عندما يضطر الساسة الأمريكيون على مضض لمناقشة القضايا المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط فإن الملاحظات والتعليقات التي تصدر عنهم تكشف أحيانا كثيرة، عن جهل فاضح بالمعطيات، وهي ملاحظات وتعليقات تفرضها المصالح السياسية أكثر مما يحتمها الواقع. أحيانا كثيرة تثير هذه الملاحظات والتعليقات الدهشة لسطحيتها وغموضها وانعدام قوتها. لا شك أن التعليقات الصادرة عن الساسة الأمريكيين حول الثورة الشعبية التي تشهدها مصر الآن تمثل خير مثال على ما أقول. لا شك أن الأحداث في مصر بالغة الأهمية، وهي تتطلب بذلك رد الفعل السياسي الذي يليق بها، وبالنسبة إلى أغلب الساسة الأمريكيين، فإن اتخاذ موقف قوي من الأحداث التي تشهدها مصر لم يكن في الحقيقة يتطلب معرفة أي شيء عن مصر، فكل ما فعله هؤلاء الساسة هو النظر إلى الثورة الشعبية المصرية إما من خلال الرؤية الحزبية الضيقة وإما من خلال الولاء الدفين لإسرائيل. لذلك فقد شهدنا كثيرا من التعليقات التي يدعو بعضها إلى الدهشة والغرابة فيما اتسمت أخرى بالخطورة. على سبيل المثال، قالت رئيسة لجنة الشئون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي، النائبة الجمهورية إيلينا روسلهتينن: "يجب على السيد مبارك أن يبدأ فورا تحديد تاريخ لإجراء انتخابات شرعية وديمقراطية ومعترف بها دوليا"، غير أنها أضافت أنه "يجب على الولاياتالمتحدةالأمريكية أن تتعلم من أخطاء الماضي وتسعى إلى دعم مسار يشمل مرشحين تتوافر فيهم المعايير الأساسية الضرورية التي تميز قادة الدول المسئولة، أي قادة ينبذون علنا الإرهاب ويكرسون سيادة القانون.. ويعترفون بمعاهدة كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل". هذا كلام يحمل في طياته الكثير من التناقض. بعبارة أخرى، تدعم إيلينا روسلهتينن الديمقراطية التي تبنى على الأسس التي نحددها نحن ولا يحددها المعنيون بالأمر أنفسهم. هذا يتنافى مع حديثنا عن "احترامنا لإرادة الشعب" غير أن موقفها يظل على أي حال أفضل من التعليقات المغرقة في الحزبية التي صدرت عن الرئيس السابق لمجلس النواب الأمريكي نيوت جنجريتش. يشاع أن نيوت جنجريتش يفكر في الترشح إلى الانتخابات الرئاسية القادمة. نيوت جنجريتش هذا شخصية ضحلة إذ انه لا يكاد يفقه أي شيء عن قضايا الشرق الأوسط. إنه ينجو بجهله وضحالته فقط لأنه يعطي الانطباع بأنه يتمتع بقوة الشخصية كما أنه قد تكون لديه فكرة ذكية أو اثنتان. لقد قال تعليقا على الأحداث الراهنة في مصر: "هناك إمكانية حقيقية بأن تلحق مصر خلال بضعة أسابيع بكل من إيران ولبنان وغزة، بل تلحق بكل الأمور التي تحدث والتي تمثل خطرا جسيما يتهددنا". بعد أن ابان عن ضحالته الفاضحة وقلة فهمه وإلمامه بالشرق الأوسط راح نيوت جنجريتش يسخر من سذاجة الرئيس باراك أوباما واعتبر أن أوباما "ذهب إلى القاهرة وألقى خطابه الشهير هناك الذي قال فيه إنه يجب أن نكون جميعا أصدقاء لأننا لا نختلف عن بعضنا بعضا ولا توجد اي فوارق بيننا. اعتقد أن هناك فوارق كبيرة بين جماعة الإخوان المسلمين وبيننا". أطلق نيوت جنجريتش طلقة أخرى حيث انه زعم أن "الإدارة الأمريكية لا تملك أي فكرة". بعد ذلك، وسعيا منه إلى أنه يملك فكرة بارعة، عرض على الرئيس باراك أوباما هذه "المشورة": "ادرس ريجان وكارتر ثم افعل مع فعله ريجان وتجنب ما فعله كارتر". إذا كانت مثل هذه المواقف المغرقة في الحزبية تعتبر مسألة مركزية للبعض، وأكثر أهمية للآخرين، سواء منهم الديمقراطيون أو الجمهوريون، فلابد أن نوضح أيضا أن الأمر برمته مرتبط بإسرائيل. أما المرشح السابق للانتخابات الرئاسية والحاكم السابق مايك هاكابي، على سبيل المثال، فقد استغل الأحداث الراهنة في مصر كي يقوم بزيارته الخامسة عشرة لإسرائيل، حيث راح يتباكى ويقول: "إن الإسرائيليين قد أصبحوا يشعرون بأنهم وحيدون.. ولا يمكنهم الاعتماد على الولاياتالمتحدةالأمريكية، لأنهم ببساطة لم يعودوا يثقون بأن الولاياتالمتحدةالأمريكية ستقف في صفهم". أما النائبان الديمقراطيان شيلي بيركلي وأنثوني وينر، فقد راحا يعبران عن مخاوفهما من "الديمقراطية العربية". فقد لاحظ وينر أن "إسرائيل قد اكتوت بهذه النار