السياسة الليبية بين شد وجذب لا يتوقف منذ قيام 'الضباط الوحدويين الأحرار' باستلام سلطة البلاد في الأول من أيلول/سبتمبر 1969. تسلم أولئك الضباط الشباب ليبيا وتيار 'التلييب' يشق طريقه، وكان وما زال قويا بين طبقة التجار وموظفي الحكومة وبين بعض القبائل والمناطق. واستطاع الصمود في وجه عمليات الإلجام الشديدة التي قامت بها السلطات الثورية. ويعود مجددا،يفضل الانكفاء ولا يتحمس لارتباط الليبيين بدينهم وعروبتهم. حمل 'التلييب' أبعادا ملفتة للنظر في السنوات الأخيرة، وبدأ قطاع من الرأي العام ينادي بالأوربة والأمركة، إذا جاز التعبير. وينسب رواج هذا الاتجاه لسيف الإسلام. النجل الثاني للزعيم الليبي معمر القذافي. وبلد عمر المختار وقد كان مشدودا لفكرة العروبة ومتعلقا بحلم الوحدة لفترة، تشوهت فيها الفكرة وأجهض لديها الحلم. وبدت في ذروة الالتباس حينما قررت السياسة الليبية خلع رداء العروبة وإدارة الظهر للعرب، واستبداله بالأُفرقة. وكأن هناك تناقضا بين الشخصية الوطنية والهوية القومية والعقيدة الدينية والموقع الجغرافي في شمال القارة السمراء. كلها دوائر تتكامل ولا تتناقض. تتآلف ولا تتنافر. وحين اهتزت الأُفرقة في العقل السياسي الليبي وجدت سيف الإسلام مستعدا لإلباس ليبيا رداء آخر. يوصف من قبل المراقبين برداء الأوْرَبة والأمركة. دون اعتبار لحجم الضحايا ومئات الآلاف من الشهداء الذين دفعوا حياتهم ثمنا لاستقلال ليبيا والحفاظ على وجهها العربي والإسلامي . بدأت الفروق تتضح بين الأجيال. البعض من جيل الأنجال يبدو وكأنه من طينة اجتماعية ومن نسيج ثقافي وقماشة أخلاقية (بالمعنى الفلسفي) مختلف عن حال الآباء. فمنهم المحب للحياة، والمفضل لرغد العيش، ومنهم من ملك ذواتا متضخمة مستعلية يتطلعون نحو الشمال عبر البحر المتوسط، والآباء لا يعترضون ولا يمتعضون. وكانوا في السابق أكثر تقشفا، وأكثر اهتماما بهموم وقضايا الناس، وكثيرا ما سعوا للتوحد مع قضايا بلدهم المصيرية وتحملوا كثيرا العنت في سبيلها. وقبل الدخول في صلب الموضوع، أجد من الضروري التنويه إلى مكانة ليبيا الخاصة في النفس، وهي مكانة صاغتها شراكة الحياة، حين اخترتها وطنا ثانيا في مرحلة هامة من مراحل العمر. فالسنوات التي قضيتها فيها ما زالت محفورة في الذاكرة ومستقرة في الوجدان. وبعيدا عن أجهزة الأمن وسلطات الإدارة، التي لا تختلف كثيرا عن مثيلتها في أي بلد عربي آخر، بعيدا عنها، يستطيع الإنسان أن يكتشف معدن الليبيين، كأناس من أطيب العرب وأكثرهم مروءة وتلقائية وبساطة، إذا ما أحبوك وألفوك صرت منهم وبسطوا حمايتهم عليك. يشعرونك بالأمان والثقة. وذلك هو الذي حفظ لهذا البلد شخصيته وتماسكه وروحه. هذا في وقت يعتبر فيه الشأن الليبي بالنسبة لي، ولكثيرين غيري ، شأنا عربيا وإنسانيا، يعطينا حق سبر أغواره والتعرف على مايجري بداخله. وليبيا وهي تقف على أعتاب مرحلة أراها ملتبسة، وقد تكون فاصلة. من الواجب أن نُعطى المساحة اللازمة من الاهتمام الإعلامي والصحافي، وفهم ما يجري فيها والتعرف عليه ومتابعته. منذ ما قبل أن تطأ قدماي ذلك البلد الشقيق سعيت للتعرف عليه من خلال العديد من أبنائها الذين استوطنوا مصر، خاصة أن المنطقة التي نشأت وترعرعت فيها واحدة من المناطق التي احتضنتهم وامتزجت بهم وتوحدت معهم، ثم من خلال أدبائه ومفكريه ومثقفيه، ومنهم ذوو قامات عالية. جعلت له رصيدا كبيرا في النفس، والأمثلة أكبر من أن تحصى، وأثناء ذلك المسعى وقعت