كنت أتحدث إلى صديق صحافي ذهب إلى السودان حديثا من أجل كتابة عدد من التقارير تتعلق بالاستفتاء الذي سيجرى في التاسع من كانون الثاني/ يناير من أجل تحديد مصير جنوب السودان، وفوجئت عندما قال لي الصديق إن الذي أثار اهتمامه ليس هو الاستفتاء بل ثراء هذا البلد الطبيعي في مختلف مناطقه، في الشمال وفي الجنوب وفي أبيي، وقال لي لم أصدق التقارير عندما قرأت أن نسبة الفقر في بعض مناطق السودان تبلغ خمسة وتسعين في المئة، إذ كيف يمكن أن يكون الإنسان في السودان فقيرا إذا كان النيل يشق هذه البلاد مسافة آلاف الكيلومترات، والأمطار تنزل في كل مكان والثروة الحيوانية تزيد عن مئتي مليون رأس، فإذا استفاد الناس من ألبانها فقط أصبحوا أكبر قطر مصدر للجبن في العالم، وابتسمت ثم قلت له وكيف وجدت العاصمة الخرطوم، فقال مدينة ضخمة جدا ولكنها منتشرة بشكل عشوائي وتنقصها الخدمات الأساسية والمواصلات العامة ويسكنها خليط كبير من البشر، فقلت له وكم عدد السكان في نظرك، فقال سمعت أنهم لا يقلون عن ثمانية ملايين، فقلت له وما ذا يعمل هؤلاء فقال لا أدري. عند ذلك ابتسمت وقلت له هذه المدينة عندما خرج الإنكليز من السودان كان يسكنها نحو مئتين وخمسين ألفا، ولكن بعد الاستقلال بدأت الهجرة من الأقاليم، حيث ترك الناس زرعهم وضرعهم وجاؤوا إلى العاصمة ظنا منهم أن الحياة فيها قد تكون أفضل مما هو الحال في الأقاليم فتكدست العاصمة بأسلوب غير صحي وأصبحت الملايين تعيش حياة هي دون خط الفقر. وقلت له في الوقت ذاته حين خرج الإنكليز من السودان كانت الخرطوم مدينة حديثة بمعنى هذه الكلمة، فقد كان يطلق عليها العاصمة المثلثة المكونة من الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان، وعلى الرغم من أنه لم يكن هناك سوى جسرين في ذلك الوقت أحدهما يربط الخرطوم بحري بالخرطوم والآخر يربط الخرطوم بأم درمان، فإن العاصمة كانت مرتبطة بشبكة جميلة من 'التراموايات'، والقطارات البخارية، ذلك إلى جانب خدمات البصات المنتظمة، والغريب أنه بمجرد أن نال السودان استقلاله، ألغى المسؤولون شبكة 'التراموايات' لأسباب غير معلومة ولم يكتفوا بذلك بل أزالوا الخطوط الحديدية التي تسير عليها التراموايات كما أزالوا الأسلاك الكهربية التي كانت تمد التراموايات بالطاقة التي تسير بها، وحتى الآن فإنني لا أفهم سببا معقولا لذلك، أما بالنسبة لعدم استخدام الموارد الطبيعية في الزراعة وغيرها، فما أعلمه هو أنه حتى بداية عهد الاستقلال كان السودانيون لا يعتمدون في طعامهم على القمح لأنهم ما كانوا يأكلون رغيف الخبز كطعام أساسي وكانوا يعتبرون أكل الرغيف هو فقط لأولاد الريف المهاجرين من مصر وتركيا والبلاد العربية، وكان السودانيون يأكلون الكسرة التي تصنع من الذرة، وعلى الرغم من أنه كان هناك الكثير من حقول الذرة فإن نسبة كبيرة مما كان يأكله الناس كان ينمو بصورة طبيعية إذ تنزل الأمطار لتجد التقاوي والبذور على الأرض لتنمو عيدان الذرة التي يعتمد عليها الناس في طعامهم. أما لماذا لم يحدث التطور المرجو في المستوى الزراعي بعد الاستقلال فلأن المسؤولين في الدولة لم يركزوا على مفهوم التنمية الاقتصادية، بكونهم كانوا مشغولين بقضايا الحكم وكان الاستقلال في نظر الكثير من الزعماء لا يعني بناية الدولة الحديثة بل كان يعني فقط كيف تسيطر النخب الطائفية والدينية على السلطة من أجل المحافظة على مكانتها الاجتماعية، وذلك ما جعل راشد الغنوشي يقول في نقده للحركة الإسلامية في السودان إنها لم تحاول تأسيس نظام إسلامي في البلاد لأن هدفها كان مركزا على مبادىء طائفية وقبلية وعنصرية. وإذا نظرنا إلى هذا الواقع في مجمله وجدنا أنه كان من الأسباب الرئيسية في الوضع الذي تواجهه البلاد في الوقت الحاضر، ذلك أن الجنوبيين يقولون إن الشمال لم ينصرف لتنمية مناطقهم، وذلك حق ولكن ليس ذلك لأن الشمال كان منصرفا لتطوير نفسه، إذ كل ما كانت تحفل به السلطة في الشمال هو تشكيل الحكومة، ومن الطريف أنني كنت أعمل في فترة من الفترات في وزارة المالية السودانية، وكنت