اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير التي انجزتها دولتا الحكم الثنائي، مصر وبريطانيا في عام 1953، والتي بنيت عليها الخطوات التي انتهت الى استقلال السودان في عام 1956. عاد السودانيون الى استذكارها مجددا بعد ان كاد سقف البنا القديم ينهد على ساكنيه التي اصبح السودان مواجها فيها بمعضلة تقرير مصيره من جديد في يناير من العام القادم. الدكتور السوداني، فيصل عبد الرحمن علي طه، العالم والمرجع القانوني والتاريخي الراكز، والمشهود له في الدوائر العلمية، في داخل السودان وخارجه، بالجهد العلمي المثابر، روى حكاية تقرير مصير السودان بحذافيرها في اصداره الثاني عن تاريخ السودان الحديث الذي اختار له عنوان «السودان على مشارف الاستقلال الثاني -1956-1954». ومن عنوان اصداره الجديد هذا يريد الدكتور ان يثبت ان انتصار الثورة المهدية في العام 1881 واسقاطها الحكم التركي في السودان شكل الاستقلال الاول للسودان على يد الثائر محمد احمد المهدي الذي أسس دولة مستقلة عرفت بدولة المهدية التي حكمت السودان زهاء الثلاثة عشر عاما قبل ان يطيحها الغزو المصري - الانجليزي المشترك في عام 1899، لتعود الحركة السياسية السودانية مرة اخرى وتحرر السودان من الحكم الثنائي الانجليزي - المصري في عام 1956. ورغم ان هذا الكتاب القيم يؤرخ لفترة قصيرة من تاريخ السودان، الا انها كانت فترة مفصلية، دارت فيها احداث مهمة ومتلاحقة حول مسألة تقرير مصير السودان واستقلاله، وانتهت بعقد اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير واعلان استقلال السودان الثاني من دولتي الحكم السوداني في عام 1956. ولعله من باب المفارقة المثيرة حقا ان يصادف صدور الكتاب الذي ارّخ لتقرير مصير السودان في عام 1956 لحظة اصبح السودان يقف فيها على اعتاب تقرير مصير جديد قد يمسح صورة السودان الذي اوجدته اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير لعام 1953. ولان ما سيجري في السودان في غضون ستة اشهر من الآن قد يكون له ما بعده من تطورات جسام على الصعيد الداخلي السوداني، وعلى الصعيدين الاقليمي والدولي، فلعله يكون مفيدا ان نقف مع المؤلف عند حكاية تقرير مصير السودان السابق الذي اوجدته ومهدت له اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير السودانية للعام 1953 ربما من باب التعزي وقد عجز اهل السودان في صيانة ما حققوا من انجاز وطني في ذلك الوقت المتقدم. يبدأ المؤلف كتابه بنص عاطفي مثير يصور تصويرا فوتوغرافيا لحظة اعلان استقلال السوداني (الثاني) التي رفع فيها علمه الجديد، وانزل فيها علمي دولتي الحكم الثنائي، وما صاحب ذلك من رد فعل شعبي جارف في تلك اللحظة الحدث. يقول المؤلف «ران صمت مهيب وتسمر الجمع مشدوها، فلم يند عنه صوت ولا حركة تشي بالحياة. وحين عادت اليه الحياة تبين ان العشب تحت اقدامه قد روته الدموع. ذلك كان حال الجمع ما عدا رجلا واحدا هو عبد الرحمن بن محمد احمد المهدي الذي اهتز كله، من الرأس الى إخمص القدم وتصبب عرقا، وأغشي عليه». يجيء في الكتاب: إن دولتي الحكم الثنائي، مصر وبريطانيا، ابرمتا اتفاقية «الحكم الذاتي وتقرير المصير» في الثاني عشر من فبراير من عام 1953 وكفلت المادة 12 من الاتفاقية للسودان ان يختار، عبر جمعية تأسيسية منتخبة، بين الارتباط مع مصر بأية صورة وبين الاستقلال التام. ويقول