مروي.. رصد مسيرات فوق ارتكازات الجيش السوداني    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    عن ظاهرة الترامبية    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تيارات الإصلاح والتجديد في شبه القارة الهندية

سنعمل في هذا المبحث على قراءة خارطة أهم التيارات الإصلاحية في شبه القارة الهندية ابتداء بظهور التيار الإحيائيّ السلفيّ مُمثلا في شخص كل من: ولي الله الدهلوي وأبو الأعلى المودودي، ومرورا بالاتجاه التحديثيّ الليبراليّ مُمثلا في شخص السيد أحمد خان، وانتهاءً بالاتجاه التجديديّ ممثلا في شخص كل من: أبو الكلام آزاد ومحمّد إقبال.
مقدمة:
"طالما طرَقتُ باب النيِّام ليستيقظوا فإن فعلوا، ذلك ما أبغي، وإن تخبَّطوا عند انتباههم وترنَّحوا يَمنة ويَسرة فمرحلة لا تستوجب الرضا، ولكنها مع ذلك تستوجب الأمل في يقظة المستقبل، وليتها تكون!!. فعندما ترى الأم طفلها مريضا تُلحُّ عليه أن يشرب الدواء المر... وأنا كذلك سوف أطرق باب النيَّام دائما ليستيقظوا، وسأصيح بالأطفال المِرَاض : اشربوا اشربوا، حتى يتجرَّعوا لا أكِلُ ولا أَمَلُّ" ..
أحمد خان (1233- 1316 ه)
"أيها المسلمون: احملوا القرآن وانهضوا، وحلقوا فوق العالم، فليس من شأننا أن نلهث وراء العالم، بل علينا أن نشده إلى مبادئنا وأصولنا..وإذا لم يكن العالم يقدرنا، لأننا لا نسير خلفه فيجب علينا أن نلفظه ونلقي به بعيدا!. إن حياتي ومماتي وقف على هذا الهدف النبيل.. وسوف أسير قدما، حتى لو لم يتقدم معي أحد وسوف أسير وحيدا، إذا لم يرافقني أحد ولو اتحدت الدنيا وخالفتني فلن أخشى خوض المعركة وحيدا منفردا !
أبو الأعلى المودودي (1321- 1399ه)
مثلت تلك المقولات السابقة أساسًا لما يمكن أن نسميه بإرهاصات الإصلاح والتجديد وعلاقة الإسلام بالغرب في البيئات غير العربية - الهندية منها بصفة خاصة - وعلى غير الشائع، فقد طُرحتْ هذه القضية مبكرا جدا في تلك البيئات - خلال القرن ال17 الميلادي مع الإرهاصات الأولى لانهيار الامبراطورية العثمانية ممثلة في الانهزامات العسكرية المتتابعة، ومرورا بالتوقيع على المعاهدات الجائرة بحقها، وليس انتهاءً بمنح الامتيازات الأجنبية.
ومن بين المؤلفات الأولى التي ظهرت في هذا الشأن كتاب "أصول الحكم في نظم الأمم" لإبراهيم متفرقة، والذي ألفه قرابة العام 1727، وكتاب "جنة المشركين" لمحمد جلبه أفندي عام 1731، إضافة إلى تقرير حول التنظيمات العسكرية وأنماط الإدارات والحكومات للدول الأوربية أعدّه راتب أفندي عام 1793. كان بديهيا، والحالة هذه، أن ينقسم المفكرون العثمانيون/الأتراك إلى فريقين رئيسين:
- فريق يرفض مظاهر التحديث الأوربيّ كافة، استشرافا منه للخطر الداهم الكامن بين ثنايا الثقافة الغربيّة الوافدة على الإسلام وشريعته.
- وفريق آخر أدرك، بحكم الواقع وسياق العصر، أن لا سبيل لإصلاح شؤون الدولة/الخلافة إلا من خلال اللحاق بركب الحضارة الغربيّة وانتحال كافة نظمها السياسيّة والإداريّة والاجتماعيّة، حتى ولو تعارضت مع أحكام الشريعة الإسلامية!.
أما مفكرو شبه القارة الهندية، فلم تظهر بواكير كتاباتهم المتعلقة بهذه القضية إلا بعد انهيار دولة المغول الإسلاميّة/الدولة التيمورية (932 ه/ 1526 م- 1273 ه/1857م)، وانتشار موجة المواجهات العسكرية مع الإنجليز إبان مننتصف القرن التاسع عشر. حيث ظهرت في منتصف العقد الثالث من هذا القرن تحديدا بواكير الدعوات الإصلاحية التي كان همها الأكبر ممثلا في مناقشة قضايا الصراع بين الحضارة الأوربية الوافدة من جهة، والثقافة الهندوسية العريقة من جهة ثانية، والعقيدة الإسلاميّة من جهة ثالثة.
تبعا لذلك، انقسم المفكرون المسلمون هناك، عقب ثورة العام 1274ه/1857م، إلى اتجاهين رئيسين:
-أولهما: الاتجاه المحافظيّ، ممثلا في أتباع الشاه ولي الله الدهلوي (1114ه/1703م-1176ه/1762م) الذي دعا إلى مقاطعة الغرب ومحاربته والتمسك بكتاب الله وسنته.
