لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تاريخ المسلمين .. كيف يكتبه خصومهم؟


بقلم - د.عبد العظيم الديب - أستاذ في جامعة قطر
إن هذا التشويه لتاريخ الإسلام ليس مصادفة، ولم يقع عفواً، وإنما وراءه كيد محكم، وتدبير خبيث، وهو يأتي ضمن خطة كاملة للحرب الصليبية ضد العالم الإسلامي، ترجع هذه الخطة إلى عدة قرون، إلى القرن الثالث عشر الميلادي حينما ارتدت الجيوش الصليبية بعد أكثر من قرنين من الزمان مهزومة مدحورة.
فقد كان من نتائج هذه الحرب الطويلة ما عبّر عنه المؤرخ (فيليب حتى) قائلاً: ومن النتائج الفرعية التي تخلّفت عن الحملات الصليبية إنشاء الإرساليات المسيحية للتبشير بين المسلمين، فقد اقتنع رجال الفكر (الصليبيون طبعاً) بفشل هذه الحرب، وإخفاق الوسائل العسكرية في معاملة المسلمين.
وكان الكاهن القطلاني (ريمند لال)، أول أوروبي نبه وشدّد على أهمية الدراسات الشرقية كأداة فعّالة لنضالٍ سلمي، يعتمد على الإقناع بدلاً من الإكراه.
وبتأثير (ريمند) هذا جرى الروح الصليبي في مجرى جديد، هو إقناع المسلمين بالمسيحية بدلاً من إبادتهم.
أما الإرسالية الكرملية (نسبة إلى جبل الكرمل) التي لا تزال عاملة في سوريا، فقد أسسها أحد الصليبيين عام 1157م، ثم أنشئت اثنتان من الإرساليات الرهبانية هما (الفرنسيسكان) و(الدومينكان) وصار لكلٍّ منهما فروع مختلفة في لبنان، وكتب أسقف دومينكاني رسالة من أوفى رسائل العصور الوسطى بشئون المسلمين موصياً باستخدام المرسلين (المبشرين) بدلاً من الجنود لاستعادة الأرض المقدسة أ.ه بنص حروفه.
هكذا بكل وضوح تعطينا هذه الوثيقة الحقائق الآتية:
اولا: اعترافهم بفشل الحروب الصليبية.
ثانيا: أنهم تيقنوا عجزهم عن هزيمة المسلمين بالوسائل العسكرية.
ثالث: انهم عدلوا إلى أسلوبٍ جديد هو المرسلين المبشرين.
رابعا: أن هذه المؤسسات الدينية الأديرة، والإرساليات، وما تبعها من مدارس وكليات، لاستعادة الأرض المقدسة، أي لهزيمة المسلمين، والسيطرة على دار الإسلام.
خامسا: أن سيطرة خريجي هذه المؤسسات التبشيرية على منابع الثقافة والفكر في أهم العواصم العربية= كان أمراً مخططاً مدبراً، فلم يكن أمراً عفوياً أن يقبض على زمام الثقافة والفكر أمثال بشارة تقلا، وجبرائيل تقلا، وسليم تقلا، وداود بركات، وفارس نمر، وشبلي شميل، وأمين شميل، وإدجار جلاد، وأنطون الجميل، وشاهين مكاريوس، ولويس شيخو، وجورجي زيدان، وشكري زيدان، وإميل زيدان، وإميل الخوري... هؤلاء وغيرهم كثير لا يحصون عدداً، خرجوا من محاضن (ريمند لال) وتلاميذه، وانتشروا في بغداد، ودمشق، والقاهرة، وظاهَرتهم جهاتٌ كُثْر، بعضها منظور، وبعضها من وراء ستار، ويحتاج أمر هذه الظاهرة، وقياس حجم خطرها وإفسادها إلى أطروحة، بل أكثر من أطروحة، فهل نرى من ينهض إلى ذلك؟
ولم تكن هذه المراكز وحدها التي تحقق استراتيجية (ريموند لال)، بل كانت هذه الاستراتيجية واضحة المعالم بينة القسمات أمام كل من يعمل للمشروع الإستعماري الغربي، فها هو (نابليون) وهو أول من جازف بمحاولة الهجوم على ديار الإسلام منذ الحرب الصليبية، لم ينس أن يقدم بين يديه كتيبة من المستشرقين، ولم ينس وهو يستخدم أبشع وسائل القتل والحرق والتدمير، لم ينس أبداً الإستراتيجية الأساس، فكتب إلى نائبه (كليبر) بعد أن غادر مصر إلى فرنسا، كتب