السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    إبراهيم شقلاوي يكتب: يرفعون المصاحف على أسنّة الرماح    د.ابراهيم الصديق على يكتب:اللقاء: انتقالات جديدة..    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    شاهد بالفيديو.. لدى لقاء جمعهما بالجنود.. "مناوي" يلقب ياسر العطا بزعيم "البلابسة" والأخير يرد على اللقب بهتاف: (بل بس)    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    لماذا نزحوا إلى شمال السودان    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    مناوي .. سلام على الفاشر وأهلها وعلى شهدائها الذين كتبوا بالدم معنى البطولة    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    اللواء الركن"م" أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: الإنسانية كلمة يخلو منها قاموس المليشيا    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    عقد ملياري لرصف طرق داخلية بولاية سودانية    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تاريخ المسلمين .. كيف يكتبه خصومهم؟


بقلم - د.عبد العظيم الديب - أستاذ في جامعة قطر
إن هذا التشويه لتاريخ الإسلام ليس مصادفة، ولم يقع عفواً، وإنما وراءه كيد محكم، وتدبير خبيث، وهو يأتي ضمن خطة كاملة للحرب الصليبية ضد العالم الإسلامي، ترجع هذه الخطة إلى عدة قرون، إلى القرن الثالث عشر الميلادي حينما ارتدت الجيوش الصليبية بعد أكثر من قرنين من الزمان مهزومة مدحورة.
فقد كان من نتائج هذه الحرب الطويلة ما عبّر عنه المؤرخ (فيليب حتى) قائلاً: ومن النتائج الفرعية التي تخلّفت عن الحملات الصليبية إنشاء الإرساليات المسيحية للتبشير بين المسلمين، فقد اقتنع رجال الفكر (الصليبيون طبعاً) بفشل هذه الحرب، وإخفاق الوسائل العسكرية في معاملة المسلمين.
وكان الكاهن القطلاني (ريمند لال)، أول أوروبي نبه وشدّد على أهمية الدراسات الشرقية كأداة فعّالة لنضالٍ سلمي، يعتمد على الإقناع بدلاً من الإكراه.
وبتأثير (ريمند) هذا جرى الروح الصليبي في مجرى جديد، هو إقناع المسلمين بالمسيحية بدلاً من إبادتهم.
أما الإرسالية الكرملية (نسبة إلى جبل الكرمل) التي لا تزال عاملة في سوريا، فقد أسسها أحد الصليبيين عام 1157م، ثم أنشئت اثنتان من الإرساليات الرهبانية هما (الفرنسيسكان) و(الدومينكان) وصار لكلٍّ منهما فروع مختلفة في لبنان، وكتب أسقف دومينكاني رسالة من أوفى رسائل العصور الوسطى بشئون المسلمين موصياً باستخدام المرسلين (المبشرين) بدلاً من الجنود لاستعادة الأرض المقدسة أ.ه بنص حروفه.
هكذا بكل وضوح تعطينا هذه الوثيقة الحقائق الآتية:
اولا: اعترافهم بفشل الحروب الصليبية.
ثانيا: أنهم تيقنوا عجزهم عن هزيمة المسلمين بالوسائل العسكرية.
ثالث: انهم عدلوا إلى أسلوبٍ جديد هو المرسلين المبشرين.
رابعا: أن هذه المؤسسات الدينية الأديرة، والإرساليات، وما تبعها من مدارس وكليات، لاستعادة الأرض المقدسة، أي لهزيمة المسلمين، والسيطرة على دار الإسلام.
