قلنا إن الذي يؤرقنا بحق أن واقعاً جديداً في الأفق السياسي السوداني بدأ – مدفوعاً بأصوات جديدة – يتحدث عن تغيير مسارات الطبيعة التي عرف بها السودان من خلال خريطته بحدودها المعروفة التي لم يستطع المستعمر أن يتجاوزها أو يحدث تغييراً فيها رغم مؤامراته ومحاولاته الكثيرة منذ ما قبل الاستقلال في ذلك، هذه الأصوات ربما تجد آذاناً صاغية لم تسمع ولم تر حقيقة ما حدث في السياق الطبيعي للتجربة السودانية الحديثة. فمياه الأنهار تتدفق من جهة الجنوب باتجاه الشمال تحمل معها نبض الحياة، وأبناء الجنوب تضيق بهم أرض الجنوب وتستعر تحت أقدامهم بنيران الحرب السابقة فينزحون نحو الشمال، هذا الواقع لم تنتجه فكرة سياسية ولكنه نتاج طبيعي لشعب واحد يتمايز في اللون وربما في العقيدة ولكنه يتنفس هواءً نقياً ويشرب من ماء دافق في وطن واحد، إذن هذه الأصوات قبل أن تبلغ ما تصبو اليه في السودان من رغبة لقسمته الى سودانين شمالي وجنوبي عليها أن تنجح أولاً في تغيير مسارات الطبيعة. فالمعنيون بأمر الوحدة هم الغالبية الصامتة التي تتحدث عنها أقلية ربما بغير ما تبتغي، وكما قلنا إن قضايا السلام والوحدة هي خيوط غزلها الاستعمار وخطط لها تخطيطاً محكماً وكأنه يزرع الغاماً في حقول التاريخ ما إن تمضي عليها مسيرة بلد أو دولة إلا وتتفجر، عليه يظل الحدث حول الفصل بين الشمال والجنوب هو دائماً حركة في الاتجاه المعاكس للجغرافيا والطبيعة والكيمياء الحيوية والبيولوجيا. إن الاتجاه نحو الانفصال في ظل عالم يتجه بكلياته الى التكتل والتوحد خاصة في المحيط الاقليمي، مسألة بالطبع غير محمودة كما أن الدولة الوليدة في الجنوب ستجابه بتحديات عدة أهمها القدرة على بسط الأمن. فأوغندا التي ناصرت الحركة الشعبية تخشى أن يؤدي انفصال الجنوب الى اتخاذه مثالاً تحذو حذوه أقليات عرقية في شمالها وجهوية، فتدخل في دائرة الصراع الاقليمي بشكل أقوى مما كانت عليه في السابق خاصة في ظل هاجس عدم الاستقرار. لكن عندما كنا في مريدي، تلك المدينة الساحرة، نهاية الاسبوع الماضي شكا لي كثيرون هناك وحكوا عن معاناة أبناء المقاطعة من خروقات جيش الرب، وطالبوا قوات الأممالمتحدة أن تمنع مثل هذه الخروقات وكذلك عبروا عن مخاوفهم من آثار القتال الذي يقوم به الجيش الأوغندي ضد جيش الرب، فكل هذا الخطر المزدوج يؤثر على سلامة المدنيين ويؤدي إلى استمرار خروقات جيش الرب وعنفه في ولاية غرب الاستوائية، كما أن المواطنين الذين التقيناهم يتوجسون من هجمات وشيكة ربما يقوم بها جيش الرب على بعض مناطق الولاية هناك بعد عمليات الاختطاف والسلب والنهب. نائب رئيس الجمهورية الاستاذ علي عثمان محمد طه اطلق صيحة قوية من مريدي عندما دعا للتعاون بين الحكومة الاتحادية وحكومة الجنوب من أجل حراسة الامن ومنع أي زعزعة أو اضطراب في المنطقة من أية جهة، وقال طه إن قضية الأمن من اهتمامات رئاسة الجمهورية والحكومة الاتحادية واطلقها قوية هنا (لن نرضى موت احد ولن نسمح لاي جهة خارجية أن تزعزع الأمن بالداخل). د. رياك مشار نائب رئيس حكومة الجنوب قال (ما زلنا نجتهد في قضية الأمن حتى يستقر مواطنو الولاية وأن الجنوب الآن آمن وأن خطورة جيش الرب صارت أقل مما كانت عليه قبل ثلاث سنوات)، لكنه أكد التزامهم – حكومة الجنوب – بحل مشكلة جيش الرب نهائياً. أحد المواطنين وهو من أبناء مريدي ويدعي مرجان أبو عمة قال إن مريدي هي أرض محبة للسلام وهي تقع في أقصى جنوب السودان وتتعدد فيها الاجناس وتقطنها خمس قبائل رئيسية وأن اقتصادها يقوم على الزراعة، وعبر (الاهرام اليوم) بعث برسالة يقول فيها إن جيش البب هو مهدد حقيقي وأن المشكلة المستعجلة تكمن في حل هذه القضية وهي رسالة لقوات الاممالمتحدة والحكومة الاتحادية وحكومة الجنوب. أما عن الوحدة ومآلاتها فيقول د. قاسم برنابا (قيادي سياسي من أبناء ولاية غرب الاستوائية) إن الخوية السودانية تتوحد بفعل الثقافة السودانية، وقال (إننا أبناء غرب الاستوائية نقف وراء الوحدة تماماً وتباشيرها هذا السد فمياه الشرب النقية هي احدى دعائم استقرار المواطنين). ويقول د. قاسم (إن اتفاقية السلام عندما وقعت كان أهالي مريدي الاكثر استبشاراً بها رغم معاناتهم من ضربات جيش الرب، فالسلام يحتاج الى قوة والقوة هي في وحدة الناس. وكل النظريات تقول ان القوة هي في التوحد وليست في الانقسام فنحن نتمنى ونسعى لأن يكون هذا السودان موحداً. مريدي مدينة ساحرة تبعد عن مدينة جوبا حوالي 300 كيلومتر غربا وهي تمثل عاصمة لمقاطعة مريدي في ولاية غرب الاستوائية وتسكنها عدة قبائل اهمها الزاندي والمورو مع وجود ثلاث قبائل اخرى وكانت مياه الشرب مشكلة بها نسبة لأن سد مريدي قد اصبح يعاني الكثير بعد أن تم تدمير محطة مياه الشرب التي تغذي المدينة من هذا السد أثناء الحرب السابقة. * جيش الرب في سطور تركز نشاط جيش الرب العسكري على الحدود بين أوغندا والسودان قبل أن ينتقل الى الادغال الواقعة على الحدود الكنغولية الأوغندية، ولجيش الرب ذراع سياسية تدعي حركة الرب التي تسعى للاطاحة بالحكومة الأوغندية. ويتهم جيش الرب بخطف الاطفال من بين ذويهم أو في صفوف الدراسة وابجارهم قسراً على الدخول في التنظيم العسكري ويهدد جيش الرب في الآونة الأخيرة بعض مدن الجنوب بولاية غرب الاستوائية وهو واحد من اسوأ الجيوش المتمردة سمعة ويهاجم القبائل بصورة عشوائية هذا من جانب، أما من جانب آخر فالقتال بينه وبين قوات الحكومة الأوغندية أيضاً كان له أثر سلبي على التداعيات الحدودية والمناطقية هنا من حالة تقدم الجيوش وتقهقرها وما ينجم عن ذلك من أعمال يتضرر منها مواطنو الجنوب. نقلاً عن صحيفة الأهرام السودانية 4/8/2010م