إليه يقول:" ستظهر السفن الحربية بلا ريب في هذا الشتاء أمام الإسكندرية، أو البرلُّس أو دمياط، يجب أن تبني برجاً في البرلّس. اجتهد في جمع خمسمائة شخص، أو ستمائة شخص من المماليك، حتى إذا لاحت السفن الفرنسية، تقبض عليهم في القاهرة أو الأرياف، وتسفّرهم إلى فرنسا. وإذا لم تجد عدداً كافياً من المماليك، فاستعض عنهم برهائن من الغرب ومشايخ البلدان، فإذا ما وصل هؤلاء إلى فرنسا، يُحجزون مدة سنة أو سنتين، يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة الفرنسية، ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا، ولما يعودون إلى مصر، يكون لنا منهم حزبٌ يُضّم إليه غيرهم." أ.ه
هذه الرسالة محفوظة في نصها الأصلي ضمن وثائق وزارة الحرب الفرنسية تحت رقم 4374، وهي تؤكد ما يأتي:
أولا: الحرص المبكر على نشر (التقاليد الغربية، واللغة الغربية) أي الثقافة الغربية، والوعي بأن ذلك مفتاحٌ لتوجيه هؤلاء المتغربين، وأنهم سيكونون بمجرد الوقوع في براثن هذه الثقافة حزبَ فرنسا. (يكون لنا منهم حزب) (تذكّر ما نسمعه هذه الأيام في ثنايا أخبار الجزائر عن حزب فر نسا).
ثانيا: الحرص على أن يكون هؤلاء الرّواد الأوائل من ذوي المكانة والوجاهة في المجتمع، إذ طلب نابليون أن يكونوا من أبناء الطبقة الحاكمة (المماليك ومشايخ البلدان) وذلك حتى يكونوا محل قدوة يقتفي الناس آثارهم ويقلّدونهم، ولا يقتصر الأمر على أشخاصهم.
وهذا المعنى عبر عنه أحد دُهانهم وهو يتحدث عن مدى نجاح مشاريعهم التبشيرية الاستعمارية، فقد ذكر مباهياً أن مدارسهم، وبخاصة مدارس البنات تضم أبناء الطبقة العليا في المجتمع، أبناء الحكام والأثرياء، وهم الذين يُسمع لقولهم، ويطاع أمرهم، ويقتدى بهم.
ثالثا: وهذا الذي قاله (نابليون) بإيجاز مقتضب عبّر عنه بعد أكثر من قرن ونصف الفيلسوف الفرنسي (سارتر) بوضوح وتفصيل حيث قال:" كنا نأخذ النوابغ من أبناء آسيا وإفريقية، ونأتي بهم إلى بلادنا، ونطوف بهم عواصمنا حتى يعتادوا عاداتنا، ويتثقفوا بثقافتنا، ونُلقي في أفواههم جملاً ضخمة تلتصق بأسنانهم، فلا يتكلمون إلا بها، ثم نردّهم إلى بلادهم، فيتكلمون بدلاً عنا، والأهم من ذلك أنهم يمنعون غيرهم من الكلام".
ورغم أن مشروع (نابليون) قد سقط بهزيمة حملته العسكرية، إلا أنه أُتيح له أن يجد من يحققه نيابة عنه، وهو (محمد علي) الذي تولى حكم مصر بعد خروج الفرنسيين، ذلك أن (محمد علي) تبني المشروع الغربي بالكامل، وحقق لفرنسا كلَّ ما كانت تريده، ولا يتبادر إلى ذهن أحد أنني أتهم (محمد علي) بالعمالة أو الخيانة، فأنا لا أُحب هذه التجاوزات، ولكن الرجل وجد نفسه على مفترق طرق، وأنه لا بد من نهضة وتغيير، فكان أمامه التغيير والتجديد من الداخل، من داخل المجتمع وثقافته ومؤسساته القائمة فعلاً، وقد كانت قادرة على ذلك، وكان أمامه في نفس الوقت التغيير على الخط الغربي المستورد، يزيّنه له قناصل الدول الأوربية، فاستمعَ لوكلاء المشروع الغربي، ورفض الاستماع لعلماء الأزهر، ولقادة الفكر في الأمة، وعمل على تنحيتهم وتهميشهم، بل نفي بعضهم، وسجن بعضهم واتخذ مستشاريه ومعاونيه من الفرنسيين، ومن يدور في فلكهم، كان ذلك اجتهاداً خاطئاً منه ولا أقول تآمراً أو عمالة ولعله اقتدى فيه بآخرين سبقوه في العالم الإسلامي. (ولذلك حديث آخر يطول).