خامسا: أن سيطرة خريجي هذه المؤسسات التبشيرية على منابع الثقافة والفكر في أهم العواصم العربية= كان أمراً مخططاً مدبراً، فلم يكن أمراً عفوياً أن يقبض على زمام الثقافة والفكر أمثال بشارة تقلا، وجبرائيل تقلا، وسليم تقلا، وداود بركات، وفارس نمر، وشبلي شميل، وأمين شميل، وإدجار جلاد، وأنطون الجميل، وشاهين مكاريوس، ولويس شيخو، وجورجي زيدان، وشكري زيدان، وإميل زيدان، وإميل الخوري... هؤلاء وغيرهم كثير لا يحصون عدداً، خرجوا من محاضن (ريمند لال) وتلاميذه، وانتشروا في بغداد، ودمشق، والقاهرة، وظاهَرتهم جهاتٌ كُثْر، بعضها منظور، وبعضها من وراء ستار، ويحتاج أمر هذه الظاهرة، وقياس حجم خطرها وإفسادها إلى أطروحة، بل أكثر من أطروحة، فهل نرى من ينهض إلى ذلك؟
ولم تكن هذه المراكز وحدها التي تحقق استراتيجية (ريموند لال)، بل كانت هذه الاستراتيجية واضحة المعالم بينة القسمات أمام كل من يعمل للمشروع الإستعماري الغربي، فها هو (نابليون) وهو أول من جازف بمحاولة الهجوم على ديار الإسلام منذ الحرب الصليبية، لم ينس أن يقدم بين يديه كتيبة من المستشرقين، ولم ينس وهو يستخدم أبشع وسائل القتل والحرق والتدمير، لم ينس أبداً الإستراتيجية الأساس، فكتب إلى نائبه (كليبر) بعد أن غادر مصر إلى فرنسا، كتب إليه يقول:" ستظهر السفن الحربية بلا ريب في هذا الشتاء أمام الإسكندرية، أو البرلُّس أو دمياط، يجب أن تبني برجاً في البرلّس. اجتهد في جمع خمسمائة شخص، أو ستمائة شخص من المماليك، حتى إذا لاحت السفن الفرنسية، تقبض عليهم في القاهرة أو الأرياف، وتسفّرهم إلى فرنسا. وإذا لم تجد عدداً كافياً من المماليك، فاستعض عنهم برهائن من الغرب ومشايخ البلدان، فإذا ما وصل هؤلاء إلى فرنسا، يُحجزون مدة سنة أو سنتين، يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة الفرنسية، ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا، ولما يعودون إلى مصر، يكون لنا منهم حزبٌ يُضّم إليه غيرهم." أ.ه
هذه الرسالة محفوظة في نصها الأصلي ضمن وثائق وزارة الحرب الفرنسية تحت رقم 4374، وهي تؤكد ما يأتي:
أولا: الحرص المبكر على نشر (التقاليد الغربية، واللغة الغربية) أي الثقافة الغربية، والوعي بأن ذلك مفتاحٌ لتوجيه هؤلاء المتغربين، وأنهم سيكونون بمجرد الوقوع في براثن هذه الثقافة حزبَ فرنسا. (يكون لنا منهم حزب) (تذكّر ما نسمعه هذه الأيام في ثنايا أخبار الجزائر عن حزب فر نسا).
ثانيا: الحرص على أن يكون هؤلاء الرّواد الأوائل من ذوي المكانة والوجاهة في المجتمع، إذ طلب نابليون أن يكونوا من أبناء الطبقة الحاكمة (المماليك ومشايخ البلدان) وذلك حتى يكونوا محل قدوة يقتفي الناس آثارهم ويقلّدونهم، ولا يقتصر الأمر على أشخاصهم.
وهذا المعنى عبر عنه أحد دُهانهم وهو يتحدث عن مدى نجاح مشاريعهم التبشيرية الاستعمارية، فقد ذكر مباهياً أن مدارسهم، وبخاصة مدارس البنات تضم أبناء الطبقة العليا في المجتمع، أبناء الحكام والأثرياء، وهم الذين يُسمع لقولهم، ويطاع أمرهم، ويقتدى بهم.
ثالثا: وهذا الذي قاله (نابليون) بإيجاز مقتضب عبّر عنه بعد أكثر من قرن ونصف الفيلسوف الفرنسي (سارتر) بوضوح وتفصيل حيث قال:" كنا نأخذ النوابغ من أبناء آسيا وإفريقية، ونأتي بهم إلى بلادنا، ونطوف بهم عواصمنا حتى يعتادوا عاداتنا، ويتثقفوا بثقافتنا، ونُلقي في أفواههم جملاً ضخمة تلتصق بأسنانهم، فلا يتكلمون إلا بها، ثم نردّهم إلى بلادهم، فيتكلمون بدلاً عنا، والأهم من ذلك أنهم يمنعون غيرهم من الكلام".
