إن لم تحدث مفاجآت تؤدي إلى التأجيل أو إلى أن تنتهي عملية الاستفتاء على تقرير المصير لجنوب السودان المقررة في يناير المقبل إلى التصويت لصالح خيار الوحدة، فإن الجنوب سينفصل بكل تأكيد قياساً على كل المؤشرات السياسية التي شهدتها قضية الجنوب طوال السنوات الخمس الأخيرة التي دفعت بشدة تجاه إقرار الانفصال. ولعل السؤال الذي يشغل المعنيين بالشأن السوداني قبل نحو شهرين من موعد الاستفتاء هو ما الذي سيترتب على هذا التطور بالنسبة للدولة الجديدة المفترضة وعلاقاتها بالمنطقة العربية وبإفريقيا والعالم الغربي، وهل سيكون خيار الدولة الانفصالية حلاً نهائياً للصراع بين شمال وجنوب السودان الذي يمتد بجذوره إلى عقود عديدة مضت، أي سيقود إلى السلام أم إلى تجدد الحرب الأهلية. بداية فإن خيار الانفصال ظل مرفوضاً من حيث المبدأ من جانب كل الجهود التي بذلت عربياً واقليمياً وعلى الصعيد السوداني نفسه وبدلاً من ذلك كانت هذه الجهود تركز على خيار الوحدة وفي أضعف الاحتمالات على التكامل بين شطري السودان باعتبار أن هذا هو الطريق إلى تحقيق السلام والتنمية في الجنوب والحفاظ على وحدة وتراب السودان، واحترام تقاليد منظمة الوحدة الإفريقية التي شددت على عدم اثارة الخلافات التي تؤدي إلى احياء نزاعات موروثة تقود بدورها إلى انقسامات عديدة في دول القارة. وهكذا كان الهدف الرئيسي الذي قامت عليه اتفاقية نيفاشا للسلام عام 2005 هو الوحدة، بينما جعلت الاتفاقية الانفصال هو الاستثناء تأكيداً لحق تقرير المصير اذا لم تنجح تجربة دمج الجنوب في السلطة، وبناء على ذلك شارك الجنوب في الحكم وأعلن قادته أكثر من مرة أنهم مع خيار الوحدة. ولكن من الناحية العملية فإن مرور الوقت كان يشير بقوة إلى أن الطرفين في طريقهما للانفصال، لأسباب ترجع إلى الصراع السياسي العقيم بين الفرقاء السودانيين حول قضية الديمقراطية والتعامل مع نظام حكم الرئيس البشير، وإلى العجز عن الوفاء بمتطلبات اتفاقية السلام بالنسبة للتنمية في الجنوب، وإلى خضوع قيادات الجنوب للمؤثرات الخارجية المشجعة على تفعيل الانفصال، اضافة إلى الضغوط الخارجية التي تعرض لها نظام حكم الرئيس البشير على خلفية الأزمة المتعلقة بدار فور، حتى القضية المتعلقة بالجنوب وكأنها استفتاء على بقاء هذا النظام نفسه، وابتعدت عن المسار الذي خطته لها اتفاقية السلام، وعبثاً حاول الوسطاء الحكماء على الصعيد العربي، وفي الساحة السودانية الحفاظ على روح هذه الاتفاقية فأصبح الاستثناء (أي الانفصال) هو الأصل وتناسى الفرقاء السودانيون المخاطر المحدقة بتراب ووحدة السودان بعد أن سيطر عليهم هاجس المقاومة لنظام حكم البشير أو التخلص منه، خصوصاً أن هذا النظام لم يجد دعماً عربياً كافياً وواجه في نفس الوقت ضغوطاً خارجية قوية. ودون التقليل من وزن الضغوط الخارجية التي ظلت تدفع التطورات السودانية في الشمال والجنوب إلى خيار الانفصال، ودون اهمال وجود مؤامرة خارجية في هذا الشأن حيث لا يخفي تأثير اسرائيل في الجنوب، فإن الصراع السياسي الداخلي بين كل الفرقاء السودانيين هو الذي فتح الباب على مصراعيه لتحويل الاستثناء (الانفصال) إلى أصل في مسألة تقرير مصير الجنوبيين. كانت الانتخابات السودانية التي أجريت في إبريل 2010 أهم المشاهد السياسية المعبرة عن وقوع قضية الجنوب فريسة للصراعات السياسية السودانية الداخلية بما وضع القضية في طريق معاكس تماماً لما كان مرجواً من اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) الموقعة في 9 يناير 2005. هذه الانتخابات حظت بأهمية غير مسبوقة سواء في الشمال أو الجنوب حيث كانت أول انتخابات