9 يناير 2011 موعد استفتاء أو بالأحرى انفصال جنوب السودان عن الوطن الأم وإعلان قيام دولته المستقلة فيما يمثل أهم التطورات السياسية في السودان منذ الاستقلال عام 1956، وبينما لا يبدو صعباً في ظل ما آلت إليه علاقات الشمال بالجنوب من تداعيات قادت إلى انشطار الجنوب، فإنه يبدو شديد الصعوبة فيما يتعلق بالعلاقات المستقبلية بين الجانبين، حيث يتبارى المحللون والسياسيون في عرض صورة بالغة القتامة لكل منهما قد تشهد الانجراف إلى حروب دموية. والقارئ المتابع يستطيع أن يقف على شكل وطبيعة التوقعات القاتمة التي تنتشر في وسائل الإعلام العربية المقروءة والمرئية. ولكن القليل من المحللين الذين يطرحون تصوراً مختلفاً للمستقبل جوهره التعاون بين أبناء السودان الجديد سواء في الشمال أو الجنوب. وينبني هذا التصور على أن المصلحة ستدفع كلا منهما إلى التعاون لا إلى الصراع. واللافت أن السودانيين أنفسهم على المستوى الشعبي بالدرجة الأولى باتوا مقتنعين بأن الأمور ستمضي على هذا النحو، أي إلى التعاون، على عكس أصحاب الرؤية الخارجية الذين يراقبون الأحداث ويركزون على أن الطرفين يتجهان إلى الصراع. المصادر العربية الرسمية تبني تقديراتها على أن العلاقات يجب أن تتجه إلى التعاون دون أن يؤثر ذلك على الوضع السياسي الجديد لكل منهما، فبغض النظر عن طبيعة نظام الحكم هنا وهناك والقيادات التي تتولى زمام الأمور، وتاريخ الخلافات الطويل بين الجانبين، فإن التصور الاستراتيجي الذي تتبناه الأطراف العربية المعنية هو إقامة شبكة مصالح قوية بين «دولتي السودان الجديد» تغلق الأبواب أمام الأسباب المحتملة للصراع وتفتح المزيد من أبواب التعاون. وهكذا عرضت هذه الأطراف على القيادات السياسية في الشمال والجنوب - قبل موعد الاستفتاء بأسابيع قليلة - فكرة «الكونفدرالية»، أي ان يصبح السودان (بالشمال والجنوب) دولة واحدة ولكن كونفدرالية تختص بأمور الدفاع والسياسة الخارجية بينما الدولتان تتمتعان بكامل صور السيادة الأخرى. والهدف من ذلك هو أن يعيش السودانيون كلهم في بوتقة واحدة في نهاية المطاف. إلا أن الطرفين لم يتحمسا لهذا الطرح حيث اكتفى قادة الشمال بالتأكيد على أنهم سيدرسون الموضوع، بينما كان قادة الجنوب أكثر صراحة في الرفض حيث شددوا على أهمية أن يحصلوا أولاً على الاستقلال وبعدها يكون لكل حادث حديث، أي تحديد شكل الدولة المستقبلية التي تجمع الطرفين. وقد يرى البعض أن عرض فكرة الكونفدرالية على الطرفين جاء من منطلق إبراء الذمة، أي تحذير كل منهما من مخاطر عديدة محدقة تتطلب أن يكون التعاون هو جوهر علاقاتهما المستقبلية لا الصراع، والاجتهاد في طرح تصور يسمح بدرء هذه المخاطر حتى لا يكون لأي منهما حجة - عند وقوع الكارثة - بأنهما لم يجدا من يقدم النصيحة المخلصة أو أنه رحب ضمنياً بما آلت إليه الأوضاع من الانفصال وترك كلا منهما لمصيره المحتوم دون أن يفعل شيئاً. وفي منطقتنا العربية كثير من هذه الأحداث الجسيمة التي كانت تجد النصيحة ولا تقبلها الأطراف المباشرة ثم تؤول الأوضاع إلى محن وكوارث. وبالرغم من هذا فإن