ورغم أن مشروع (نابليون) قد سقط بهزيمة حملته العسكرية، إلا أنه أُتيح له أن يجد من يحققه نيابة عنه، وهو (محمد علي) الذي تولى حكم مصر بعد خروج الفرنسيين، ذلك أن (محمد علي) تبني المشروع الغربي بالكامل، وحقق لفرنسا كلَّ ما كانت تريده، ولا يتبادر إلى ذهن أحد أنني أتهم (محمد علي) بالعمالة أو الخيانة، فأنا لا أُحب هذه التجاوزات، ولكن الرجل وجد نفسه على مفترق طرق، وأنه لا بد من نهضة وتغيير، فكان أمامه التغيير والتجديد من الداخل، من داخل المجتمع وثقافته ومؤسساته القائمة فعلاً، وقد كانت قادرة على ذلك، وكان أمامه في نفس الوقت التغيير على الخط الغربي المستورد، يزيّنه له قناصل الدول الأوربية، فاستمعَ لوكلاء المشروع الغربي، ورفض الاستماع لعلماء الأزهر، ولقادة الفكر في الأمة، وعمل على تنحيتهم وتهميشهم، بل نفي بعضهم، وسجن بعضهم واتخذ مستشاريه ومعاونيه من الفرنسيين، ومن يدور في فلكهم، كان ذلك اجتهاداً خاطئاً منه ولا أقول تآمراً أو عمالة ولعله اقتدى فيه بآخرين سبقوه في العالم الإسلامي. (ولذلك حديث آخر يطول).
أَسْلسَ (محمد علي) قياده لهؤلاء، فكان مشروعه النهوضي فرنسياً تغريبياً في لُحمته وسُداه، وحتى لا نلقي الكلام على عواهنه بغير دليل، نشير إلى المظاهر الآتية التي تشهد بما نقول:
أولا: كان ديوان المدارس الذي أنشأه (محمد علي) سنة 1837م، وهو بمثابة إدارة للمدارس العليا والخصوصية (أي المتخصصة) كان الإشراف على هذا الديوان لمجلسٍ يتكون من:
1-كلوت بك.
2- كياني بك.
3 أرتين بك.
4-اسطفان بك.
5 حسكلتيان.
6-فارين بك.
7-لامبيبر بك.
8- هامون بك.
9 دوزول بك.
10-مصطفى مختار بك.
11 رفاعة رافع.
12 محمد بيومي.
وكما ترى كلهم غربيون فرنسيون إما لحماً ودماً، وإما ثقافة وهوى، كالثلاثة الأواخر.
ثانيا: كذلك كان توجيه طلاب البعثات إلى فرنسا، حيث كان تأثير التغريب فيهم أشد، كما اعترف بذلك سارتر فيما نقلناه من كلامه آنفاً، وقد بلغ عدد هؤلاء 319 مبعوثاً كان من بينهم أربعة من بيت (محمد علي): اثنان من أبنائه، واثنان من أحفاده، أحدهما إسماعيل بن إبراهيم الذي صار حاكماً لمصر، وأعلن يومها أن مصر قطعة من أوربا (وكان من أمره ما كان).
ثالثا: كان المشرف على هذه البعثات في فرنسا (مسيو جومار) أستاذ (رفاعة الطهطاوي) وقد قال عنه (رفاعة الطهطاوي):" وشهرة (مسيو جومار) وحُسن تدبيره يُوقع في نفس الإنسان من أول وهلة تفضيل القلم على السيف، لأنه يدبِّر بقلمه ما لا يدبَّر بالسيف ألف مرة، ولا عجب فبالأقلام تساس الدول".
فهل يا تُرى كان شيخنا رفاعة يشير إلى نشاطه الاستعماري التبشيري، أم إلى جهوده في المخابرات الفرنسية، أم إلى خطورة أثره في صياغة عقول واتجاهات وميول وعواطف طلاب البعثات؟ ما الذي كان يحركه (جومار) بقلمه؟ تأمل.
رابعا: بل نستطيع أن نقول: إن النفوذ الفرنسي في مصر بلغ درجة لم يبلغها أيام الحملة على مصر، يكفي مثالاً على ذلك أنه عند الاحتفال يوضع حجر الأساس للقناطر الخيرية سنة 1847م تصايح الفرنسيون:" نشرب نخب محمد علي ونابليون" وتعمدوا فيما ألقوه من كلمات أن يذكّروا بفضل أيادي حكومتهم البيضاء على محمد علي.
وكأن الفرنسيين أخُرجوا مهزومين عسكرياً، فأعادهم محمد علي مسيطرين وموجهين ثقافياً وتربوياً، بل وسياسياً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والذي يعنينا من كل ذلك، هو أثر هذه السيطرة في الثقافة والتعليم، الذي عبّرت عنه المؤرخة الإنجليزية (هيلين ريفليلين) بقولها: إن التفكيك الثقافي المترتب على سياسة محمد علي التربوية المبتورة أمرٌ يستحيل تقديره، ولكن آثاره ما زالت محسوسة في مصر حتى اليوم دون جدال. (مجلة الفكر العربي عدد 32 ص 46).