المؤلف ان تخيير السودانيين بين الارتباط مع مصر بأية صورة من الصور وبين الاستقلال التام يعكس انقسام الحركة السياسية السودانية منذ نشأتها الى تيارين، يدعو احدهما الى الاستقلال التام بينما يدعو التيار الثاني لأنماط غير متجانسة من الاتحاد مع مصر. مثلما كانت رؤى دولتي الحكم الثنائي مختلفة هي الاخرى بشأن مصير السودان. فبريطانيا كانت تريد ان يتطور السودان مستقلا عن مصر، وان يكون لأهله الحق في تقرير مصيرهم بالكيفية التي يرغبون فيها عندما يبلغون مرتبة الحكم الذاتي الكامل عملا بتوصيات لجنة ملنر الصادرة في عام 1920. اما مصر، فقد كانت ترفض حق تقرير المصير للسودان لانها تعتبر السودان جزءا لا يتجزأ من مصر. ويورد المؤلف أنه حتى عندما اعترفت ثورة 23 يوليو بحق الشعب السوداني في تقرير مصيره، فانها لم تكن قد تخلت عن السودان، انما توهمت ان تجميع القوى الاتحادية في حزب واحد مؤيد للاتحاد مع مصر، هو «الحزب الوطني الاتحادي»، كفيل بأن يحقق لها هدف ربط السودان بمصر. وقد تعمق هذا الاعتقاد المصري عندما حقق الحزب الوطني الاتحادي الاغلبية المطلقة في اول انتخابات وشكل حكومة موالية لمصر. ولكن ذلك الرهان سرعان ما خاب اذ اعلن الحزب الوطني الاتحادي في ابريل 1955 انحيازه لخيار استقلال السودان التام عن دولتي الحكم الثنائي الشيء الذي كانت تدعو له الحركة الاستقلالية منذ البداية. هل كان السودان محتاجا لكتابة اتفاقية تقرير مصير جديدة في نيفاشا ام كان محتاجا فقط لاعادة النظر في اخطاء تنفيذ الاتفاقية والوقوف على الاسباب الموضوعية التي حدت بجهات سياسية جنوبية عديدة لأن تعارض الاتفاقية منذ البداية. اطلاع الاجيال الجديدة من السودانيين على موقف قادة الجنوب وموقف الاحزاب الجنوبية في ذلك الوقت ضروري ومهم لاخذ العبر ومعرفة حجم التفلت السياسي الساذج الذي نتج عنه اليوم كل ما يحيط بالوطن من مخاطر يتوجب على الجميع مواجهتها بالشجاعة المطلوبة ومواجهة حكم التاريخ القاسي على تضييع وحدة بلد كان بحجم قارة اصبح اليوم عرضة للتقزم والتفتت الذي قد ينتهي به الى عدد من الدويلات في حالة يوغسلافية جديدة. من عرض المؤلف التاريخي الموثق نقف على بعض الاخطاء الجسيمة التي ارتكبتها الحركة السياسية الشمالية بحق الجنوب وبحق الوطن الكبير. من هذه الاخطاء - مثلا : - اهملت الحركة السياسية الشمالية في ان تشرك الجنوبيين قادة واحزابا في المحادثات التي اجرتها مع حكومة ثورة يوليو في القاهرة في اكتوبر من عام 1952 وهي المحادثات التي مهدت لكل ما جرى في السودان في المستقبل. ويثبت المؤلف انه حتى «الحزب الجمهوري الاشتراكي»، وهو الحزب الشمالي الوحيد الذي كان يضم قادة جنوبيين في عضويته في تلك اللحظة، لم يشرك اي فرد من تلك العضويه الجنوبية في وفده المفاوض، أو في مناقشة الاتفاق الذي تمخض عن تلك المفاوضات ! - لم يمثل الجنوبيون في اتفاق الاحزاب السياسية الذي وقع في العاشر من يناير من عام 1953 مع ان الجنوب كان من ضمن المواضيع الخمسة التي ناقشها الاتفاق المشار اليه. - في ديسمبر 1952 اصدرت مجموعة من القادة السياسيين الجنوبيين اطلقت على نفسها اسم «لجنة جوبا»، بيانا اعترضت فيه على التعديلات التي ادخلتها اتفاقية القاهرة على مشروع قانون الحكم الذاتي. وشككت اللجنة في نوايا الحركة السياسية الشمالية لابرامها اتفاقا مع الحكومة المصرية دون استشارة اهل الجنوب