-ثانيهما: هو ما يُطلق عليه الاتجاه التحديثي ممثلا في شخص السيد/ أحمد خان (1233ه/1817م-1316ه/98م)، والذي دعا، على العكس من الاتجاه الأول، إلى الاقتباس من الحضارة الغربية في علومها ونظمها وفنونها مع التمسك بالثوابت العقدية.
وسرعان ما انتقل هذا الجدل لاحقا إلى البيئات العربية خلال القرن التاسع عشر بظهور كتاب رفاعة الطهطاويّ (ت1290ه/1873م) "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" عام 1834م، ومرورا بكتابيّ فارس الشدياق (ت1304ه/1887م) "الواسطة في معرفة أحوال مالطة" و "كشف المخبأ عن فنون أوربا" عام 1866م، وانتهاءً بكتاب "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" لخير الدين التونسيّ (ت1308ه/1890) عام 1867م.
كتابات محافظة
غير أن الملاحظ على أغلب هذه الكتابات أنَّها قد ناقشت قضايا الإصلاح والتجديد وعلاقة الإسلام بالغرب عبر أسلوب أميلَ للمحافظة منه إلى التجديد حيث اكتفت بمقابلة الواقع الإسلاميّ ومقارنته بمثيله الغربيّ داعية، على استحياءٍ، للأخذِ بالجوانب الإيجابيّة من الحضارة الأوربية الحديثة.
ملاحظة أخرى على قدر كبير من الأهمية، وهي أن الراصد لبدايات الانشغال بقضايا الإصلاح والتجديد ومستقبل العلاقة مع الآخر في البيئات الإسلاميّة المعاصرة، وعلى اختلافها، يخرج بنتيجتين رئيستين:
- الأولى: أن هذه القضية لم تُطرح في ذاك الوقت إلا كردِّ فعلٍ مباشر للصدام الحضاريّ بين الثقافتين الإسلامية والغربية، وهو ما يفسر نشأة هذه التيارات في كل من تركيا والهند أولا حيث وقعت الهند في قبضة المستعمر الغربي فيما كانت أجزاء كثيرة من العالم العربي لا تزال واقعة تحت سلطة وسيطرة الخلافة العثمانية. ومن ثم، كان الانشغال بتلك القضايا وليد الواقع المعاش أكثر من كونه معبرا عن إرادة عقلية أو محض استشراف للمستقبل من قبل مفكري عصر النهضة.
- والثانية: وهي مبنية على سابقتها، تتمثل في أن قضية العلاقة مع الآخر لم يتناولها المفكرون المسلمون من منطق الوعي بالهُوّية والدفاع عن مشخصاتها وثوابتها ضد الآخر بقدر ما نوقشت باعتبارها إحدى قضايا الإصلاح والتجديد والتحديث ليس إلا!!.
تيارات الإصلاح
ونتيجة لذلك، صارت هذه الإشكاليّة بمثابة حجر الزاوية في كل معالجة لاحقة تم طرحها لحل مشكلات أخرى، حتى وإن بدت على غير صلة بها!!. ولعل في ذلك يكمن سر انبعاثها من جديد وبقاءها قيد المناقشة لقرنين وعقد من الزمان. وفي المحصلة، تأمل دراستنا هذه في الوقوف على أهم تيارات الإصلاح والتجديد في منطقة شبه القارة الهندية خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين (التاسع عشر والعشرين الميلاديين) وذلك على النحو التالي:
* تيّارات الإصلاح والتجديد في شبه القارة الهندية:
- التيار الأول: التيار السلفي المحافظ (ولي الله الدهلوي وأبو الأعلى المودودي وأشرف علي التهانوي نموذجا).
- التيار الثاني: التيار التحديثي الليبرالي (السيد أحمد خان نموذجا).
- التيار الثالث: التيار الإحيائي التجديدي (أبو الكلام آزاد ومحمد إقبال نموذجا).
ويلاحظ أن لشبه القارة الهندية خصائص متنوعة، ليس فقط من ناحية الموقع الجغرافي، وإنما أيضا من ناحية التنوع الديني والثقافي أو الحضاري بشكل عام.
وتبعا لذلك، فإن التعدد والتنوع هو الأساس في البنية الثقافية الهندية ولعل ذلك ما قصده شكيب أرسلان (1286ه- 1366ه) حين قال: "إن المدنية الإسلامية في الهند كانت خلاصة مدنيات عديدة: إذ اجتمعت فيها عناصر الحضارات العربية والفارسية والتركية والمغولية والصينية والهندية والبوذية وغيرها"([1 ]).
لكن ما إن أطلت الحداثة برأسها على شبه القارة الهندية حتى نمت فيها التيارات السلفية المتشددة وأخذ العلماء ينظرون إلى التطور نظرة مريبة فبثوا الألغام في طريقه وملئوا عقول الناس بأن كل حديث ليس إلا بدعة وضلال. ومن ثم، فقد عكفوا على علوم الدين يُفهِّمُونَهَا للناس مؤكدين في هذا السياق أن كل ما عداها رجس من عمل الإنجليز لا بد أن تسد أمامه المنافذ والأبواب.