وفي دورة أخرى من دورات التاريخ والأحداث، انتقلت السيطرة إلى الإنجليز، ذلك أن الصراع كان دائراً لا يهدأ بين انجلترا وفرنسا على اقتسام العالم العربي والإسلامي، كان التسابق بينهما لا يهدأ، ومعلوم مشهور أن الأسطول الإنجليزي حاول أن يسبق أسطول نابليون ويحول بينه، وبين احتلال مصر، فلما سبقه نابليون، ونزل إلى مصر، ظلّ يتحين الأسطولُ الإنجليزي الفرصة حتى انقض على الأسطول الفرنسي في خليج (أبو قير) وحطمه في تلك الموقعة المشهورة. ثم لما فشلت الحملة الفرنسية العسكرية على مصر وخرجت منها سنة 1801م، جاءت انجلترا بحملتها المعروفة بحملة (فريزر) سنة 1807م، ولما كان الشعب لم يدجَّن بعد، فقد رُدّت الحملة على أعقابها، مهزومة مدحورة.
وظلت انجلترا على حالها، لم تنم عن هدفها في احتلال مصر، فتدسّست عن طريق القروض، والرشاوي، حتى جعلت على موطئ قدم، وأخذت تعمل بدأب حتى تمكنت من تحقيق مأربها، واحتلت مصر سنة 1882م أي بعد هزيمتها بخمسة وسبعين سنة. ولما سقطت مصر، سألت انجلترا رجلها الأول عما يلزمه لإحكام السيطرة على البلاد؟ فأجاب (كرومر): إني قادم بنفسي إلى لندن لهذا الشأن، وهناك لم يطلب من قيادته لا مزيداً من السلاح، ولا مزيداً من الجنود، وإنما طلب منهم خبراء في التربية والمناهج، فزوّدوه بالخبير الخطير (مستر دنلوب) الذي ظل مسيطراً على التعليم في مصر دهراً، يصوغ مناهجه، ويحدد أهدافه، وكان هذا استمراراً أو استكمالاً للسيطرة الفرنسية، بل كان هذا أكثر جرأة، وأكثر بشاعة، حيث تُسانده سيطرة عسكرية واحتلال كامل للبلاد، ومنذ ذلك اليوم أخذ (دنلوب) يضع للأمة نظام تعليمها، الذي كان من أثره ما عبّر عنه شيخنا محمود شاكر بقوله:" تخريج أجيال متعاقبة من تلاميذ المدارس، يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بهذا التحول نحو الإعجاب المزهوّ ببعض مظاهر الحياة الأوربية، ونَقْد مظاهر الحياة في بلادهم، مع الإيمان بأن ما أعجبوا به عند الغرب هو سرّ قوّتهم، وأن ما عندنا هو سرّ ضعفنا وانه
يارنا، وذلك عن طريق تفريغهم تفريغاً كاملاً من ماضيهم كله، مع هتك أكثر العلائق التي تربطهم بهذا الماضي اجتماعياً وثقافياً ولغوياً، ومع ملء هذا الفراغ بالعلوم والفنون والآداب، ولكنها فنونهم هم، وآدابهم هم، وتاريخهم هم، ولغاتهم هم، أعني الغزاة." أ.ه
وتصديقاً لهذا اقرأ معي ما قاله العالم المصري الشهير (فاروق الباز) حين قال:" خرجت من التعليم المصري وأنا أعرف كل شيء عن جبال (روكي) في أمريكا، ولم أعرف شيئاً عن مناجم (أبو طرطور) في السويس."
ثم نعود لكلام شيخنا الشيخ محمود شاكر:" وقد تولى نظام (دنلوب) تأسيس ذلك التدمير في المدارس المصرية، مع مئاتٍ من مدارس الجاليات الأجنبية، التي يتكاثر على الأيام عدد من تضُم من أبناء المصريين وبناتهم، وقد كان ما أراد الغزاة.