أَسْلسَ (محمد علي) قياده لهؤلاء، فكان مشروعه النهوضي فرنسياً تغريبياً في لُحمته وسُداه، وحتى لا نلقي الكلام على عواهنه بغير دليل، نشير إلى المظاهر الآتية التي تشهد بما نقول:
أولا: كان ديوان المدارس الذي أنشأه (محمد علي) سنة 1837م، وهو بمثابة إدارة للمدارس العليا والخصوصية (أي المتخصصة) كان الإشراف على هذا الديوان لمجلسٍ يتكون من:
1-كلوت بك.
2- كياني بك.
3 أرتين بك.
4-اسطفان بك.
5 حسكلتيان.
6-فارين بك.
7-لامبيبر بك.
8- هامون بك.
9 دوزول بك.
10-مصطفى مختار بك.
11 رفاعة رافع.
12 محمد بيومي.
وكما ترى كلهم غربيون فرنسيون إما لحماً ودماً، وإما ثقافة وهوى، كالثلاثة الأواخر.
ثانيا: كذلك كان توجيه طلاب البعثات إلى فرنسا، حيث كان تأثير التغريب فيهم أشد، كما اعترف بذلك سارتر فيما نقلناه من كلامه آنفاً، وقد بلغ عدد هؤلاء 319 مبعوثاً كان من بينهم أربعة من بيت (محمد علي): اثنان من أبنائه، واثنان من أحفاده، أحدهما إسماعيل بن إبراهيم الذي صار حاكماً لمصر، وأعلن يومها أن مصر قطعة من أوربا (وكان من أمره ما كان).
ثالثا: كان المشرف على هذه البعثات في فرنسا (مسيو جومار) أستاذ (رفاعة الطهطاوي) وقد قال عنه (رفاعة الطهطاوي):" وشهرة (مسيو جومار) وحُسن تدبيره يُوقع في نفس الإنسان من أول وهلة تفضيل القلم على السيف، لأنه يدبِّر بقلمه ما لا يدبَّر بالسيف ألف مرة، ولا عجب فبالأقلام تساس الدول".
فهل يا تُرى كان شيخنا رفاعة يشير إلى نشاطه الاستعماري التبشيري، أم إلى جهوده في المخابرات الفرنسية، أم إلى خطورة أثره في صياغة عقول واتجاهات وميول وعواطف طلاب البعثات؟ ما الذي كان يحركه (جومار) بقلمه؟ تأمل.
رابعا: بل نستطيع أن نقول: إن النفوذ الفرنسي في مصر بلغ درجة لم يبلغها أيام الحملة على مصر، يكفي مثالاً على ذلك أنه عند الاحتفال يوضع حجر الأساس للقناطر الخيرية سنة 1847م تصايح الفرنسيون:" نشرب نخب محمد علي ونابليون" وتعمدوا فيما ألقوه من كلمات أن يذكّروا بفضل أيادي حكومتهم البيضاء على محمد علي.
وكأن الفرنسيين أخُرجوا مهزومين عسكرياً، فأعادهم محمد علي مسيطرين وموجهين ثقافياً وتربوياً، بل وسياسياً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والذي يعنينا من كل ذلك، هو أثر هذه السيطرة في الثقافة والتعليم، الذي عبّرت عنه المؤرخة الإنجليزية (هيلين ريفليلين) بقولها: إن التفكيك الثقافي المترتب على سياسة محمد علي التربوية المبتورة أمرٌ يستحيل تقديره، ولكن آثاره ما زالت محسوسة في مصر حتى اليوم دون جدال. (مجلة الفكر العربي عدد 32 ص 46).