من الذين يسهمون في وضع الميزانية العامة للدولة وميزانية التنمية والتخطيط، ولا أذكر مطلقا أننا كنا نعتمد على أرقام مؤكدة إذ سائر الأرقام التي نضعها في الميزانية كانت مقدرة، وكانت تناقشها الأحزاب بحماس شديد في البرلمان وكأنها كانت ترمي إلى واقع اقتصادي حقيقي، وحين عملت في قسم الضرائب في الوزارة كنت ألاحظ أنه لم يكن هناك نظام ضرائب حقيقي، بل كان نظاما عشوائيا إذ كنا نقدر الضرائب فقط لمن يقع في قبضتنا دون أن تكون لدينا وسائل حديثة لمعرفة دافعي الضرائب الحقيقيين، وكان معظم دافعي الضرائب بعد التقديرات يأتون لمفاوضتنا في الوزارة لكي نتنازل لهم عن كثير من الاستحقاقات المقدرة ويتم ذلك أيضا بطريقة عشوائية. هذا الوضع هو المسؤول عن غياب نظام الدولة في السودان وهو الذي أدى إلى درجة عالية من التخلف الاقتصادي هي التي كانت سببا وراء المشاكل القائمة اليوم في الجنوب ودارفور، ومع ذلك لا تفكر السلطات السودانية في التوجه نحو بناء نظام الدولة بل تفكر فقط في الوسائل التي تحافظ بها على نظام الحكم، ويظهر ذلك واضحا في التصريحات الأخيرة التي صدرت عن الرئيس السوداني عمر البشير التي قال فيها إنه لن يعترض إذا اختار جنوب السودان الانفصال وإذا حدث ذلك فإنه سوف يعلن الشريعة الإسلامية نظاما في الشمال وسوف يجعل اللغة العربية لغة الدولة الرسمية، فهل ذلك هو مطلب السودان في الوقت الحاضر؟ ما نعلمه هو أن نظام البشير الذي أتى بانقلاب قبل أكثر من عشرين عاما جاء لكي يقيم نظام الشريعة الإسلامية ولكنه حتى الآن لم يقم هذا النظام، وكل ما حققه قادة النظام الثراء غير المشروع، وكما قال الأستاذ محمد كريشان فإن ما قصده الرئيس السوداني هو القول إن من يعارض نظامه بعد الاستفتاء فهو يعارض النظام الشرعي الذي يمثله، ومؤدى ذلك ألا يسأل أحد عن مسؤولية من قادوا البلاد إلى الانفصال في هذه الظروف، وما إذا كان الانفصال ضروريا لأهل الجنوب الذين لا يختلفون في توجهاتهم عن أهل الشمال، إذ هم فقط يريدون السيطرة على الحكم دون اهتمام بمستقبل البلاد بصفة عامة، والغريب أن وزير الخارجية السوداني علي كرتي يرسل تحذيرا لحكام الجنوب المقبلين بقوله إذا فتح القادة في الجنوب مجالا للتعاون مع متمردي دارفور فإن ذلك يعني إعلان حرب بين الشمال والجنوب، وكأنه سيكون هناك شمال وجنوب دون أن يتنبه الوزير إلى أن المؤامرة التي تحاك ضد السودان لا تتوقف عند انفصال الجنوب بكونها ستمتد أيضا إلى الشمال، وكما قال الصادق المهدي فإنه بعد الجنوب سوف تبدأ ثورة جنوب الشمال، وسمعنا قادة الحركة الشعبية يتحدثون عن كتائب جيش الشمال بقيادة ياسر عرمان، فماذا يريدون من الشمال إذا حققوا الانفصال؟ الإجابة هي أن القضية لا تنحصر في الشمال فقط لأن المؤامرة أكبر من ذلك بكثير، وأقول إن المستهدف بها هي مصر بكون الولاياتالمتحدة وإسرائيل لا تريدان أن تكون مصر دولة قوية في المستقبل، وخنق مصر إنما يكون بالسيطرة على السودان، ومع ذلك فإن المسؤولين المصريين يتحدثون عن السودان وكأنهم دولة عظمى قادرة على أن تقدم المساعدة له، مع أن مصر بحاجة الآن أن تقدم المساعدة إلى نفسها، وهذا أيضا موقف الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى الذي لا يهتم بغير أن يتم الاستفتاء في ظروف حسنة دون أن يتساءل عن شرعية الاستفتاء ذاته، ودون أن يدعو إلى مؤتمر قمة عربية عاجلة لبحث الوضع في السودان. ولكن قد يقول الجميع سبق السيف العزل، وربما كان ذلك صحيحا، ولكن ينبغي أيضا إنقاذ ما يمكن إنقاذه بالحفاظ على شمال السودان، وهنا ينبغي أن تحرك مصر جيشها للمشاركة مع الجيش السوداني في الحفاظ على ما تبقى من وحدة السودان، خاصة أننا لحظنا أخيرا مؤتمرا للمانحين في الكويت لدعم شرق السودان وقد يكون ذلك مدخلا جديدا لمزيد من التعقيد في شرق السودان، ولا نقول إن مصر قادرة على أن تفعل الكثير ولكن يجب أن تدرك مصر أن السير في خط وحدة وادي النيل سيحمي مصالحها ومصالح الشعب في شمال السودان. ' كاتب من السودان المصدر: القدس العربي 30/12/2010