من قبل حيث ان الديمقراطية قد أدت إلى انتخاب أعدائها"، فيما عبر شيلي بيركلي عن صدمته قائلا: "إن الواقع كالتالي: إن الديمقراطية التي نفكر فيها تختلف كل الاختلاف عما نراه من ديمقراطية في الشرق الأوسط". أما النائب جيسي جاكسون الابن فقد اراد أن يبرهن على ذكائه ويبدي اهتمامه بالشؤون الدفاعية غير أنه فشل في ذلك فشلا ذريعا. فقد قال: "يجب ألا تسقط التكنولوجيا العسكرية الأمريكية في أيدي الإخوان المسلمين أو حلفاء إيران في مصر. إن شراكتنا مع مصر قد أعطتها امتياز الحصول على التقنية العسكرية الأمريكية.. يجب العمل على تأمين سلامة التكنولوجيا العسكرية الأمريكية حتى لا تسقط بأيدي الأعداء". لقد ركز بعض نواب الكونجرس الأمريكي فيما يعتبرونه خطرا كبيرا يتهدد قناة السويس جراء هذه الانتفاضة، إضافة إلى التخوف من احتمال التهاب أسعار النفط. لذلك فقد راحوا يطالبون البيت الأبيض بضرورة استغلال الأزمة الراهنة من أجل تركيز جهوده في مشروع قانون الطاقة في الكونجرس الأمريكي. هناك أمر محير جدا في خضم كل هذه الأحداث، فخلال العقود القليلة الماضية سنحت الفرصة للقادة السياسيين الأمريكيين كي يتعلموا أكثر عن العالم العربي كما أن الظروف كانت تحتم عليهم أن يفهموا المنطقة العربية. على الرغم من ذلك كله فقد فشل أولئك الزعماء السياسيون. كنتيجة لذلك، فقد ظلوا يتعاملون مع القضايا الحساسة كأنها مجرد قضايا سياسية. لذلك فإن الساسة الأمريكيين ينظرون إلى الانتفاضة التي تنشد التغيير في مصر أو في تونس إما من خلال تداعياتها المحتملة على إسرائيل وإما استخدامها كهراوة غليظة لضرب الخصوم. في الحقيقة، ما يحدث في مصر لا يخص سوى مصر من دون سواها. لا أحد في ميدان التحرير ينتظر مباركة من نيوت جنجريتش أو حتى من باراك أوباما. لقد كان المذيع التلفزيوني الأمريكي في منتهى الغباء حيث انه أراد أن يستدرج المتحدث باسم جماعة الإخوان المسلمين كي يعترف بإسرائيل كدولة يهودية. يا له من غباء! لم يكن إليوت أبرامز بأقل غباء. يعتبر إليوت أبرامز من أشد منظري المحافظين الجدد في عهد إدارة جورج بوش السابقة وقد كتب مقالا خلال الأيام القليلة حاول فيه أن ينسب إلى بوش الفضل في الانتفاضة التي تشهدها مصر الآن، بما أن الرئيس الأمريكي بوش كان يروج لأجندة تدعو إلى نشر الديمقراطية وهو ما لم يفعله الرئيس باراك أوباما. إن الواقع أكثر تعقيدا من ذلك. لقد تكلم جورج بوش عن الديمقراطية فعلا، لكنه راح بعد ذلك يلهث وراء سياسات إقليمية وجدت رفضا شعبيا واسعا من الرأي العام العربي، الأمر الذي اضطر الحكومات الصديقة لنا إلى إخضاع أصوات شعوبها من أجل الحفاظ على صداقتها وتأييدها لأمريكا. لقد أدرك القادة العرب أن اصطفافهم مع سلطات واشنطون وتعاونهم مع الولاياتالمتحدةالأمريكية قد يكلفانهم ثمنا سياسيا باهظا، فهذه الصداقة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تؤد إلا إلى نزع الشرعية عن حكمهم في الداخل. عندما تكون شعبية الولاياتالمتحدةالأمريكية في مصر لا تتعدى نسبة 12% (النسبة اقل من ذلك حاليا) فإن التودد للولايات المتحدةالأمريكية يكون ثمنه باهظا ويعود على أنظمة الحكم العربية بالوبال. ربما يحب الساسة الأمريكيون أي يستمعوا إلى أنفسهم وهم يتحدثون، غير أنه يتعين عليهم أن يدركوا أنهم ما لم يكتسبوا المعرفة الأساسية، على الأقل، بالعالم العربي ويسعوا إلى تغيير السياسات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، فإنه لن يكون لهم دور إيجابي بناء قد يلعبونه. قد يهدد الساسة الأمريكيون بوقف المساعدات وقد يفرضون مزيدا من المطالب غير أنه يجدر بهم أن يتبنوا السبيل السليم ويجنحوا إلى تأكيد مبادئنا الأصيلة ويلبوا دورا أكثر تواضعا ويدعوا الأمور تسير على طبيعتها من دون أن يدخلوا فيها. إن المصريين المحتشدين في ميدان التحرير قد يفرحون بالإطاحة بالرئيس غير أنهم لن يصفقوا لنا بكل تأكيد. عندما تهدأ الأمور فإن الولاياتالمتحدةالأمريكية ستظل تنتهج السياسات نفسها، كما أن الغضب العربي الساخط على مثل هذه السياسات الأمريكية لن يتغير فحسب، بل إن جذوته ستزداد. * رئيس المعهد العربي - الأمريكي المصدرأخبارالخليج 8/2/2011