وفي دورة أخرى من دورات التاريخ والأحداث، انتقلت السيطرة إلى الإنجليز، ذلك أن الصراع كان دائراً لا يهدأ بين انجلترا وفرنسا على اقتسام العالم العربي والإسلامي، كان التسابق بينهما لا يهدأ، ومعلوم مشهور أن الأسطول الإنجليزي حاول أن يسبق أسطول نابليون ويحول بينه، وبين احتلال مصر، فلما سبقه نابليون، ونزل إلى مصر، ظلّ يتحين الأسطولُ الإنجليزي الفرصة حتى انقض على الأسطول الفرنسي في خليج (أبو قير) وحطمه في تلك الموقعة المشهورة. ثم لما فشلت الحملة الفرنسية العسكرية على مصر وخرجت منها سنة 1801م، جاءت انجلترا بحملتها المعروفة بحملة (فريزر) سنة 1807م، ولما كان الشعب لم يدجَّن بعد، فقد رُدّت الحملة على أعقابها، مهزومة مدحورة.
وظلت انجلترا على حالها، لم تنم عن هدفها في احتلال مصر، فتدسّست عن طريق القروض، والرشاوي، حتى جعلت على موطئ قدم، وأخذت تعمل بدأب حتى تمكنت من تحقيق مأربها، واحتلت مصر سنة 1882م أي بعد هزيمتها بخمسة وسبعين سنة. ولما سقطت مصر، سألت انجلترا رجلها الأول عما يلزمه لإحكام السيطرة على البلاد؟ فأجاب (كرومر): إني قادم بنفسي إلى لندن لهذا الشأن، وهناك لم يطلب من قيادته لا مزيداً من السلاح، ولا مزيداً من الجنود، وإنما طلب منهم خبراء في التربية والمناهج، فزوّدوه بالخبير الخطير (مستر دنلوب) الذي ظل مسيطراً على التعليم في مصر دهراً، يصوغ مناهجه، ويحدد أهدافه، وكان هذا استمراراً أو استكمالاً للسيطرة الفرنسية، بل كان هذا أكثر جرأة، وأكثر بشاعة، حيث تُسانده سيطرة عسكرية واحتلال كامل للبلاد، ومنذ ذلك اليوم أخذ (دنلوب) يضع للأمة نظام تعليمها، الذي كان من أثره ما عبّر عنه شيخنا محمود شاكر بقوله:" تخريج أجيال متعاقبة من تلاميذ المدارس، يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بهذا التحول نحو الإعجاب المزهوّ ببعض مظاهر الحياة الأوربية، ونَقْد مظاهر الحياة في بلادهم، مع الإيمان بأن ما أعجبوا به عند الغرب هو سرّ قوّتهم، وأن ما عندنا هو سرّ ضعفنا وانه
يارنا، وذلك عن طريق تفريغهم تفريغاً كاملاً من ماضيهم كله، مع هتك أكثر العلائق التي تربطهم بهذا الماضي اجتماعياً وثقافياً ولغوياً، ومع ملء هذا الفراغ بالعلوم والفنون والآداب، ولكنها فنونهم هم، وآدابهم هم، وتاريخهم هم، ولغاتهم هم، أعني الغزاة." أ.ه
وتصديقاً لهذا اقرأ معي ما قاله العالم المصري الشهير (فاروق الباز) حين قال:" خرجت من التعليم المصري وأنا أعرف كل شيء عن جبال (روكي) في أمريكا، ولم أعرف شيئاً عن مناجم (أبو طرطور) في السويس."
ثم نعود لكلام شيخنا الشيخ محمود شاكر:" وقد تولى نظام (دنلوب) تأسيس ذلك التدمير في المدارس المصرية، مع مئاتٍ من مدارس الجاليات الأجنبية، التي يتكاثر على الأيام عدد من تضُم من أبناء المصريين وبناتهم، وقد كان ما أراد الغزاة.
