القضاء يستلزم العدل، وهي القيمة الاساسية في الحياة الانسانية، فهو عنوان للتوازن والمساواة بين الناس ودعم الصحيح ورفض الخطأ. به تستقيم امور البشر، ويطمئنون بضمان حقوقهم وتمتعهم بحياة تتناسب مع اذواقهم. فاذا غاب العدل عن القضاء، سقطت احكامه، واصبح يمثل الظلم، بدلا من العدل. وكثيرا ما قدم الميزان التقليدي ذو الكفتين المتأرجحتين، للتعبير عن العدل وعدم ترجيح كفة على اخرى. ويمكن القول ان الصراع البشري عبر القرون انما هو من اجل اقامة النظام العادل الذي يساوي بين الناس. ويقاس مدى تقدم الدول في انظمتها السياسية بمدى ممارستها العدل بين المواطنين، واعطاء كل ذي حق حقه، ومن ذلك حق المواطنين في ادارة بلدانهم. ولذلك قيل 'العدل اساس الملك'. وقد أمر الله سبحانه وتعالى باقامة العدل 'ان الله يأمر بالعدل والاحسان'، وأمر الله رسوله باعلان الهدف من رسالته بالقول 'وأمرت لأعدل بينكم'. ويعتبر الفصل بين السلطات من بين وجوه التطور البشري لتحقيق مستوى مقبول من العدل القضائي. والسؤال هنا: هل يمارس العدل حقا في عالم اليوم؟ وفي عالم حافل بمظاهر العولمة، هل هناك عولمة للعدل والقضاء العادل؟ وكيف يمكن تفسير ظاهرة تسييس القضاء بشكل فاضح خصوصا عندما يتعلق الامر بواحدة من قضايا العالمين العربي والاسلامي؟ في الاسبوع الماضي فاجأ السيد حسن نصر الله، الامين العام لحزب الله اللبناني، الجميع في مؤتمر صحافي عرض فيه معلومات خطيرة عن تحركات اسرائيلية واعمال رصد متواصلة لحركة رئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، قبيل اغتياله في 2005، على امل ان تأخذها المحكمة الخاصة باغتياله في اعتبارها، واعادة التحقيق الذي اعتبره ضمنا 'انتقائيا' و'ناقصا' و'مسيسا'. وعبر نصر الله عن امله بان يعاد التحقيق في جريمة الاغتيال مجددا وعدم استثناء احتمال تورط اسرائيلي في تلك الجريمة، مؤكدا ان ما قدمه 'معطيات' جادة لا يمكن تجاهلها لاية جهة تسعى للكشف عن المرتكبين الحقيقيين لتلك الجريمة. ويعتبر عدم جدية الاممالمتحدة في فحص كافة الجهات المحتمل تورطها في الجريمة، انتقائية غير مبررة، وتسييسا غير منطقي يلغي العدالة كقيمة يجب ان ترعاها المنظمة الدولية في عالم يسوده الظلم. ومن سياق تطور الاوضاع اللبنانية في الشهور الاخيرة، كان واضحا ان التوافق الوطني لا يصب في صالح الكيان الاسرائيلي الذي ما فتىء يؤلب الرأي العالم ضد سلاح المقاومة، ويحرض ضده بهدف القضاء عليه. وكاد الوضع اللبناني ينفجر في الاعوام الاربعة التي اعقبت العدوان الاسرائيلي ضد لبنان في 2006، بسبب الضغوط السياسية التي مورست على بعض الجهات اللبنانية لاثارة سلاح المقاومة في الوقت الذي أصر فيه حزب الله على ضرورة الاحتفاظ بذلك السلاح خصوصا مع استمرار الاعتداءات الاسرائيلية ضد ذلك البلد. وجاء العدوان الاسرائيلي على غزة ليؤكد استمرار الخطر الصهيوني على الفلسطينيين واللبنانيين، وضرورة اليقظة والحذر لمواجهته. وقد لوحظ كذلك وجود ضغوط على الحكومة اللبنانية ل 'استمزاج' ردة فعل حزب الله فيما لو وجهت اتهامات رسمية من قبل المحكمة الخاصة لبعض عناصره 'غير المنضبطة' بالضلوع في جريمة الاغتيال، الامر الذي رفضه السيد نصر الله بشكل قاطع، مصرا على ان عناصر حزب الله ملتزمة بقرارات القيادة، وان اتهامهم بالجريمة محاولة لتوتير الاوضاع اللبنانية مجددا وانهاء شهر العسل بين كافة الفصائل اللبنانية. والسؤال هنا: ما مدى استقلال الجهات المرتبطة بالاممالمتحدة التي تنظر في مثل هذه القضايا؟ في السنوات الاخيرة قامت الاممالمتحدة بخطوات عديدة بهدف اظهار اهتمامها بمبدأ العدل وممارسته خصوصا في القضايا الكبرى مثل الابادة الجماعية. وقامت بتشكيل محاكم خاصة لمحاكمة مرتكبي جريمة الابادة الجماعية من بينها المحكمة الخاصة بالبوسنة والهرسك، والمحكمة الخاصة بسيراليون. واثيرت في الاسابيع الاخيرة ضجة حول استلام عارضة الازياء الشهيرة، ناعومي كامبل، هدايا ثمينة من تشارلز تيلور، الرئيس السابق لسيراليون، الذي يحاكم حاليا امام المحكمة الخاصة بالحرب الاهلية في ذلك البلد، بتهم خطيرة من بينها الابادة الجماعية. والواضح ان مثول ناعومي كامبل وما قيل عن استلامها 'مجوهرات دموية' من تشارلز تيلور، عبارة عن قطع غير نظيفة من الالماس الذي تشتهر سيراليون بانتاجه وتصديره، له بعد سياسي لا يتصل مباشرة بالتهم الموجهة اليه. وبالتالي فان تسييس القضاء من اكبر معوقات ممارسة العدالة، ويعتبر من أخطر آفات الوضع الدولي الحالي. يضاف الى ذلك ظاهرة 'الانتقائية' في التعاطي مع القضايا ذات الابعاد السياسية والاستراتيجية المتميزة. فما الذي يدفع الاممالمتحدة لتشكيل محاكمات خاصة ببعض القضايا دون غيرها؟ فاذا كانت الحروب المرتبطة بهؤلاء المتهمين قد نجمت عنها اعمال قتل واسعة ترقى لاعتبارها 'ابادة' فان هناك حروبا اخرى لا تقل في نتائجها الخطيرة عن حربي سيراليون والبوسنة والهرسك. فالحرب الدائرة في افغانستان ادت الى مقتل الآلاف من المدنيين. وتقول الأممالمتحدة إن نسبة الضحايا بين المدنيين في أفغانستان قد ارتفعت إلى أعلى معدل لها منذ اندلاع الحرب هناك، وإن عدد القتلى منهم في النصف الأول من العام قد تجاوز 1200. ويمثل هذا الرقم ارتفاعا في نسبة الضحايا بين المدنيين بنسبة 31'، فيما جرح في الفترة نفسها 1997 شخصا. ومع ان اغلب القتلى المدنيين، حسب ما تقوله الاممالمتحدة، يسقطون على ايدي مقاتلي طالبان، فان هناك حاجة للتحقيق في هذه الدعاوى من جهة، وتشكيل محاكم خاصة للمتورطين في افغانستان والعراق من جهة اخرى. وليس معروفا بشكل دقيق عدد القتلى المدنيين في العراق، ولكن يتوقع ان عددهم تجاوز 100 الف انسان منذ حرب 2003. وكانت الجزائر، هي الاخرى قد شهدت سقوط اعداد هائلة من المدنيين في الحرب الاهلية التي حدثت بعد الغاء الانتخابات في 1992، ولم يجر تحقيق دولي في ذلك، ولم يعلن عن تشكيل محكمة خاصة لمحاكمة المتورطين في تلك الحرب وما اعقبها من حرب اهلية حصدت ارواح ما لا يقل عن 200 الف انسان. ولعل الاتهام الاكبر الذي يواجه مثل هذه المحاكم الخاصة انها تمثل 'محاكم المنتصرين'، او 'انتقام المنتصرين' وهي تهمة وجهت للحلفاء بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي حوكم فيها من تبقى من رموز الحزب النازي، وصدرت احكام اعدام بحق عدد منهم واخرى بالسجن ضد الآخرين. ويرى النشطاء الحقوقيون ان هذه المحاكم لا توفر القدر الادنى من العدالة، وانها تمثل رغبة المنتصرين في الانتقام