ولم يزل الأمر إلى يومنا هذا مستمراً على ما أرادوا! بل ازداد بشاعة وعمقاً في سائر أنحاء العالم العربي والإسلامي بظهور دعوات مختلفة، كالدعوة إلى الفرعونية، والفينيقية وأشباه ذلك، في الصحافة والكتب المؤلفة، لأن تفريغ الأجيال من ماضيها المتدفق في دمائها مرتبطاً بالعربية والإسلام، يحتاج إلى ملء بماضٍ آخر يغطّي عليه، فجاءوا بماضٍ بائد مُعرقٍ في القِدم والغموض، ليزاحم بقايا ذلك الماضي المتدفق الحي الذي يوشك أن يتمزق ويختنق بالتفريغ المتواصل" أ.ه وما قاله شيخنا الشيخ محمود شاكر شهد به الخبير التربوي المعروف الأستاذ حليم فريد تادرس، حيث قال: مخطئ من ظن أن نظام تعليمنا تغيّر أو تطور منذ وضعه (دنلوب)، فكل ما يقال عن تغيير أو تطوير هو حركة في إطار مشروع (دنلوب) ونظامه (من كلمة نشرها في جريدة الأهرام).
ومن هذا الباب أيضاً ما كان يردّده الشهيد سيد قطب كثيراً:" إن الاستعمار لا يربض على شاطئ القناة، في المعسكرات التي تضم ثمانين ألف جندي بريطاني، وإنما الاستعمار الحقيقي يربض في شارع الفلكي" يشير بذلك إلى وزارة التربية والتعليم، حيث تقع في هذا الشارع.
وكذلك قوله في مقالٍ له في مجلة الرسالة العدد 995 بتاريخ 28 يوليو 1952م:" إنني أنظر في تاريخ الاستعمار فلا أكاد أجد له اسناداً إلا من المتعلمين.. كل الرجال الذين قدّموا للاستعمار خدماتٍ ضخمة، الذين مهدوا للاستعمار، ومكّنوا له، الذين كشفوا له عن عورات البلاد ومقاتلها، الذين تولّوا عنه تحطيم معنويات الوطن، وقواه الكامنة، الذين جعلوا أنفسهم ستاراً لمساويء الاستعمار ومخازيه... كلّهم كانوا من المتعلمين." أ.ه.
ولكن الذي صور هذا التدمير أبلغ تصوير وأبشعه، هو ما قاله أحد الذين خططوا له، وتولّوا كبره، ذلك هو (اللورد كرومر)، جاء ذلك في كتابه مصر الحديثة، ونقله عنه العلّامة أبو الحسن الندوي في كتابه (الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية، قائلاً:" إن اللورد كرومر الذي كان أكبر رائد إلى تغريب مصر، والعالم العربي بالتتبع، قد صور بنفسه الجيل المصري الجديد الذي نشأ في أحضان التعليم الجديد، وآمن بسيادة الغرب وفضل حضارته ومبادئه تصويراً صادقاً دقيقاً، قد ينسب إلى المبالغة والقسوة والتشاؤم، إذا صدر عن قلم مفكر إسلامي، أو عالم مسلم متحفظ، ولكن صدوره عن قلم رجل كان من أكبر دعاة التغريب في الشرق، يجرده من كل مبالغة وتهويل، ويضفي عليه قيمة علمية كبيرة، ويجعله وثيقة تاريخية تستحق كل اعتبار وكل اهتمام:
"إن المجتمع المصري في مرحلة الانتقال والتطور السريع، وكانت نتيجته الطبيعية أن وجدت جماعة من أفراد هم ((مسلمون)) ولكنهم متجردون عن العقيدة الإسلامية والخصائص الإسلامية، وإن كانوا ((غربيين)) فإنهم لا يحملون القوة المعنوية، والثقة بأنفسهم، وإن المصري الذي خضع للتأثير الغربي، فإنه وإن كان يحمل الاسم الإسلامي لكنه في الحقيقة ملحد وارتيابي، والفجوة بينه وبين عالم أزهري لا تقل عن الفجوة بين عالم أزهري وبين أوروبي".
أرايت؟ هذا هو تصوير أحد دهاقين التدمير والتغريب، لآثار فعله، وثمرة جهوده وجهده، لو قال هذا عن المتغربين أحدُ علماء الإسلام ودعاته، لاتهم بالتطرّف، والإرهاب، والتكفير، فهل توافق على ما قاله (كرومر)؟؟
أنا شخصياً لا أوافق!! فما رأيك؟
ليس هذا تفسيراً تآمرياً للوقائع والأحداث، ولكنه تصويرٌ للواقع بالأدلة والبراهين، بيانٌ لحقيقة الصراع الذي لا يهدأ، ولا ينتهي، سنة الله في خلقه، سنة التدافع "وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" (سورة البقرة: 251).