تعددية ديمقراطية في السودان خلال أكثر من عشرين عاماً منذ وصول نظام الانقاذ إلى السلطة عبر انقلاب 30 يونيو 1989. وجاءت الانتخابات قبل بضعة أشهر قليلة من موعد الاستفتاء على حق تقرير المصير للجنوب، وكانت تطبيقاً لنفس الاتفاقية التي نصت على اجراء انتخابات عامة في النصف الثاني من المرحلة الانتقالية، كما نصت المادة 216 من دستور السودان الانتقالي لعام 2005 على أن تجرى انتخابات عامة على كل مستويات الحكم في موعد لا يتجاوز نهاية العام الرابع من الفترة الانتقالية في موعد أقصاه 9 يوليو 2009 على أن تكون هذه الانتخابات تحت رقابة دولية حتى تتمخض عنها حكومة منتخبة تقود البلاد إلى الاستفتاء على حق تقرير المصير لجنوب السودان المقرر له أن يتم في 9 يناير 2011. وحدثت عقبات عديدة واجهت تطبيق اتفاقية نيفاشا وخلافات على القوانين والاجراءات المنظمة للعملية الانتخابية مما أدى إلى ارجاء الانتخابات لأكثر من مرة حتى استقر الأمر على اجرائها في الفترة من 11 إلى 18 إبريل 2010. ارجاء الانتخابات ضيع فرصاً عديدة على وجود حكومة تعمل على اجراء الاستفتاء وسط مساحة كافية من الوقت، واجراؤها في إبريل كان يعني أن الحكومة لن يكون لها الوقت الكافي أو المناسب للتأثير في مجريات الأمور قبل الاستفتاء حيث سرعان ما سيدهمها وقت الاستفتاء دون أي اعداد جاء من جانبها يمكنها من الحفاظ على روح الوحدة التي قامت عليها اتفاقية نيفاشا. وطبقاً لهذه الاتفاقية كان من المفترض أن ترعى الحكومة الجديدة (التي تأخر موعدها جداً) عملية تطبيق الاتفاقية وأن تقوم بتحسين أو ايجاد الظروف التي تجعل الوحدة بديلاً جاذباً. وما حدث في هذه الانتخابات - التي أعادت الثقة في حكم نظام البشير - كشف إلى حد كبير كيف أن تداعيات الصراع السياسي بين الفرقاء، والتباطؤ في تطبيق الاتفاقية قد دفعت بشدة في اتجاه تعظيم فرص الانفصال وليس الوحدة.. يقول هاني رسلان الباحث المتخصص في الشأن السوداني في دراسة قيمة له عن الانتخابات السودانية 2010 ان أحزاب المعارضة الرئيسية ممثلة في حزب الأمة القومي، والأمة، والاصلاح والتجديد، والحزب الشيوعي، وحزب المؤتمر الشعبي بقيادة الترابي، بالاضافة إلى بعض أحزاب الجنوب، كانت قد اجتمعت بدعوة من الحركة الشعبية لتحرير السودان في مدينة جوبا عاصمة الاقليم الجنوبي في الفترة من 26 إلى 30 سبتمبر 2009، وأصدرت اعلانا سياسيا طالبت فيه حزب المؤتمر الوطني بضرورة الاستجابة لمجموعة من المطالب السياسية تعلقت بقضية الحريات وأزمة دارفور واستعادة الديمقراطية، وحددت لذلك سقفاً زمنياً ينتهي آخر ديسمبر 2009، وفي حالة عدم الاستجابة لهذه المطالب فانها ستضطر للنزول إلى الشارع والدعوة إلى العصيان المدني. ونشأ عن مؤتمر جوبا ما عرف باسم «تحالف الاجماع الوطني» أو «أحزاب اعلان جوبا»، وسعت هذه الأحزاب إلى تطبيق استراتيجية موحدة تحول دون فوز عمر البشير في انتخابات 2010. ولكن هذا التحالف فشل في وضع استراتيجية للوحدة واتجه أعضاؤه إلى طرح مرشحيهم منفردين بهدف تشتيت الأصوات بما يجعل البشير لا يحقق نسبة ال 50% في الجولة الأولى. والحقيقة أن أعضاء التحالف بحثوا عن مصالحهم الخاصة والأولويات في أجنداتهم السياسية لا عن اسقاط البشير أو احراجه وما جمع بينهم كان خاصية واحدة هي خصومتهم المشتركة مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم والسعي لازاحته عن السلطة. الحركة الشعبية لتحرير السودان تراجعت عن الأهداف التي تحدث عنها مؤتمر جوبا السابق المشار اليه بعد أن حصلت على مطالبها الأساسية فيما يتعلق بالقانون المنظم للاستفتاء على حق تقرير المصير والذي تم