قلنا في الحلقة الأولى من هذه «الإضاءة» حول بعض مخاطر الانفصال، إن أي قراءة لواقع ما بعد الانتخابات لابد أن تقود صاحبها لملاحظة أساسية هي حالة الفرز والتكريس، التي ميّزت هذا الواقع وطبعته بميسمها شبه النهائي، فرز وتكريس لواقع سياسي تمخضت عنه اتفاقية نيفاشا بمحاصصتها في قسمة السلطة والثروة، مما جعل الشمال تحت سلطة المؤتمر الوطني حصراً، وجعل الجنوب تحت سلطة الحركة الشعبية كذلك، ومما جعل الحديث عن الانفصال من قبيل تحصيل الحاصل، والحديث عن الوحدة الجاذبة نوع من «اللعب في الوقت الضائع» -على حد تعبير الفريق سلفاكير- في يوم تنصيبه رئيساً لحكومة الجنوب.. ولكن برغم هذا الواقع الأليم والحصاد المر لسنوات الفترة الانتقالية لابد من تنبيه شعبنا - شمالاً وجنوباً- للمخاطر والآثار المدمرة التي ينطوي عليها هذا الانفصال فور ترسيمه وإعلانه رسمياً من خلال قراءة السيناريوهات المنتظر أن تترتب عليه، والتي تناولنا أولها أمس وهو «سيناريو التفكيك» من خلال الإضاءة على إفادات الأستاذ عبد العزيز الحلو لصحيفة الشر الأوسط، باعتباره شاهداً وفاعلاً بحكم موقعه القيادي في الحركة الشعبية لتحرير السودان وبحكم المسؤوليات التي يطلع بها كنائب لوالي جنوب كردفان إحدى المناطق «المتنازع عليها» على حد وصفه. واليوم نخصص هذه «الإضاءة» لسيناريو«حرب المياه» في إطار الأزمة الناشبة بين دول حوض النيل من خلال الخلاصات والرؤى التي توصلت إليها ندوة نظمها مركز البحوث السياسية التابع لكلية الاقتصاد بجامعة القاهرة، ونشرتها جريدة «الصحافة» نقلاً عن وكالات الأنباء. وأقيمُ ما في هذه الندوة التي خُصِّصت لمناقشة أزمة المياه، هي أنها تناولت العلاقات والاتفاقيات المصرية السودانية حول مياه النيل في ضوء مستجدات الواقع السوداني المأزوم ، وفي مقدمتها طبعاً احتمال انفصال الجنوب عن الشمال، فقد حذّر الخبراء السياسيون والأكاديميون المشاركون في الندوة الجانب المصري من الاطمئنان إلى التحالف مع السودان في الأزمة الناشبة بين دول حوض النيل - دول المنبع والمصب- وذلك استناداً إلى التطورات السياسية التي يشهدها السودان، والتي تجعل - كما أوضحوا- من الصعب التنبؤ بموقف الجنوب السوداني تجاه الاتفاقية المنفردة التي تم توقيعها أخيراً بين خمس من دول المنبع. الدكتور محمود أبو العينين- عميد معهد البحوث والدراسات الأفريقية المصري- قال في تلك الندوة التي عُقدت تحت عنوان «مدخل إلى العمل الإقليمي لمصر في حوض النيل»: إنه لا بد لمصر أن تضع في حساباتها أنها ستتعامل مع بلد واحد بنظامين مختلفين، لا نعرف حتى الآن كيف يتعاطى أحدهما مع تلك الأزمة، مشيراً إلى أنّ الجنوب السوداني إذا ظهر في صورة دولة مستقلة فإنه سيمثِّل «حاجزاً خطيراً» بين مصر وشمال السودان ودول الحوض الأخرى، لذلك من المهم تنشيط العلاقات المصرية مع الجنوب، خاصةً أن الجانب الاثيوبي الذي يقود دول الحوض ضد مصر والسودان يدرك جيداً أن العلاقة بين البلدين «ليست على المستوى المطلوب». إذن مصر، بحساسيتها المعلومة لكل ما يمس النيل ويهدد أمنها المائي، باعتبارها «هبة النيل»، تنبهت باكراً للمخاطر المترتبة على احتمال انفصال الجنوب، وبأنه سيصبح بمثابة «حاجز خطير» في مجمل العلاقات بين دول الحوض إذا ما وقع هذا الانفصال «الراجح»، مثلما استيقظت على «صعوبة التنبؤ» بموقف الجنوب في حالة الانفصال. وهذا يقودنا للتساؤل المنطقي: إذا كانت نيفاشا قد أقرّت مبدأ تقرير المصير وذهبت للمحاصصة في كل