ألقى نيوت غينغريتش خطابا شن فيه هجوما كاسحا على الشريعة الإسلامية، وصفها فيه بأنها «تهديد وجودي لاستمرار الحرية في أميركا والعالم». ونيوت غينغريتش ليس ناشطا سياسيا يعيش على هامش الساحة الأميركية، فهو من أهم رموز الحزب الجمهوري وشغل منصب رئيس مجلس النواب الأميركي في التسعينات، ثم عمل مستشارا لوزارة الدفاع في عهد بوش، ويقال إنه ينوي الترشح للرئاسة في 2012. والحقيقة أنني تابعت غينغريتش عن كثب في التسعينات، فأدركت أنه من أخطر السياسيين الأميركيين على الإطلاق. ومنذ ذلك التاريخ، فإنني أتعامل مع كل ما يصدر عنه بمنتهى الجدية. فالرجل غيّر فعلا وجه الحياة في أميركا، فقد انتخب أول مرة في مجلس النواب في أواخر السبعينات، حين كان حزبه في مقاعد الأقلية، وقاد مجموعة صغيرة غيرت ثقافة المؤسسة التشريعية، حيث استخدم تكتيكات صدامية كانت غريبة على هذه المؤسسة، هدفت لتعطيل الأغلبية وإحراجها. ورغم أن القيادات الجمهورية تجاهلته وقتها واعتبرته ضجيجا بلا طحن، إلا أنه استطاع مع الوقت أن يجمع حوله المزيد من الأعضاء الجدد حتى صار قوة يحسب حسابها، وكان هدفه هو تحويل الحزب الجمهوري إلى حزب الأغلبية في المجلسين. ومع تولى كلينتون الرئاسة في 1993، كان غينغريتش يعد العدة لإنهاء أغلبية الديمقراطيين التي استمرت أربعين عاما. ومن يريد أن يعرف خطورة الرجل، عليه أن يدرس ما فعله في العامين الأولين لحكم كلينتون، وكيف عطل تشريعاته ثم هزمه بألاعيب إجرائية ومناورات بالغة الدهاء في معركة الرعاية الصحية، فكانت تلك هي الضربة القاضية التي أطاحت بالديمقراطيين من مواقع الأغلبية عام 1994. وقتها تولى غينغريتش رئاسة مجلس النواب، وصنع الأجندة السياسية وفرضها على الرئيس، حتى أن كلينتون اضطر وقتها أن يدافع عن نفسه بعبارة ذات دلالة قال فيها «ما زال لي دور«! باختصار، غينغريتش من أكثر السياسيين الأميركيين قدرة على الحشد والمناورة، خصوصا من موقع الأقلية، ومن هنا تكمن خطورة الخطاب الذي ألقاه مؤخرا في معهد «أميركان انتربرايز» اليميني في واشنطن. والمسألة ليست فقط ما قاله، وإنما أن ما قاله يمثل على الأرجح نقطة البدء في حملة عدوانية جديدة على العالم العربي والإسلامي، ربما أكثر شراسة من تلك التي شهدناها في عهد بوش، وهي حملة ألمح غينغريتش إلى أنه يرتب لها بشكل أو بآخر. الخطاب كان عن أفغانستان والأمن القومي الأميركي، لكن غينغريتش هاجم الشريعة الاسلامية، معتبرا أن ذلك هو السياق الصحيح الذي ينبغي أن يناقش فيه الموضوع. فهو اعتبر أن الموجودين في مواقع المسؤولية في أميركا، لا يريدون الاعتراف بالخطر الداهم الذي يتهدد الولاياتالمتحدة، والذي قال إنه يتمثل في تهديدات ثلاثة. الأول؛ هو «الإسلام الراديكالي، المتشدد منه والمتخفي». فالإسلام المتشدد حسب تعريفه، هو ذلك الذي يؤمن باستخدام القوة المسلحة، بينما المتخفي هو الذي يؤمن بالوسائل السياسية والثقافية والفكرية، ولكن يشترك في هدفه النهائي، وهو فرض الشريعة على العالم كله مثل الإسلام المتشدد. ولذلك، فإن المعركة ضد الشريعة تقع في القلب من المعركة ضد «حركة» العدو التي تفرز الإرهابيين. أما التحدي الثاني فهو المنافسة بنجاح مع الصين والهند، والبقاء في موقع الاقتصاد الأول والأكثر تقدما في العالم. وقد ربط غينغريتش ذلك التحدي بالتهديد الأول، حيث اعتبر أن التفوق الاقتصادي هو المفتاح لهزيمة العدو الإسلامي، مثلما كان الحال مع العدو الشيوعي والنازي. أما التحدي الثالث فهو ما أسماه بالتأثير المدمر للتيار «العلماني الاشتراكي» الأميركي، الذي لا يريد الحديث عن الخطر الإسلامي والاعتراف به. والحقيقة أن تلك هي نفسها لغة المحافظين الجدد، الذين طالما اعتبروا أن أعداء الداخل لا يقلون خطورة عن أعداء الخارج. ولما كان غينغريتش قد اتهم أوباما صراحة بأنه اشتراكي وعلماني، فإن التهديد الثالث ليس فقط اليسار الأميركي، وإنما إدارة أوباما نفسها! لكن غينغريتش قال إنه سيخصص ذلك الخطاب للتركيز على التهديد الأول، ومن ثم أسهب في حديثه عن خطر الشريعة الإسلامية، التي اعتبر أنها صارت تتسلل إلى المجتمع الأميركي، ويسعى الراديكاليون لفرضها فرضا على ذلك المجتمع. وقد شن هجوما حادا على جامعة هارفارد، لأنها استعانت ببعض الأساتذة المتخصصين لتدريس الشريعة، وعلى كل الجامعات الأميركية التي تدرس نموذجا للإسلام وصفه بأنه «من باب الدعاية الواضحة«، لأن الشريعة في شكلها الأصلي تنطوي على مبادئ وعقوبات «بغيضة بالنسبة للعالم الغربي». ثم أسهب الرجل في إعطاء الأمثلة الملفقة التي لا تفرق بين سلوك بعض المسلمين وبين الإسلام نفسه، ليخرج بنتيجة مؤداها أن أميركا تواجه خطرا داهما يتهددها، ويتمثل في «تسلل الشريعة» إليها تمهيدا لفرضها. وقد ألمح غينغريتش إلى أنه بصدد العمل على إيجاد استراتيجية شاملة، يتم تطويرها عبر الفترة القادمة من أجل المواجهة. وهي المواجهة التي أكد أنها سوف تستغرق عقودا، ربما أطول من تلك التي استغرقتها المواجهة مع الشيوعية. ما لا يقل أهمية عن كل ذلك، هو أن غينغريتش حدد للمواجهة جبهات ثلاث، أولاها على الأرض الأميركية نفسها، التي حذر من أن الشريعة «تتسلل إليها» بالفعل ويسعى الراديكاليون المسلمون لفرضها «على المجتمع الأميركي»، وثانيها الجبهة الأوروبية. أما الجبهة الثالثة فهي سبع دول في الشرق الأوسط، هي أفغانستان وباكستان والعراق وإيران والسعودية ومصر، وما أسماه «الحدود الإسرائيلية»! حين قرأت الخطاب سألت نفسي، ماذا يا ترى سيكون رد فعل السفارات العربية والإسلامية في واشنطن إزاء ما قيل عن الإسلام «المتشدد» منه و«المتخفي»؟ بل وما قيل علنا بحق الشريعة ذاتها وتلك الحملة المزمعة عليها؟! كاتبة مصرية المصدر: البيان 11/8/2010