تمريره في البرلمان نهاية ديسمبر 2009. بعد هذا القانون لم تعد الحركة تهتم كثيراً بمجريات العملية الانتخابية، وكان واضحاً للمراقبين في انتخابات 2010 أن هذه الانتخابات لا تعني الحركة الشعبية الا من زاوية واحدة باعتبارها خطوة أساسية لابد منها قبل تطبيق حق تقرير المصير، ولتفريغ أي حجة قانونية لحزب المؤتمر الوطني أو لأي جهة أخرى تريد تعطيل الاستفتاء. لقد قرر الفرقاء السياسيون السودانيون، بمن فيهم الحزب الحاكم أن يتعاملوا مع انفصال الجنوب وكأنه أمر مرغوب أو أمر واقع لا فرار منه بعد أن دخلوا في صراعات سياسية عميقة حول السلطة وادارة الحكم في السودان. وفي ظل تدني التقاليد الديمقراطية في المنطقة العربية وعدم توافر مقوماتها المجتمعية والسياسية الحقيقية، والاهتمام بانجاز الديمقراطية على نحو شكلي لاعطاء الانطباع بالحق والشرعية في ممارسة السلطة، فإن الحديث عن نزاهة أي انتخابات أمر تحوطه الشكوك. وفي الحالة السودانية المعنيين بها في هذا المقام فإن هذا الوضع انطبق على الحزب الحاكم مثلما انطبق أيضاً على المعارضة والحركة الشعبية ذاتها. فبعثتا الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي أشارتا إلى وجود بعض أوجه النقص والتقصير، الا أنهما اعتبرتا الانتخابات خطوة مهمة على طريق التحول الديمقراطي بالنظر إلى الظروف التي يمر بها السودان، وأما البعثتان الأكثر أهمية - كما يقول هاني رسلان - فقد أشارتا إلى أن الانتخابات لم تستوف المعايير الدولية ولم ترق إلى ما وعدت به الخرطوم من انتخابات حقيقية، وان كانت - حسب اعتقاد كارتر- سوف تحظى باعتراف المجتمع الدولي. والقصد أن عملية الاستفتاء المنتظرة أوائل العام من الصعب القول بشأنها أنها ستتم في أجواء ديمقراطية حقيقية قياساً على ما حدث في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، خصوصاً اذا أخذنا في الاعتبار وجود مصاعب لوجستيه، وأن الأغلبية العظمى من أبناء الجنوب أميون ولا دراية لهم أصلاً بالخلافات السياسية الجارية بين الحركة وحزب المؤتمر الوطني، فضلاً عتن استمرار الخلافات الجوهرية بين هذين الطرفين حول الحدود والثروة والمياه ووجود جنوبيين في الشمال وشماليون في الجنوب، ومسألة الجنسية بالنسبة للجنوبيين الذين سيقررون البقاء في الشمال.. الخ. وهذا يعني أن الانفصال قد يبدو خياراً مرغوباً للأسف أو لا فرار منه أمام كل الفرقاء، ولكنه في نفس الوقت لا يشير إلى توافر المقدمات التي يمكن أن تقيم دولة جديدة ولا يدفع بالثقة أن البلاد لن تعرف طريقها بعد ذلك للحروب الأهلية حيث الخلافات الجوهرية ستظل قائمة وتدفع إلى التوتر المسلح مجدداً. والملفت في كل ذلك أن الدول الغربية بدأت تتعامل مع الانفصال على أنه قادم لا محالة وأنها ستقف وراء الدولة الجديدة المفترضة في الجنوب بكل قوتها عسكريا واقتصاديا، حتى أن الأممالمتحدة ذاتها بدأت تتهيأ لقبول هذا العضو الجديد! مما يؤكد دورها في دفع السودان إلى التقسيم. وهكذا يبدو خيار الانفصال مريحاً لعديد القوى السياسية السودانية وللدول الغربية، ولكن أحداً من هذه القوى وتلك الدول لا يهتم بالنتائج الكارثية التي ستترتب عليه لاحقاً. وربما تداركاً لهذه النتائج وأملاً في تحقيق وطأتها تضمن القرار الصادر عن القمة العربية الاستثنائية التي عقدت بمدينة سرت الليبية (9/10/2010) بخصوص السودان إلى تكثيف الاتصالات العربية والإفريقية مع القيادات السودانية لتشجيع طرفي السلام على القبول بنتائج الاستفتاء في اطار تكاملي يضمن الاستقرار والسلام في ربوع السودان كافة وفي المنطقة برمتها. *كاتب مصري المصدر: الوطن القطرية 7/11/2010