ولم يزل الأمر إلى يومنا هذا مستمراً على ما أرادوا! بل ازداد بشاعة وعمقاً في سائر أنحاء العالم العربي والإسلامي بظهور دعوات مختلفة، كالدعوة إلى الفرعونية، والفينيقية وأشباه ذلك، في الصحافة والكتب المؤلفة، لأن تفريغ الأجيال من ماضيها المتدفق في دمائها مرتبطاً بالعربية والإسلام، يحتاج إلى ملء بماضٍ آخر يغطّي عليه، فجاءوا بماضٍ بائد مُعرقٍ في القِدم والغموض، ليزاحم بقايا ذلك الماضي المتدفق الحي الذي يوشك أن يتمزق ويختنق بالتفريغ المتواصل" أ.ه وما قاله شيخنا الشيخ محمود شاكر شهد به الخبير التربوي المعروف الأستاذ حليم فريد تادرس، حيث قال: مخطئ من ظن أن نظام تعليمنا تغيّر أو تطور منذ وضعه (دنلوب)، فكل ما يقال عن تغيير أو تطوير هو حركة في إطار مشروع (دنلوب) ونظامه (من كلمة نشرها في جريدة الأهرام).
ومن هذا الباب أيضاً ما كان يردّده الشهيد سيد قطب كثيراً:" إن الاستعمار لا يربض على شاطئ القناة، في المعسكرات التي تضم ثمانين ألف جندي بريطاني، وإنما الاستعمار الحقيقي يربض في شارع الفلكي" يشير بذلك إلى وزارة التربية والتعليم، حيث تقع في هذا الشارع.
وكذلك قوله في مقالٍ له في مجلة الرسالة العدد 995 بتاريخ 28 يوليو 1952م:" إنني أنظر في تاريخ الاستعمار فلا أكاد أجد له اسناداً إلا من المتعلمين.. كل الرجال الذين قدّموا للاستعمار خدماتٍ ضخمة، الذين مهدوا للاستعمار، ومكّنوا له، الذين كشفوا له عن عورات البلاد ومقاتلها، الذين تولّوا عنه تحطيم معنويات الوطن، وقواه الكامنة، الذين جعلوا أنفسهم ستاراً لمساويء الاستعمار ومخازيه... كلّهم كانوا من المتعلمين." أ.ه.
ولكن الذي صور هذا التدمير أبلغ تصوير وأبشعه، هو ما قاله أحد الذين خططوا له، وتولّوا كبره، ذلك هو (اللورد كرومر)، جاء ذلك في كتابه مصر الحديثة، ونقله عنه العلّامة أبو الحسن الندوي في كتابه (الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية، قائلاً:" إن اللورد كرومر الذي كان أكبر رائد إلى تغريب مصر، والعالم العربي بالتتبع، قد صور بنفسه الجيل المصري الجديد الذي نشأ في أحضان التعليم الجديد، وآمن بسيادة الغرب وفضل حضارته ومبادئه تصويراً صادقاً دقيقاً، قد ينسب إلى المبالغة والقسوة والتشاؤم، إذا صدر عن قلم مفكر إسلامي، أو عالم مسلم متحفظ، ولكن صدوره عن قلم رجل كان من أكبر دعاة التغريب في الشرق، يجرده من كل مبالغة وتهويل، ويضفي عليه قيمة علمية كبيرة، ويجعله وثيقة تاريخية تستحق كل اعتبار وكل اهتمام:
"إن المجتمع المصري في مرحلة الانتقال والتطور السريع، وكانت نتيجته الطبيعية أن وجدت جماعة من أفراد هم ((مسلمون)) ولكنهم متجردون عن العقيدة الإسلامية والخصائص الإسلامية، وإن كانوا ((غربيين)) فإنهم لا يحملون القوة المعنوية، والثقة بأنفسهم، وإن المصري الذي خضع للتأثير الغربي، فإنه وإن كان يحمل الاسم الإسلامي لكنه في الحقيقة ملحد وارتيابي، والفجوة بينه وبين عالم أزهري لا تقل عن الفجوة بين عالم أزهري وبين أوروبي".
أرايت؟ هذا هو تصوير أحد دهاقين التدمير والتغريب، لآثار فعله، وثمرة جهوده وجهده، لو قال هذا عن المتغربين أحدُ علماء الإسلام ودعاته، لاتهم بالتطرّف، والإرهاب، والتكفير، فهل توافق على ما قاله (كرومر)؟؟
أنا شخصياً لا أوافق!! فما رأيك؟
ليس هذا تفسيراً تآمرياً للوقائع والأحداث، ولكنه تصويرٌ للواقع بالأدلة والبراهين، بيانٌ لحقيقة الصراع الذي لا يهدأ، ولا ينتهي، سنة الله في خلقه، سنة التدافع "وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" (سورة البقرة: 251).