من اعدائهم برغم الهزيمة العسكرية لهؤلاء الاعداء. وحتى الآن لم يسمع عن محاكمة اي من الضباط او الجنود الامريكيين او البريطانيين الذين شاركوا في الحروب الطويلة على مدى العقدين الاخيرين من الزمن. والظلم هنا يقع حتى على مواطني الدول المنتصرة، فلا تعرف حقيقة ما حل بهم اذا ماتوا او قتلوا. وهناك الآن توجه بريطاني لاعادة التحقيق في الظروف الغامضة لوفاة 'ديفيد كيللي' مفتش الاسلحة السابق في العراق، الذي كانت له آراء مختلفة حول مدى امتلاك العراق اسلحة دمار شامل. وقد عثر على جثته في 2003، وقيل وقتها انه قد انتحر. وهناك تشكيك في تلك الرواية من قبل بعض الاشخاص الذين اصبحوا الآن في وزارة التحالف البريطانية. فاذا كان تسييس المحاكمات بعدا خطيرا يمنع ممارسة العدالة، فان الانتقائية مظهر آخر لانتفاء العدالة على المستوى الدولي. فما الذي يدفع الاممالمتحدة للتحقيق في بعض القضايا دون غيرها؟ لماذا لم تشكل لجنة لتقصي الحقائق في اغتيال الشهيد محمود المبحوح على ايدي الاستخبارات الاسرائيلية؟ لماذا لم تستجوب عملاء الموساد الذين اعتقل بعضهم في المانيا وبولندا، وآخرهم يوري برودسكي، الذي سلمته بولندا لألمانيا؟ لماذا لم تحقق في اغتيال عماد مغنية قبل عامين في دمشق؟ لماذا لم تحقق في اختطاف مردخاي فعنونو في 1986من قبل عناصر الاستخبارات الاسرائيلية بعد كشفه امتلاك 'اسرائيل' مشروعا نوويا عسكريا؟ ويفترض ان يكافأ هذا الرجل على كشفه ذلك المشروع الخطير الذي يناقض مبدأ منع انتشار الاسلحة النووية، ولكنه بقي مكشوفا امام اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية التي سجنته 18 عاما وما تزال تعتقله بين الحين والآخر حتى عندما يتصل بصديقته السويدية. وفي الاسبوع الماضي اطلق سراحه بعد ان قضى 11 اسبوعا في الاعتقال للمرة الثالثة. وثمة حقيقة اخرى في هذا الجانب، مفادها ان الامن والسلم الدوليين لا يمكن ان يتحققا الا ضمن اطر نظام دولي يمارس العدالة بشكل يؤدي الى تعميق ثقة الناس به وبقدرته على محاصرة الظلم. فكيف يتحقق ذلك اذا تواصلت سياسات 'الانتقائية' و'الازدواجية' ازاء قضايا المظلومين في العالم. فحتى الآن لم يحاكم اسرائيلي واحد بتهمة الابادة او ارتكاب جرائم ضد الانسانية خلال الحروب المتواصلة على لبنان وفلسطين. فكيف يمكن ان يثق الفلسطيني او اللبناني الذي يتعرض للعدوان المتواصل من قبل الصهاينة بالنظام الدولي الذي يرفض اصدار قرار واحد لادانة المعتدين؟ أية عدالة هذه التي يمكن ان تنتشر في عالم تهيمن عليه قوى كبرى ترفض ممارسة العدالة تجاه من يختلف معها؟ فالعدل مطلوب حتى مع المحاربين والاعداء حسب المنطق القرآني 'ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى'. بينما تسمح ادارة اوباما لنفسها بمحاكمة المواطن الكندي، عمر خضر، الذي اعتقل في 2002 في افغانستان عندما كان عمره 15 عاما فقط، امام محكمة عسكرية. هذه المحكمة انتقدها اعضاؤها فضلا عن غيرهم. وقال احد المحلفين 'ان غوانتنامو قضية غير رابحة'. بينما رفض الادعاء العام عضوية آخر بفريق المحلفين لانه قال: يبدو ان امريكا خسرت موقعها كرمز للحرية والعدالة بخطفها الافراد من بلد لآخر، وسجنهم في معتقلات سرية، ومعاملتهم بلا انسانية في غوانتنامو وافغانستان'. فاذا كانت الولاياتالمتحدة، وهي البلد الكبرى ذات النفوذ الاقوى على الاممالمتحدة تتصرف بهذه الاساليب فأية عدالة متوقعة من المحاكم الخاصة التي تشكلها الاممالمتحدة؟ ولذلك لم يكن غريبا ان ينفجر محامي تشارلز تيلور، البريطاني كورتني دغريفيث امام المحكمة التي تحاكم موكله ضد النظام القضائي الدولي قائلا انه يركز على افريقيا فحسب. وانتقد المحكمة الجنائية الدولية قائلا: 'ماذا حدث لغزة، وسريكلانكا وبورما؟ بصراحة، ما الذي حدث لتوني بلير وجورج بوش حول حربهما غير الشرعية في العراق؟'. انه لأمر محمود ان تكون هناك مرجعية قضائية دولية، ولكن بشرط ان تتمتع بامور عديدة. اولها ان تكون بمعزل عن تأثير الدول الكبرى، وليس مثل مجلس الامن الذي يخضع لاملاءاتها، ثانيها: ان تتمتع باستقلال في اختيار القضايا التي تنظر فيها، ثالثها: ان تنظر في كافة القضايا من ذات النمط. فتهتم بجريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري، كما تنظر في اغتيال محمود المبحوح، وتعيد ملفات الاغتيال السابقة كاغتيال خليل الوزير (أبوجهاد) وصلاح خلف، ومحمد علي رجائي (الرئيس الايراني في مطلع الثمانينات). وفي غياب هذه السياسة المتوازنة في التعاطي مع القضايا السياسية والامنية تصبح الانتقائية سمة ملازمة لسياسات الاممالمتحدة، الامر الذي يفقدها مصداقيتها، ويجعلها طرفا منحازا وليس مستقلا. ولذلك فالتعاطي مع قضية اغتيال رفيق الحريري سوف يكون معيارا لمدى قدرة المحكمة الخاصة على ممارسة مستوى لائق من العدالة يعيد للرأي العام ثقته بالقضاء الدولي الذي ما يزال يفتقد الصدقية والتوازن. ان ما قدمه الامين العام لحزب الله في مؤتمره الصحافي خطوة نوعية في اسلوب التعاطي مع القضايا التي تهم الامة. فقد اعتمد اسلوب تقديم الدليل وعدم اصدار الاحكام، على امل ان تنظر جهة الاختصاص القضائي في ذلك الدليل وتعيد النظر في ما كانت تعتبره 'ثوابت' في تحرياتها. الواضح ان تلك التحريات لم تكن كاملة وشاملة، بل موجهة وفق فرضيات مسبقة، وخلفيات مسيسة، وانتقائية مفرطة. واذا ادعت المحكمة الخاصة بانها لم تمتلك معلومات حول امكان وجود دور اسرائيلي، برغم ان تلك الفرضية يجب ان تكون قائمة حتى قبل توفر الدليل، فان ما قدمه السيد نصر الله من ادلة ترجيحية تفرض على المحكمة الخاصة مسارا آخر يجب ان لا تدير ظهرها اليه. ان هناك فراغا رهيبا على صعيد القضاء الدولي العادل، وهو امر لا يحقق الامن والسلم الدوليين، ويتطلب عملا دؤوبا لملئه بممارسة قضاء عادل من جهة وشامل من اجهة اخرى. وما لم يتضح للرأي العام وجود رغبة اكيدة لدى الاممالمتحدة في اعادة فتح الملف الاسرائيلي الذي يحتوي ممارسات تصنف ضمن الابادة، والجرائم ضد الانسانية، بالاضافة الى الدور الذي توفرت قرائن حوله من خلال ما عرضه الامين العام لحزب الله، فسوف يستمر التشكيك في مدى فاعليتها في ممارسة العدالة وعولمتها. اما لو اقدمت على ذلك، فسوف يكون الموقف مختلفا ازاء القضاء الدولي وسيحظى بثقة اوسع بين من يعتقدون انهم ضحايا هذا النظام الذي بقي حتى الآن منحازا مع الظالم ضد المظلوم. ' كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن المصدر: القدس العربي 18/8/2010