شئ - من البترول إلى الوظائف- فلماذا تجاهلت موضوع المياه، الثروة الدائمة والمتجددة، بينما اهتمت بالثروة الناضبة «البترول» وجعلتها في مقدمة أولوياتها؟!. فأبو العينين أشار إلى البدائل المتاحة أمام مصر لبناء موقف تفاوضي «يعيد الهيبة» للدور المصري في أفريقيا بدءاً من تكوين جبهة قوية مع «السودان بطرفيه» والسعي بكل السبل «لتوفيق الأوضاع بين الجانبين»، لأن السودان - كما قال- في الفترة المقبلة قد يختلف بشكل كبير عن السودان الذي اعتدنا على التعامل معه. وذهب أبو العينين أبعد من ذلك ليحدِّث عن ضرورة البحث عن صيغة مناسبة «لاستئناف وتفعيل اتفاقية الدفاع المشترك» وعمل جبهة قوية تلجأ إليها «مصر سياسياً وعسكرياً»، مضيفاً أنه على مصر أن تطوِّر نشاطها الإقليمي للضغط على تكتل دول المنابع، وطالب جامعة الدول العربية بمساندة مصر، إذ لا يمكن اتخاذ أي موقف قانوني أو سياسي في الوقت الذي تقوم فيه دول عربية بالتوسع في «البيزنس» مع دول الحوض. كل ذلك يعبر عن انزعاج مصر الواضح من التطورات التي تشهدها بلادنا، وأثر هذه التطورات المنتظر على قضية المياه التي هي أولوية مصر القصوى في علاقاتها مع السودان ودول حوض النيل الأفريقية، هذا الانزعاج عبّرت عنه أيضاً تحركات موازية من جانب أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى الذي التقى الرئيس مبارك يوم السبت الماضي وخرج بعد الاجتماع ليعلن عن إعداد الجامعة لعقد قمة عربية أفريقية في أكتوبر أو نوفمبر المقبل لبحث «التغلب على مشكلة مياه النيل» قائلاً إن «كل مشكلة لها حل والمهم هو أسلوب الحل أو الإخراج». كما قام وزير الري المصري د. محمد نصر الدين علام برفع تقرير للرئيس المصري، عقب زيارته الأسبوع الماضي للسودان، مؤكداً على أن هناك تنسيقاً وتبادلاً لوجهات النظر حول خطة التحرك المشترك للحفاظ على حقوق البلدين. أما الدكتور مغاوري دياب، خبير المياه رئيس جامعة المنوفية فقد طالب، هو الآخر، بضرورة الاهتمام بمنطقة «وسط وجنوب السودان» وبتغيير سياسة مصر المائية بشكل جذري، ورأى أن هناك تكتلاً ضد السياسة المصرية من دول الحوض بعد توقيع كينيا وانضمام الكونغو للاتفاقية بشكل يؤكد أن مصر تتعرض لابتزاز «لا ينفع معه التفاوض» في المرحلة الحالية، لأن مصر لا يجب - كما قال- أن تخضع للضغوط. وبرغم أنه من المبكر القول إن الأزمة ستقود حتماً إلى حالة « حرب عسكرية» حول المياه، إلا أن الدعوات المتصاعدة لتفعيل «اتفاقية الدفاع المشترك» بين مصر والسودان، تلك الدعوة التي تذكرنا بشروط التفاوض في أواخر الديمقراطية الثالثة بين الحركة الشعبية والحزب الاتحادي الديمقراطي وحكومة الصادق المهدي، حيث كانت الحركة تصر على إلغائها وإلغاء البروتوكول العسكري مع ليبيا وتجميد العمل بالحدود الشرعية إلى حين انعقاد المؤتمر الدستوري.. وها نحن اليوم نسمع من جديد بضرورة إحيائها وتفعيلها في مواجهة الأخطار المترتبة على مطالبة دول المنبع بحصة أكبر في مياه النيل والخطر الآخر المترتب على انفصال جنوب السودان الذي سيشكل «حاجزاً خطيراً» بين دول المنبع ودول المصب- شمال السودان ومصر في هذه الحالة-. وهذا تنبيه آخر، يأتينا من مصر، لبعض مخاطر التفكيك والتشظي في ضوء الواقع الذي أفرزته نيفاشا وكرسته الانتخابات الأخيرة، والذي لابد سيقود مصر في النهاية إلى المفاضلة بين مصالحها مع الجنوب أو مصالحها مع الشمال إذا ما احتدم الصراع بين شطري الوطن. فماذا ترانا فاعلين؟! المصدر: آخر لحظة 27/5/2010