أعلم أن البعض سيقول: دائماً نعلق عجزنا وقصورنا على الآخرين، حتى جهلنا بتاريخنا وفساد مناهجنا، أين نحن؟ هل نحن دائماً مفعول بنا!! هل يستحيل علينا أن نكون فاعلين؟؟
وأقول: إننا نفسِّر ولا نبرر، التفسير هو معرفة سرّ الظاهرة، وأبعادها وحدودها، التفسير هو التشخيص، والتشخيص هو الخطوة الأولى في العلاج.
وأما التبرير فهو التماس الأعذار لما كان، وإعفاءٌ من المسئولية، وترضية بالواقع. ونحن لا نقول بذلك أبداً، بل إننا حينما نبحث عن جذور هذه العلل، ندعو في نفس الوقت إلى الثورة عليها، والتخلص منها، والاغتسال من أوضارها، وننعى على من استكان لها، ورضي بها أو ساعد على قبولها، ففي هذا التفسير حسابٌ ومؤاخذة أيضاً.
ثم أمتنا لم تكن أبداً مستسلمة لما يُفعل بها، فالتاريخ يؤكد أن مشروع محمد علي لقي مقاومة عنيفة، ومقابلة بمشروعٍ تجديديٍّ من داخل ثقافتنا وتراثنا، ولكن السلطان محمد علي الغاشم، نكّل بقادة الرأي والفكر، ووأد مشروعهم، ولكنهم مع ذلك لم يستسلموا، وظل هذا المشروع حيّا إلى يومنا هذا يحمله رجالٌ أصلاء أظهار، وليسوا بأدعياء، جيلاً بعد جيل، منذ الشيخ عمر مكرم ومن معه إلى علماء الصحوة ودعاتها، الذين حفلت المكتبة الإسلامية بأعمالهم العلمية التي تحمل لنا كل يومٍ ما يضيء جوانب المشروع الحضاري الإسلامي، ويوضع قسماته، ويبين خطورة مشاريع التغريب والتخريب التي تبنّتها دولُنا منذ قرنين من الزمان، منذ عهد محمد علي سنة 1802م، فلم نحصد منها إلا ما نعانيه الآن من انهيار واندحار.
فنحن سواد الأمة لم نستسلم يوماً، ولم يكن مفعولاً بنا، وإنما المأساة في القشرة المتغربة التي مُلئت أفواهها (هناك) كما قال (سارتر) وجاءت لتنطق نيابة عنهم هنا، هؤلاء هم الذين مُكِّن لهم من قيادة الفكر، والهيمنة على مناهج التربية والتعليم، ومنابر الإعلام، ومراكز التثقيف، وكما قال (سارتر):"يمنعون غيرهم من الكلام".
ولكن مع كل هذا ظلت أمتنا حيّة فاعلة، وأبداً لن تموت.
ومن عجبٍ أنهم دسّوا بضعة أسطر في كتاب التاريخ تقول:" إن عصر النهضة بدأ بحملة نابليون، حيث استيقظ الشرق على طلقات مدافع نابليون، الذي جاء إلينا بأول مطبعة عربية، وأول مرسم للخرائط، وأول معمل للكيمياء".
ومن أجل هذه الأسطر صار الغازي المبير الذي دخل الأزهر بخيوله، الذي هدّم القاهرة، وحرّقها، الذي كتب بخط يده إلى قوّاده في الأقاليم يقول لكل منهم:" اقتل كل يوم من ثلاثة أشخاص إلى خمسة، وأقطع رؤوسهم، وأرْفعها على الرماح، وطُف بها في جميع أنحاء إقليمك، ثم انصبها طوال اليوم ليتحدث بذلك الناس، إنك إن فعلت ذلك، ملأتَ القلوب بالرعب والخوف، وألزمتهم الخضوع والخنوع، إنني أفعل ذلك كل يومٍ في القاهرة، فافعل مثلي".
هذا السفاح المبير الذي زَيفّت صورتَه أسطرُ التاريخ لنا، حتى وجدنا حملة واسعة من جماعة المثقفين (الرسميين) تدعو للاحتفال بمرور مائتي على مجيء نابليون إلى مصر.
هل رأيت في الدنيا كلها أمة تحتفل وتبتهج بذكرى مجيء غازيها؟ ولكنها العاطفة التي تصنعها بضعة أسطر في كتاب التاريخ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.