقيع عليها أسهم في تعقيد الأزمة وتفويت فرصة التسوية، إلا أنه بغض النظر عن درجة تحمل المسؤولية لأي طرف إلا أن طبيعة الأزمة تجعل من الصعوبة بمكان فرض حل أو أمر واقع من طرف واحد. ويلاحظ في هذا الشان على وجه الخصوص أن قطر صاحبة الجهد الكبير وراعية اتفاقية الدوحة التزمت الصمت إزاء الاستفتاء، إذ لم يصدر علانية ما يفيد بتأييدها ودعمها لخطوة الاستفتاء على الرغم من أنه أحد استحقاقات الاتفاقية، ولعل قطر ترى في نيّة الخرطوم اعتبار إجراء الاستفتاء بمثابة الخطوة الأخيرة لطيّ ملف اتفاقية الدوحة وانقضاء ترتيباتها، ما يعني عملياً إنهاء للدور القطري في قت لم تستكمل الاتفاقية تحقيق الهدف النهائي بجلب السلام للإقليم المنكوب بعد كل الجهود التي بذلتها، وربما لتبدل تحالفات الخرطوم الإقليمية صلة بهذا التوجه السوداني المتعجل لإغلاق هذا الملف خارج سياق التطورات الراهنة. ومن ذلك كما أسلفنا خريطة طريق إمبيكي المثيرة للجدل التي وقعتها الحكومة منفردة مع الوسيط الأفريقي تنص في بندها الثاني أن إنهاء النزاعات يجب أن يتزامن مع الاتفاقيات المتعلقة بشأن المسائل السياسية، ما يعني أن التفاوض المتوازي حول الهدنة ثم وقف إطلاق النار الشامل يتضمن أيضاً المسائل السياسية ذات الصلة الخاصة بقضايا دارفور، والمنطقتين النيل الأزرق وجنوب كردفان، وأن لجاناً مشتركة ستتشكل لضمان التزامن الضروري بين تنفيذ وقف إطلاق النار الشامل والترتيبات الأمنية ومخرجات العملية السياسية ذات الصلة بدارفور والمنطقتين، فيما أحالت القضايا ذات الطابع القومي للحوار الوطني الشامل. وفي خضم الجهود لإقناع الحركات المسلحة للانضمام لخريطة الطريق بجانب الحكومة السودانية التي بادرت للتوقيع عليها، يأتي الاستفتاء الذي يقرر بصفة نهائية مصير وتركيبة الحكم في دارفور، وهي إحدى أهم نقاط الأجندة السياسية التي يدور حولها صراع عميق من واقع اختلاف وجهتي النظر بين الطرفين، فالسلطة الحاكمة تقود الاستفتاء باتجاه تكريس خيار الإقليم المتعدد الولايات، فيما تعترض الحركات المسلحة ليس فقط على خيار تقسيم الإقليم الذي يناهضونه مفضلين وحدة الإقليم، بل بعدم مواءمة الظروف والملابسات لحسم مسألة بهذه الأهمية، والحال هذه فماذا سيبقى من القضايا السياسية التي سيتم التفاوض حولها حال ودت خريطة الطريق سبيلاً لبلوغها، فمن الواضح أن الاستفتاء بغض النظر عن آراء المعترضين عليه أو المشككين في نزاهته فسوف يفرض واقعاً يصعب التراجع عنه، وذلك يعني إفراغ خريطة إمبيكي من أحد أهم أجندتها، وبالتالي يجعل الخيار الوحيد المتاح هو استدامة الصراع بوتيرة أخرى. والأمر الآخر الذي سيضعف حظوظ، أو حتى صمود خريطة الطريق الجديدة، هو أن الاستفتاء يأتي خارج سياق تجليّات الأزمة الوطنية على كامل التراب السوداني ومحاولات حلحلتها ضمن تسوية سياسية تاريخية شاملة، فخريطة إمبيكي التي تقوم على اعتماد الحوار الوطني الشامل بما يضع في الحسبان الجزء من الحوار الذي جرى في الخرطوم في الأشهر الماضية ومخرجاته، ثم محاولة إكماله بعملية سياسية تصله بمعارضة الخارج، ذلك أن الاستفتاء يأتي قفزاً على الوقائع لأن المفترض في الحوار أن يفضي في نهاية الأمر إلى إعادة تشكيل وتركيب الدولة السودانية على أسس متفق عليها تضمن في دستور جديد، سيقود الاستفتاء في دارفور إلى تجاهل هذه العملية، فكيف يتسنى تبعيض الأزمة السودانية في وقت يجري حوار من أجل تسوية شاملة؟ من المؤكد أن للحكومة السودانية حساباتها من واقع إصرارها على المضي قدماً في طريق الاستفتاء هي تعلم سلفاً تبعاته وتداعياته، لكن من شأن ذلك أن يفتح الباب مجدداً للتدخلات الدولية بعد أن كانت انحسرت شيئاً ما، وما البيان الأمريكي إلا أحد المؤشرات على ذلك، فضلاً عن أن الوجود الدولي الكثيف على الأرض في دارفور عسكرياً وإنسانياً سيجدد أسباب وجوده، ومن الصعب للحكومة السودانية أن تعلن طوي ملف الأزمة في دارفور وسيادتها عليها منقوصة في ظل هذا الوجود الأجنبي الذي يتخذ موقفاً مناقضاً لافتراضات الخرطوم حول حقيقة الوضع في الإقليم، وهو ما تبيّن من تصريحات رئيس البعثة المشتركة لقوات حفظ السلام المشتركة بين الأممالمتحدة والاتحاد الأفريقي بعد يوم من إعلان البشير دارفور منطقة آمنة، ولا تحتاج للإغاثة، ليناقضها بقوله إن الأمن لا يزال غير مستتب، وإن الحاجة للعون الإنساني متزايدة، فهل يعني ذلك أن العودة لدور دولي بتدخل أكثر تشدداً أصبح وارداً بعد أن انحسر وتراجع لحين؟. المصدر: الراية القطرية 19/4/2016م