ودون اعتبار للاتفاق الذي تم التوصل اليه مع الجنوب في عام 1947. في بيانها تمسكت لجنة جوبا بقانون الحكم الذاتي كما اقرته الجمعية التشريعية. ورفضت اية تعديلات لاتجريها وتجيزها هيئة تمثيلية منتخبة. واعترضت على فترة الثلاث سنوات التي حددت كفترة انتقالية سابقة لتقرير المصير وقالت ان الجنوب يحتاج الى فترة انتقالية اطول لكي يتطور ويلحق بالشمال. وطلبت بقاء الخدمة المدنية على شكلها لكي تقوم بتطوير الجنوب قبل حلول موعد مباشرة الحكم الذاتي. واعربت لجنة جوبا عن تطلعها الى اليوم الذي يتمكن فيه الجنوب من الانضمام الى الشمال في سودان حر ومتحد ومستقل عندما يصبح في مستوى الشمال حسبما يورد المؤلف. ويورد المؤلف ان لجنة جوبا التي كانت تقوم بذلك النشاط السياسي البارز كانت تتكون من 36 شخصية سياسية جنوبية بارزة مثلت مناطق جوبا وتوريت وياي والزاندي. وهي المناطق التي كانت تمثل مراكز الاشعاع في الجنوب. يورد المؤلف ان ظهور الاحزاب الجنوبية بدأ بعد عام 1954 وقبل اجراء انتخابات الحكم الذاتي بوقت قصير. وكان «حزب الاحرار» هو اولها وربما كان اكبرها حجما وتأثيرا. ووقع على اعلان قيامه 23 عضوا من اعضاء البرلمان ومجلس الشيوخ واعلن الحزب ايمانه باستقلال السودان التام ورفضه للصراع الطائفي، وأمن على الحاجة لقيام علاقات طيبة مع مصر والدول الاخرى ولكنه اعرب عن معارضته القوية لأي نوع من الاتحاد مع مصر. ومعارضته القوية لأي سيطرة اجنبية على السودان. ويلاحظ ان الحزب اعلن ان هدفه هو تنمية المناطق المتخلفة في السودان التي تمثلها اقاليم الجنوب وجبال النوية والفور والفونغ. وهي نفسها الاقاليم التي شملها اليوم وصف المناطق المهمشة. وتشكلت قيادة حزب الاحرار الجنوبي من قيادات جنوبية بارزة ومؤثرة وذات اسماء داوية. فالرئاسة اسندت للسياسي الجنوبي البارز بنجامين لوكي واختير استانسلاوس عبد الله بياساما نائبا للرئيس وبوث ديو سكرتيرا عاما وباولو لوقالي امينا للصندوق وكان من قادة الحزب كذلك غردون ايوم والفريد ألودو. الصورة الايجابية التي ظهر بها حزب الاحرار الجنوبي وخطه القومي وحرصه على السيادة القومية السودانية كانت صورة مبشرة بمولد حركة سياسية جنوبية قوية وفاعلة كان يمكنها ان تكون رافدا لا ينضب معينه في دفع وحدة السودان الى الامام. ولكن الحركة السياسية عموما دمرت على ايدي الشموليات العسكرية التي توالت على حكم السودان. غير ان استهداف الاحزاب الجنوبية والحركة السياسية الجنوبية عموما بدأته الاحزاب والحركة الشمالية قبل الشموليات العسكرية وذلك عن طريق ممارسة الخداع والتهميش معهاوافسادها بشراء ذمم وولاء قيادات الحركة السياسية الجنوبية بالرشاوى المختلفة. ان الاجيال السودانية الصاعدة وهي تواجه امتحانا صعبا في ان يبقى وطنها المتحد في شكله الحالي او يزول محتاجة لمزيد من الوقفات مع تاريخ بلدها الحديث حتى تعرف الثغرات التي نفذ منها الخطر الذي يهدد مصير بلدها في الوقت الحاضر. ان مؤلف الدكتور فيصل عبد الرحمن علي طه «السودان على مشارف الاستقلال الثاني» يمثل مرجعا تاريخيا لا غنى عنه لمن اراد ان يقف على اصل حكاية تقرير مصير بلد يراد لها عادة تقرير مصيره من جديد بدلا من اعادة النظر في اخطاء تقرير المصير. لقد اختار الاوصياء هدم المعبد على ساكنيه بدلا من اعادة ترميمه. ولا عزاء للحزانى المندهشين. المصدر: الوطن القطرية 29/6/2010