يدي على كتاب للراحل العظيم جمال حمدان، وعنوانه: 'الجمهورية العربية الليبية.. دراسة في الجغرافيا السياسية'، صادر في مطلع سبعينات القرن الماضي. والتعرف على رأي علماء من هذا المستوى، مع المعايشة، يزيد من مستوى الفهم والاستيعاب. واسم الجمهورية ورد عنوانا للكتاب لأن صدوره سبق إعلان الجماهيرية. والكتاب لا يقل في الأهمية عن موسوعة 'شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان ' ، وكما أنطق جمال حمدان الجغرافيا والتاريخ في ' شخصية مصر ' فعل نفس الشيء مع ليبيا . وانتهى إلى أن ذلك البلد الشاسع يعيش وسط بحر أو بمعنى أصح وسط محيط لا محدود من الصحارى والرمال . تتناثر بينه وديان وواحات كجزر متباعدة وسط ذلك المحيط الواسع. هذا أثر على الشخصية الليبية وصاغ دورها في مراحل المد والجزر، وفترات الانبساط والانكماش . وخلص إلى أن ليبيا على مدى تاريخها الطويل، استمرت مشدودة لوظيفتين، في النهوض هي معبر لحضارات المشرق تنقلها إلى المغرب والعكس، وأثناء النكوص تتحول لعازل يحجز بين المشرق والمغرب، في النهوض تتفاعل وتنفتح وتتدافع، وفي النكوص تنكفئ وتذبل . ليبيا تقف على مشارف حقبة جديدة تتشكل بأفكار وطموحات بعض الأنجال، تعكس الفروق بين أجيال الآباء والأنجال ، فبيئات وثقافات الأنجال غير تلك التي نشأ عليها الآباء، فكثير من الأنجال تأسست لديهم غربة. عززتها امتيازات المولد وعمقتها أوضاع خاصة جعلتهم محور الاهتمام ومركز الضوء . وفي ليبيا يبدو أن النفوذ الأكبر والصوت الأعلى الآن هو لسيف الإسلام معمر القذافي . يمسك بيده ملفات ومسؤوليات ضخمة وحساسة . ويشاع في ليبيا أن سيف الاسلام، الذي تصفه صحيفة ' صانداي تايمز ' البريطانية في 27/ 6/ 2010 بأنه اصلاحي ليبرالي. ينافس شقيقه المعتصم بالله. المؤَيَّد من قبل ما وصفتهم الصحيفة ب' صقور ' اللجان الثورية. و يرأس جهاز الأمن القومي . ومع ذلك كان سيف الإسلام خلال السنوات العشر الماضية وراء قرارات أخرجت ليبيا من عزلتها السياسية والاقتصادية . واستطردت الصحيفة البريطانية أنه (أي سيف الاسلام) لا يخفي طموحاته في أن يكون صاحب شأن في العمل العام، رغم رفضه تولي مناصب رسمية . ويتحدث عن ليبيا المغرية المنفتحة، الجاذبة للسياح والأجانب ، مبديا رغبته في جعل ليبيا فيينا شمال افريقيا . وسيف الإسلام يتبنى خطابا يوصف من قبل الغرب بأنه جديد، على العكس تماما من حقيقته ومضمونه، لأن عمره من عمر الظاهرة الاستعمارية ونظامها السياسي الاقتصادي الذي تمخض عنها . والحق يقال ان خطابه، رغم قدمه، يختلف عن خطاب نجل آخر هو جمال مبارك . خطاب سيف الإسلام يدور حول الحريات وحقوق الإنسان وشؤون السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية، أما خطاب النجل المصري يركز على المال والاقتصاد والاستثمار واصطفاء رجال الأْعمال، ونشاطهم وصفقاتهم وسمسرتهم ومضارباتهم، ودورهم في تصفية أصول المجتمع الاقتصادية والمالية والعينية، وفي تفكيك الدولة وتحويلها لشركة يديرها هؤلاء لحسابهم . جمال مبارك قضى على الدولة بكل عراقتها وقدمها، وسيف الإسلام يسعى لبناء الدولة في بلده. مرت ليبيا بهزات وأعاصير أثرت عليها. وأضرب مثلا بعدوان أنور السادات عليها في مثل هذا الشهر من عام 1977 ، ولولا وعي الشعبين والجيشين وقتها ما كانت تلك الصفحة المؤلمة قد طويت. ولو حدث ذلك الآن لكانت قد تحولت إلى حرب ضروس لا تنتهي دون أحقاد أو قطيعة، أو بغير استجلاب الجيوش الغربية لغزو