أعلم أن البعض سيقول: دائماً نعلق عجزنا وقصورنا على الآخرين، حتى جهلنا بتاريخنا وفساد مناهجنا، أين نحن؟ هل نحن دائماً مفعول بنا!! هل يستحيل علينا أن نكون فاعلين؟؟
وأقول: إننا نفسِّر ولا نبرر، التفسير هو معرفة سرّ الظاهرة، وأبعادها وحدودها، التفسير هو التشخيص، والتشخيص هو الخطوة الأولى في العلاج.
وأما التبرير فهو التماس الأعذار لما كان، وإعفاءٌ من المسئولية، وترضية بالواقع. ونحن لا نقول بذلك أبداً، بل إننا حينما نبحث عن جذور هذه العلل، ندعو في نفس الوقت إلى الثورة عليها، والتخلص منها، والاغتسال من أوضارها، وننعى على من استكان لها، ورضي بها أو ساعد على قبولها، ففي هذا التفسير حسابٌ ومؤاخذة أيضاً.
ثم أمتنا لم تكن أبداً مستسلمة لما يُفعل بها، فالتاريخ يؤكد أن مشروع محمد علي لقي مقاومة عنيفة، ومقابلة بمشروعٍ تجديديٍّ من داخل ثقافتنا وتراثنا، ولكن السلطان محمد علي الغاشم، نكّل بقادة الرأي والفكر، ووأد مشروعهم، ولكنهم مع ذلك لم يستسلموا، وظل هذا المشروع حيّا إلى يومنا هذا يحمله رجالٌ أصلاء أظهار، وليسوا بأدعياء، جيلاً بعد جيل، منذ الشيخ عمر مكرم ومن معه إلى علماء الصحوة ودعاتها، الذين حفلت المكتبة الإسلامية بأعمالهم العلمية التي تحمل لنا كل يومٍ ما يضيء جوانب المشروع الحضاري الإسلامي، ويوضع قسماته، ويبين خطورة مشاريع التغريب والتخريب التي تبنّتها دولُنا منذ قرنين من الزمان، منذ عهد محمد علي سنة 1802م، فلم نحصد منها إلا ما نعانيه الآن من انهيار واندحار.
فنحن سواد الأمة لم نستسلم يوماً، ولم يكن مفعولاً بنا، وإنما المأساة في القشرة المتغربة التي مُلئت أفواهها (هناك) كما قال (سارتر) وجاءت لتنطق نيابة عنهم هنا، هؤلاء هم الذين مُكِّن لهم من قيادة الفكر، والهيمنة على مناهج التربية والتعليم، ومنابر الإعلام، ومراكز التثقيف، وكما قال (سارتر):"يمنعون غيرهم من الكلام".
ولكن مع كل هذا ظلت أمتنا حيّة فاعلة، وأبداً لن تموت.
ومن عجبٍ أنهم دسّوا بضعة أسطر في كتاب التاريخ تقول:" إن عصر النهضة بدأ بحملة نابليون، حيث استيقظ الشرق على طلقات مدافع نابليون، الذي جاء إلينا بأول مطبعة عربية، وأول مرسم للخرائط، وأول معمل للكيمياء".
ومن أجل هذه الأسطر صار الغازي المبير الذي دخل الأزهر بخيوله، الذي هدّم القاهرة، وحرّقها، الذي كتب بخط يده إلى قوّاده في الأقاليم يقول لكل منهم:" اقتل كل يوم من ثلاثة أشخاص إلى خمسة، وأقطع رؤوسهم، وأرْفعها على الرماح، وطُف بها في جميع أنحاء إقليمك، ثم انصبها طوال اليوم ليتحدث بذلك الناس، إنك إن فعلت ذلك، ملأتَ القلوب بالرعب والخوف، وألزمتهم الخضوع والخنوع، إنني أفعل ذلك كل يومٍ في القاهرة، فافعل مثلي".
هذا السفاح المبير الذي زَيفّت صورتَه أسطرُ التاريخ لنا، حتى وجدنا حملة واسعة من جماعة المثقفين (الرسميين) تدعو للاحتفال بمرور مائتي على مجيء نابليون إلى مصر.
هل رأيت في الدنيا كلها أمة تحتفل وتبتهج بذكرى مجيء غازيها؟ ولكنها العاطفة التي تصنعها بضعة أسطر في كتاب التاريخ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.