حقق مؤتمر تنمية وإعمار الشرق السوداني الذي استضافته الكويت مطلع الشهر الجاري، نجاحا كبيرا بمقاييس الهدف العام للمؤتمر الذي استقطب دولا وكيانات اقتصادية وسياسية مانحة، كما استقطب مستثمرين عربا وأجانب استراتيجيين. الحكومة السودانية بدت أنها تبدي اهتماما غير تقليدي لهذا المؤتمر الذي جاء في وقت تدخل فيه البلاد كلها مأزقا تاريخيا، بسبب أجندة الانفصال التي طرحت نفسها بقوة والتي لم تكن حكومة الشمال تحسب لها حسابا، فقد حظي موضوع الانفصال بتدخلات غير تقليدية من قوى سياسية عالمية قلبت جميع الموازين، الأمر الذي أربك جميع متخذي القرار في الخرطوم الذين أبقوا موضوع الانفصال طي الإهمال منذ توقيع اتفاقية السلام، ويبدو أن الأطرف الآخر كان يعد كعكة المفاجأة مع تلك القوى الدولية، ولذلك، كانت واجهة مسرح السياسة في الخرطوم فعلا مباغتا غير متوقع. الخرطوم اليوم، وقد بات موضوع الانفصال أمرا حتميا لا محالة، تحاول ترتيب أوراقها على أكثر من صعيد بشيء من العجلة التي قد تصاحبها عثرات كبيرة وخطيرة، غير أنها لا تملك إلا أن تمضي على نفس وتيرة السرعة التي تتخذ بها قرارات مصيرية، على الرغم من أن هذا الأسلوب لا يفرّخ سوى حالة من حالات تعاظم المطبات والمنزلقات المحفوفة بالمخاطر. الانفصال يعني رفع يد الشمال السوداني عن عوائد النفط الذي بات يشكل أكثر من 75% من إجمالي الدخل المحلي للدولة، و95% من ميزانيتها، مما يعني بالضرورة أن حكومة الشمال مرغمة مع الانفصال على التخلي عن أقوى سلاح تمتلكه الدولة في تاريخها، وتتنازل عنها شاءت أم أبت، من دون أن يكون لها بدائل استراتيجية تنموية واقتصادية جاهزة يمكنها الاستعاضة بها عما فقدته أو ستفقده قريبا قريبا جدا، وفق الترتيبات التي يتم تحديدها بشأن (تصفية الذمم) وتوزيع الممتلكات. في اعتقادنا، ولأن كل شيء جاء مباغتا، فإن مؤتمر إعمار الشرق لم يكن مخططا له، ضمن تلك البدائل التنموية والاقتصادية، بقدر ما كانت وليدة مصادفة، تجعل من منجزاته مشاريع استراتيجية لحكومة الشمال، تنطوي على أهمية بقدر التعويض عن الفاقد والخسائر المحتملة، وحجم التعرض الاقتصادي والتنموي لهذه الخسائر، وتبعات ذلك كله على مجمل الشئون السودانية في عام يتوقع أن يباغت السودانيون بمفاجآت كثيرة لم تكن في الحسبان، على أن أسوأ ما يمكن أن يباغت به أهل الشمال، هو العودة مجددا إلى مربع السودان في بدايات ثورة الإنقاذ بكل تفاصيله. وليس من المستبعد أن يعيش عرب السودان مجددا، سنوات عجافا طويلة مريرة، ريثما تلوح لهم أضواء في نهايات أنفاق طويلة معتمة تزيدها التواءات التضارب المرتقب في السياسات العامة للدولة ظلمة. نعم، لقد بلغت التزامات المانحين للمشاريع التنموية والاقتصادية ال 177 المعلنة في المؤتمر بالكويت نحوا من 3,5 مليارات دولار، غير أن هذه الأموال لا ترد إلى مشاريع التنمية هكذا بين عشية وضحاها، حيث يتم توزيعها بطبيعة الأمر بين سلسلة من المشاريع تتباين من حيث تواقيت بدئها ومددها ومن حيث العوائد (قصيرة، متوسطة، طويلة المدى)، الأمر الذي يقلص كثيرا فرص جني مكاسب مباشرة منها للحكومة، لا سيما إذا عرفنا أن المستثمرين الأفراد في كثير من هذه المشروعات، ينتظرون مكاسب كبيرة منها، مقابل حصص متناهية للحكومة السودانية، حيث تتمتع هذه المشاريع التنموية أو الاقتصادية (متوسطة وطويلة المدى) إلى إعفاءات تتراوح بين 5 إلى 10 سنوات، ليس للحكومة أن تتوقع منها أية مكاسب. ويبقى أمام الحكومة الإسراع في الخطى نحو الاستثمار الفوري من خلال شركاء أقوياء من المنطقة وخارجها، والاستعجال بدعوة الشركات العالمية المتخصصة للبدء، بدون تفويت أية فرص مهما صغر حجمها، في التنقيب واستخراج المعادن التي يختزنها هذا الإقليم الثري بالموارد الطبيعية، لعل أهمها الذهب والنفط والغاز. نحن لا نشك في أن الحكومة السودانية قادرة على صنع المعجزات، فعلى أقل تقدير، هي قادرة أكثر من الظروف التي فجرت فيها النفط من آبارها الحالية، وبنت لإمداداته واحدا من أطول خطوط النفط في الشرق الأوسط (على طول 610 كيلومترات)، حتى تدفق النفط السوداني من ميناء (بشاير) في الشرق، وقد يستهلكها استخراج وتصدير النفط من نفس إقليم التصدير مختزلة كلف