الرسالة العربية التي وصلت بقوة إلى الطرفين هي أن انكفاء كل طرف على ذاته وسودانه الجديد أياً كان شكله ومضمونه وتوجهاته والتربص بالآخر مستقبلاً على أمل تغيير واقع الانفصال وفقاً لمخططاته الاستراتيجية، لن يكون مقبولا عربياً، ولن يجد بالتالي دعماً لتفعيله، وإنما المطلوب هو أن تبقى علاقات أبناء السودان ككل كما هي مستقرة وقائمة على التعاون دون أي عوائق حتى في وجود دولتين كاملتي السيادة. الرسالة مفيدة للجنوبيين مثلما هي كذلك لأهل الشمال، ولأهل دارفور الذين يراودهم حلم الانفصال أيضاً ولن يتأخروا كثيراً في المطالبة بالاستقلال مع قيام دولة الجنوب. وأسباب الفائدة عديدة. فالنفط الذي ينتجه الجنوب لن تكتمل عملياته الاقتصادية والتجارية إلا عبر الشمال حيث المصافي وطرق النقل إلى الخارج وإذا فكر الجنوبيون في بدائل فإنهم سيحتاجون إلى بضع سنوات (5 سنوات على الأقل من الآن). وهناك شماليون يعيشون في الجنوب، مثلما هناك جنوبيون يعيشون في الشمال، وحركة التبادل التجارية وتصريف الشؤون المعيشية لا تتوقف بينهما. وإذا أخذنا في الاعتبار أن السودان (القديم) به أكثر من مئة قبيلة ولغة تنتشر بين أطرافه المختلفة، فإن أي خطوة سياسية تخل بهذا الوضع تضر الجميع، ومن ثم فإن التعقيد القبلي سيظل يفعل أثره في كبح جماح الخطوات الانفصالية الكاملة التي يقتضيها قيام دولتين كاملتي السيادة. ويضاف إلى ذلك أن تاريخ الصراع الدموي بين الطرفين أفرز بدوره مصادر للقوة من جانب كل طرف تجاه الآخر، فالقيادة السياسية في الجنوب لن تعمل بحرية مطلقة، بل ستواجه بقيادة أو قيادات جنوبية أيضاً على علاقة وثيقة بالشمال. وهناك منطقة أبيي الاستراتيجية التي تتنازع السلطة والثروة فيها قبيلتان رئيسيتان إحداهما تنتمي للشمال وأخرى للجنوب، والإبقاء على عدم حسم الأمور بالنسبة لها يشكل عقبة وعرة أمام دولة الجنوبالجديدة، هذا بالإضافة إلى مسألة الحدود الشائكة بين الدولتين التي لا تحسم حتى بوجود اتفاقيات بين الطرفين بخصوصها، لأن طبيعة الحدود في إفريقيا كلها هلامية في جوهرها ومن ثم مصدر دائم للنزاع. والخلاصة من ذلك أن دولة السودان الجديد في الجنوب ستكون معرضة للانهيار بفعل تناقضات داخلية فيها يصعب التغلب عليها. سيفرح الجنوبيون وقياداتهم بالانفصال وقيام دولتهم المستقلة انطلاقا من أنه أصبح المخرج الوحيد أمامهم للتخلص من كل صنوف المعاناة التي لاقوها على مدى العقود الماضية من حكومات الشمال. ولكن مقومات الدولة شيء والقدرة على الحفاظ على الاستقلال شيء آخر أيضاً، وبما أن مظاهر هذا وذاك لا تبدو متوافرة بوضوح فإن الحصانة السياسية لقيادات الجنوب تفرض عليهم عدم غلق الأبواب مع سودان الشمال. لقد فرط الحكم في الشمال في مصير الجنوب، عندما قبل من الأساس باتفاقيات دولية تنص صراحة على الإقرار بحق الجنوبيين في تقرير المصير، وكان مفهوماً جيداً أن ذلك سيدفعهم عملياً إلى الانفصال. وبرغم ذلك، فإنه كان بالإمكان بناء مناخ سياسي يجعل قادة الجنوب لا يرفضون خيار الكونفدرالية ويتحمسون للغاية لخيار الاستقلال حتى لو كان هذا