هذه واقعة أوردتها أكثر من مرة لاستفتاء تم قبل سنوات في مدينة أوروبية حيث اختلف أعضاء مجلس بلدية المدينة حول الاستفادة من ميدان هل يتحول إلى مكتبة عامة؟ أم حديقة عامة؟ وتعذر الوصول إلى اتفاق فقرر المجلس حسم الأمر بإشراك سكان المدينة عبر استفتاء، أي التصويت على أحد الخيارين وأيهما الأفضل، الحديقة العامة أم المكتبة؟ واستعدت المدينة كلها لهذا الموقف، وشكلت لجنة محايدة للاشراف على الاستفتاء والاعداد الجيد له، وفي اجواء هادئة تماماً لضمان إقبال المواطنين على صناديق الاستفتاء من جهة ولتأمين سلامة القرار، وقد كان، نال خيار الحديقة أعلى الأصوات وقوبل بالارتياح والرضى من الجميع، هذا نموذج لاستفتاء ايجابي وفي مدينة، للتصويت لصالح خيار الحديقة العامة أم المكتبة العامة؟ أين نحن في السودان من هذا النموذج الحضاري المتقدم، في مواجهة استفتاء مصيري ومفصلي يفضي إلى دعم وحدة قائمة أو أنفصال يواجه مخالب المجهول؟ وقبل الاستفتاء تطلق التصريحات والتحذيرات المبكرة فتنقل التقارير من واشنطن «الرأي العام 30يونيو 2010م» ان السيد باقان أموم خلال زيارته للولايات المتحدة طرح الاحتياجات الأساسية للجيش الشعبي وقوى الأمن الخاصة والشرطة والتوقعات من جانبه بانفجار الأوضاع وأن الدعم العسكري وتوفير امكانيات وأسلحة متطورة أمر عاجل مع اقتراب موعد قيام الاستفتاء لأهل الجنوب»، حسبما نصت اتفاقية السلام الشامل وحددت له 9 يناير 2011م» ثم يدلي بحديث النذير والتحذير، «جريدة الأحداث 4 يوليو 2010م» «لن نؤخر الاستفتاء وتنفيذ نتائجه ولو لثانية واحدة».! وتمعن لافتقار السيد أموم المرونة والنضوج السياسي واستخدام الكلمات الحادة «ولو لثانية واحدة» وكأنما السيد أموم يقبض بكلتا يديه «نتائج الاستفتاء» ثم تمعن في حديثه للشرق الأوسط «6/6/2010» وتحذيره وتهديده «بأن أية دعوة لتأجيل الاستفتاء ستكون بمثابة دعوة لنقض اتفاقية السلام، وبالتالي العودة لمرحلة الحرب»! وبات من الواضح للمراقب المتابع لاحاديثه وتحذيراته، انه يعد نفسه فوق اتفاقية السلام وقوة نصوصها التي وقعها زعيم الحركة الشعبية الدكتور جون قرنق والتي تنص على العمل لتكون وحدة الشمال والجنوب جاذبة ، وهو يحذر من تأجيل الاستفتاء، أو مد فترة أجرائه بدواعي الترتيب السليم والمتعقل والصائب، لقد أدى رئىس واعضاء المفوضية الخاصة باستفتاء الجنوب القسم أمام رئيس الجمهورية يوم 6 يوليو 2010م وعقدت أول اجتماعاتها 7 يوليو 2010م، فهل يعقل ان يجرى الاستفتاء لأهل الجنوب ليقرروا الوحدة أو الانفصال في 9 يناير 2011م أي بعد خمسة أشهر فقط؟ وهل بمقدور المفوضية ومهما امتلكت من خبرة ودراية وامكانيات وأجهزة الاضطلاع بالمهام العاجلة؟ ميزانية المفوضية، وميزانية عمليات الاستفتاء واختيار الأمين العام وبمواصفات عالية ذات قدرات ومؤهلات وخبرات للاضطلاع بالمهام الصعبة والمعقدة والترتيب لنائب رئىس المفوضية ومكتب في الجنوب والاجهزة التابعة له، والأهم من ذلك تطبيق قانون الاستفتاء والتيقن من انفاذ المهام المطلوبة بدءاً من اعداد سجل الناخبين ومراجعته واعتماده واصدار بطاقات التسجيل دون تمييز لمباشرة حقهم في ابداء الرأي الحر في استفتاء سرى على تقرير المصير، وتحديد مراكز الاقتراع الثابتة والمتنقلة، ووضع الضوابط العامة والاجراءات التنفيذية لعملية الاستفتاء واعتماد المراقبين المحليين والدوليين، وأيضاً وضع الجدول الزمني للاستفتاء وتحديد نظم الانضباط والحرية والعدالة السرية المطلوبة للاقتراع وأسلوب مراقبته وضبط واحصاء بطاقات الاقتراع واعلان نتائجه النهائية، وقانون الاستفتاء يعتبر المفوضية هي الجهة الوحيدة المنوط بها تأجيل اجراءات الاستفتاء بسبب ظروف قاهرة شريطة أن تحصل على موافقة الحكومة الاتحادية وحكومة الجنوب على ذلك التأجيل، كما أنها هي الجهة المعنية، وليس السياسيين، أو الشريكين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، التي تقرر الغاء الاستفتاء في أي مركز بناء على قرار من المحكمة إذا ثبت وقوع فساد في الاجراءات وعليها مراجعة الخلل وإعادة الاقتراع، وهي مخولة لاتخاذ الاجراءات ضد أي شخص يرتكب ممارسات فساد، وهناك سلسلة من الاجراءات التي يتعين على المفوضية اتخاذها لتمكينها من الاضطلاع بمسئولياتها على المستوى المطلوب، إلى جانب مراعاة نصوص من يحق له التصويت في الاستفتاء المصيري وأين يصوت سواء في الجنوب أو الشمال أو في خارج الحدود، وطبقاً للقانون فإن ما تتخذه المفوضية يمكن لمن لا يقبل به ان يستأنف ضده للقضاء، أي أنه ليس بمقدور السياسي أن يحدد لها مسبقاً طريقة عملها او موعد بدايته، أو اعتراض على أي من المسؤوليات التي الزمها القانون بالاضطلاع بها. إن مقولة «ان العاجل قاتل»، ينبغي أن تكون ماثلة وحاضرة في العقل السياسي للسودان وبوجه خاص الذين يتعجلون اختصار الزمن وبلوغ النتائج حتى ولو كانت من النوع الفادح الذي نقله امين عام الحركة الشعبية السيد باقان أموم لصناع القرار في واشنطون حيث تنبأ بمخاطر ومهددات قد تقع بعد الاستفتاء وبالتالي فإن الحاجة ماسة «للعتاد العسكري، والاسلحة المتقدمة، لجيش الحركة الشعبية والأمن الخاص». أمام هذه الوقائع والحيثيات يصعب اجراء الاستفتاء المصيري في موعده 9 يناير 2011م أى بعد أقل من خمسة أشهر، وأعرف جيداً رئىس مفوضية الاستفتاء البروفيسور محمد إبراهيم خليل الذي تقلد مواقع مهمة على كافة المستويات وأعلم دقته وتحليه بالحكمة في الخطوط العامة وفي التفاصيل، ولذلك يمكن ان ينظر وبدون املاء من أحد او ضغوط من أي جهة في مد فترة الاستفتاء وتقرير المصير، فقد كفل له القانون هذا الحق، وليس لغيره، وهو كقانوني مقتدر يدرك هذا أكثر من أية جهة أو شخص آخر. نقلاً عن صحيفة الرأي العام السودانية 12/7/2010م