بناء ذلك الخط الطويل من الأنابيب، ومتمتعة بقوة ونفوذ ماليين كبيرين قياسا بما كانت عليه قبل تفجر النفط، ولكن البداية. نحن نرتقب ونترقب أن يعلن الرئيس السوداني تاريخا كما سبق ان فعل في التجربة الأولى السابقة، وأعتقد أن تفجير استقبال عوائد نفط وغاز الشرق سيكون أسرع بكثير من السنة التي أعلنها مدة لتصدير النفط السوداني، وكان حينها النفط في علم غيبيات السودانيين. وعلى عكس السوداوية التي قدمناها في بداية هذا العمود، فإننا نرى أن استثمار النفط في الشرق السوداني، سيكون بمثابة أكبر حافز لمستثمرين استراتيجيين للدخول بقوة في السودان الشمالي، ونعتقد أن القادرين على قراءة سيناريوهات المستقبل السوداني، قد بدأوا يعدون العدة للدخول بتلك القوة المرتقبة في الاستثمار في السودان، من خارج الاتفاقيات التي أبرمت على هامش مؤتمر الإعمار، ولا أدل على ذلك، من الأنباء التي تداولتها وكالات الأنباء حول اعتزام الأمير السعودي بندر بن خالد استثمار 5 مليارات دولار في قطاعات الاتصالات والبناء ومشروعات صناعية في السودان. عودة مرة أخرى إلى مؤتمر المانحين، إننا نتوقع أن يكون الخليجيون المستثمرين الأكثر بروزا، فقد حظيت المشاريع التي طرحت باهتمام كبير على مستوى المستثمرين الأفراد والحكومات، ففيما وعدت الكويت بتخصيص نصف مليار دولار لتمويل مشاريع في الإقليم تعهدت إيران ب 200 مليون دولار، والبنك الإسلامي للتنمية ب250 مليونا، وقدم الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية التزامات ب 210 ملايين دولار، كما التزمت المؤسسة العربية لضمان الاستثمار بتقديم دعم مالي بمقدار 300 مليون دولار للاستثمارات في شرق السودان، وقدم صندوق إعمار الشرق 250 مليون دولار، بالإضافة إلى المنظمات الخيرية والتطوعية التي قدمت نحو 100 مليون دولار، حسبما تم تناقله على مستويات رسمية. ومن بين المشاريع ال 177 التي تقدر كلف تمويلها بحوالي 42 مليار دولار، مشاريع تنموية استراتيجية مثل إنشاء سد بقيمة 600 مليون دولار وثلاثة مصانع للأسمنت بقيمة 450 مليون دولار ومشاريع للطرق والكهرباء بتكلفة 430 مليون دولار. أما فيما يتصل بالمشاريع الاقتصادية، فإنها تتباين بين مشاريع الزراعة والبستنة والمواشي وتضم مشاريع للإنتاج الحيواني والزراعي في ولاية كسلا، ومشاريع للحوم البقر في ولاية القضارف، ومشاريع لبناء النشا والجلوكوز ومصنع في ولاية القضارف، وأخرى لإنشاء الفاكهة والخضر في أبقيق ولاية القضارف، وخامسة لإنشاء محطات معالجة الفاكهة والخضر في ولاية كسلا. أما المشاريع الخاصة بالاستثمار العقاري، فإنها تضم مشروعين الأول: عبارة عن بناء برج مركز خدماتي ضخم لمدينة بورسودان، والآخر لبناء مركز للأطباء في ولاية البحر الأحمر . مشاريع الأسماك تضم أيضا مشروعين الأول خاص بتنمية مصايد الأسماك في ولاية كسلا، والثاني خاص بتنمية الثروة السمكية البحرية في ولاية البحر الأحمر، فيما تضم المشاريع السياحية مشروعا لبناء مجمع سياحي سكني في ولاية هيولت البحر الأحمر. وكانت مشاريع القطاع الصناعي من ضمن المشاريع الرئيسية التي قدمت في المؤتمر وحظيت بقبول كبير، وتتألف من خمسة مشروعات هي: بناء مصنع للاسمنت في ولاية كسلا، إنتاج الجير الحي والجير المطفأ في ولاية القضارف، إنشاء مصنع للورق في ولاية القضارف، إنشاء مصنع الدباغة الجلدية في ولاية القضارف، وبناء مصنع للأسمنت في الدولة دورديب البحر الأحمر. المؤتمر شهد أيضا دخول مانحين غير عرب، حيث بلغت الالتزامات البريطانية 70 مليون دولار، فيما بلغت الالتزامات الصينية 35 مليون دولار، والتزمت المفوضية الأوروبية بالتزامات تقدر قيمتها ب 24 مليون يورو، والتزمت ايطاليا ب 30 مليون يورو، ولذلك، فإنه من المرجح أن تكون كفة المستثمرين العرب في السودان هي الأرجح في السنوات الخمس المقبلة، وعلى الحكومة السودانية أن تخلق مناخا مشجعا لاستقطاب المزيد من هذه الاستثمارات العربية، ولعل السبق بتوفير الطاقة من خلال الاستخراج المكثف للنفط والغاز، سيكون أكثر الأسباب الجاذبة لاستقطاب الاستثمارات الوافدة المباشرة إلى السودان في المرحلة المقبلة من تاريخ سودان عربي آمن من الحروب. المصدر: اخبارالخليج 13/12/2010