الخيار محفوفاً بالمخاطر مستقبلاً. فعلى مدى السنوات التي اتيحت للطرفين لضمان الإبقاء على الوحدة أو لكي تأتي نتائج الاستفتاء لمصالحه، لم يُعن الحكم في الشمال بأي من البنود التي تم إقرارها وكأنه أراد دفع الأوضاع إلى الانفصال فعلاً. ومن جهة أخرى كانت الأطراف الخارجية (أميركا وأوروبا الغربية واسرائيل) تعمل بلا كلل لفصل الجنوب عن الشمال وكان ذلك من عوامل الضغط التي مورست حقا على حكم البشير، بل وعلى الأطراف العربية المعنية بالملف السوداني. ووجد الجنوبيون أيضاً دعماً إفريقياً لحثهم على الاستقلال انتصاراً للبشرة السوداء والديانة المسيحية على حساب الهوية العربية والاسلام. وأما وأن الواقع فرض نفسه فإن الحكمة العربية تقتضي العمل في اتجاه بناء التعاون بين السودانين الجديدين لا إثارة الخلافات بينهما واللعب على الصراعات القائمة، وطالما أن فكرة الكونفدرالية تبدو عسيرة المنال في ظل الأوضاع القائمة، فإن الهدف ذاته يمكن أن يجد آليات جديدة منها القيام بمشروعات عربية مشتركة تحتم تلاقي الطرفين، وحث المجتمع الدولي على أن يدفع الطرفين إلى التعاون لا إلى الصراع سواء من خلال مشروعات التنمية المستقبلية في الجنوب أو من خلال تبني شراكة دائمة بينهما وإلزام الطرفين بما تقتضيه من تعهدات سياسية وأمنية. لقد تعاملت الأطراف العربية مع القضية بالكثير من الحكمة، وعليها أن تحافظ على هذا الأداء مع قيام دولة الجنوب، وفي كل مؤتمرات القمة العربية الأخيرة كان هناك حرص عربي على احترام إرادة الجنوبيين في تقرير مصيرهم، مع دعوتهم إلى الحفاظ على الوحدة فيما بينهم وبين الشمال، وحملت نفس الرسالة السابقة الإشارة إليها وهي أنه إذا كان الانفصال قدرا لا فرار منه، فإن الحفاظ على النسيج السوداني وعلى علاقات أبنائه هو الوحدة الحقيقية. وقد أدى هذا الموقف إلى كسب الجنوبيين سياسياً حيث لم يشعروا بأن العرب مصممون (من خلف الستار) على اجهاض تطلعاتهم نحو الاستقلال، بل إن العرب أقنعوا حكومة الشمال بألا يقفوا في وجه التيار حفاظاً عليها هي أيضاً. وطالما المناخ الذي تم فيه التحول على هذا النحو - برغم مرارة الشعور بالانفصال - فإن البناء على الفرص التي يتيحها يصبح ضروريا بدلا من استعداء أهل الجنوب وإثارة النعرات العنصرية والانصياع إلى فكرة المؤامرة. والفرصة الكبرى المتاحة هي أن دولة الجنوبالجديدة - بسبب تناقضاتها الداخلية - في أمس الحاجة إلى من يقدم لها يد العون. ستسارع بتعزيز علاقاتها مع اسرائيل وستنتظر العون الكبير من الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية، ولكن هؤلاء جميعاً سيقدمون للدولة الجديدة انتعاشاً واستقراراً مصنوعا يحتاج إلى زمن لكي يقوى ويصبح حقيقة، بينما الأطراف العربية قادرة على أن تستوعب الدولة الجديدة بما لها من قدرات مالية وسياسية وتاريخ في المنطقة ووجود قاسم ثقافي ولو قليلا. إذا تأخرت في مد يد التعاون فإن الآخرين سيسابقون الزمن لجعل دولة الجنوب موضع قدم يهدد الأمن القومي العربي تماماً مثلما قامت دولة اسرائيل مع الفارق. المصدر: الوطن القطرية 9/1/2011