البلدين الشقيقين. المثل الآخر هو العدوان الأمريكي عليها في عام 1986 ، وسقط فيه عشرات الضحايا. ذلك العدوان غير في السياسة الليبية كثيرا . فكك ارتباطاتها وعلاقاتها بقوى المقاومة والتحرر والثورة، خاصة في فلسطين ولبنان. وظهرت تداعياته الكبرى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وما ترتب عليه من انفراد ووحدانية الإدارة الأمريكية في التحكم بمصير العالم، وانتهاز الفرصة لتصفية الحسابات المؤجلة . وخرجت خطط الحصار والغزو الجاهزة من الأدراج، ونزلت إلى حيز التنفيذ، واستغلت الشرعية الدولية في ذلك أسوأ استغلال، لتعبر عن شرعية الأقوياء وأصحاب النفوذ الاستعماري، الذين أسقطوا باقي العالم من حسابهم على مدى العقود الثلاثة الماضية . أعملوا فيه تقطيعا وتقسيما وقتلا. ولم يكن استيعاب السياسة الليبية لما جرى لبلدها كاملا . فالحصار تم بقرارات تلك الشرعية الدولية الفاسدة، وإن نُفذ بأيد عربية مؤمركة ومصهينة، وجانب الصواب السياسة الليبية وهي تحمل مسؤولية الحصار للشعب العربي، من المحيط إلى الخليج ، لكونه لم يتحرك لكسره. وهي تعلم أنه أعزل ، مطحون ، يحتاج العون بدل الإدانة ، والمساعدة بدل اللوم. ومع ذلك أعطت فرصة لحكام ومسؤولين عرب يتاجرون بالحصار ويستثمرونه لحسابهم، وهو الذين ينفذونه ويحكمون قبضته. وترتب على تلك الحسابات الخاطئة أن أدارت السياسة الليبية ظهرها للعرب واتجهت صوب أفريقيا. وعندما استنفدت الأفرقة غاياتها كان الأنجال قد كبروا وصار لهم شأن في صياغة القرار السياسي والاستراتيجي ، وبذلك تمكن سيف الإسلام من فتح أبواب ليبيا على مصراعيها لحقبة قد تعيد ليبيا إلى مناطق النفوذ القديمة . وادعى سيف الإسلام أن أوروبا أقرب لليبيا من العرب والأفارقة. وكانت صحيفة 'الواشنطن بوست' الأمريكية قد أرجعت التحولات الجارية في ليبيا إلى أفكار سيف الإسلام، وذكرت في تقرير لها نُشر في 26 أيار/مايو الماضي أن أفكاره تشكلت في ظل معاناة ليبيا من الحصار والعقوبات التي فُرضت عليها في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ، وبتأثير العزلة التي فرضت عليها واتهامها في حادث تفجير طائرة بان آم الأمريكية فوق قرية لوكربي الاسكتلندية في عام 1988 ، وأشارت الصحيفة الأمريكية إلى أن أفكاره الليبرالية نمت أثناء دراسته للحصول على الدكتوراه في أوروبا . وعن تأثيره على والده الزعيم الليبي نسبت إلى مقربين منه انه هو الذي أقنع والده بالتخلي عن البرنامج النووي والكيميائي والبيولوجي عام 2003 لوضع حد للعزلة المفروضة على بلاده، وبعدها تم شطب ليبيا من قائمة الدول الراعية للإرهاب في نهاية عام 2008 . وأرسلت الولاياتالمتحدة سفيرها إلى طرابلس بعد انقطاع دام 37 عاما، كما تسابقت شركات النفط الأمريكية إلى البلاد، وبدأ العمل في إنشاء فنادق فخمة من أجل السياحة . ونسبت الصحيفة للسفير الأمريكي في طرابلس جين كريتز القول بأن سيف الإسلام يرى أن إقامة علاقة جيدة مع أمريكا والغرب في مصلحة ليبيا. وأضافت بأن يوسف صواني، رئيس مؤسسة القذافي، (ويرعاها سيف الإسلام) يرى أن تأييد الغرب لسيف الإسلام سيف ذو حدين وأن سيف الإسلام يفضل الارتباط بالأفكار الغربية بدلا من تنفيذ المخططات والسياسات الغربية . تحولات واستقطابات تبين أن ملف ليبيا مع سيف الإسلام أكبر من التناول بشكل عابر، ويحتاج الفتح بصورة أشمل وأوسع للتعرف على دقائقه وتفاصيله. ' كاتب من مصر يقيم في لندن المصدر: القدس العربي 11/7/2010