"وهكذا أصبح عامّة المسلمين في الهند حينذاك محصورين بين ضغط الحكومة واضطهادهم وافقارهم، وتهيئة كل سبل الجهل والضعف لهم، وبين فكرة العلماء في محاربة كل جديد، ولو علما نافعا من علوم الطب والهندسة وما على شاكلتها، فتأخر المسلمون عن الركب كثيرا"([2 ]).
في هذا الجو المشحون برزت نخبة قليلة تلقت علومها في الغرب لكنها عادت فحطمت كافة القيود من حولها ولم تبال بسخط العلماء وانتقاداتهم. ومن ثم، نشأت خصومة ما بين الإسلام والمدنية الحديثة في واقع المسلمين وعقولهم. ليس غريبا إذاً، والحال هذه، أن يحتدم الجدل ويصل إلى مرتبة العنف بين متخرجي جامعة "عليكرة" وبين العلماء الديوبنديين (الدرعميين بلغة المصريين نسبة إلى دار العلوم) وغيرهم.
وفي المحصلة، سنعمل في هذا المبحث على قراءة خارطة أهم التيارات الإصلاحية في شبه القارة الهندية ابتداء بظهور التيار الإحيائيّ السلفيّ مُمثلا في شخص كل من: ولي الله الدهلوي وأبو الأعلى المودودي، ومرورا بالاتجاه التحديثيّ الليبراليّ مُمثلا في شخص السيد أحمد خان، وانتهاءً بالاتجاه التجديديّ ممثلا في شخص كل من: أبو الكلام آزاد ومحمّد إقبال.
*أولا: التيّار السلفيّ المحافظ
يمكننا القول إنه ابتداءً من القرن ال12 الهجري أصبحت شبه القارة الهندية بمثابة الجزء الحاسم الحسّاس من العالم الإسلاميّ. ووفق هذا السياق يمكننا أن نتفهم طبيعة الدور الذي قام به حكيم الإسلام الإمام أحمد بن عبد الرحيم المعروف بالشيخ ولي الله الدَّهْلوي الذي قام بدور مهم في إحياء الفهم للدين من خلال الكشف عن أسرار الشريعة ومقاصدها والتوفيق بين العقل والنقل، الفقه والحديث، فضلا عن دوره الخاص بالعمل على إصلاح العقائد والرد على المذاهب الباطلة إلى جانب محاولته تجسير الهوة ما بين المذاهب الفقهية السائدة ورفع الفجوة بين المنتمين إليها([3 ]).
وبالرغم من أن حركة إمام أهل السنة والجماعة كانت قد بدأت في القرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلادي، إلا أنها تعد في منزلة أم الحركات الإحيائية التجديدية في العصر الحديث بشبه القارة الهندية بحيث يتعذّر بدون دراستها فهم جميع التيارات الفكرية اللاحقة لها زمنيا المتأثرة بها فكريا.
خاصة، وأن جهود الدّهلوي تمت في عصر الفوضى السياسية واحتضار الدولة الإسلامية في شبه القارة الهندية. ومن ثم، لقد امتد دوره الإصلاحي ليشمل مساحات مكانية وزمانية واسعة تعد "من أوسع المساحات التي قُيضت لمصلح ديني، وعالِم مؤلِّف، مُدَّرِس مُربٍّ، مضافا إلى ذلك كله إحياء الجهاد في سبيل الله، ومقاومة الخطر [الداهم] على حرية المسلمين وسُلطتهم" ([4 ]).
ويبدو من سياق العصر الذي وجد فيه الشيخ أنه كان أقرب الشبه إلى عصر ابن تيمية الحراني (ت 728ه) من حيث انحطاط الدولة وذهاب هيبة الخلافة وتعويلهما على الكتاب والسنة باعتبارهما الأصل والأساس في حل جميع المعضلات والمشكلات الواقعية، فضلا عن ظهور الحاجة الماسة إلى إعمال العقل واتساع رقعة الاجتهاد.
ونحن بهذا التوافق الفكري لدينا سلسلة مكونة من مؤسس ووسيط ومجدد. أما المؤسس فهو ابن تيمية، وأما الوسيط السابق على الدهلوي فهو الشيخ أحمد بن عبد الأحد المعروف بالإمام السَّرهندي (971ه- 1034ه)، وأما المجدد فهو ولي الله الدهلوي الذي سنتعرف الآن على عصره ودوره السلفيّ الإحيائيّ تمهيدا لبحث تيارات الإصلاح والتجديد في شبه القارة الهندية خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين.
وإذا كان معلوما أن العصر الذي يولد فيه الإنسان، والعالم الذي يحيط به، والمجتمع الذي ينشأ في أحضانه، هو بمثابة النهر الجاري الذي تتصل فيه كل موجة بسابقتها؛ فلا مناص من التعرض لعصر المجددين ومراعاة الظروف التاريخية، السياسية والاجتماعية، التي أحاطت بدعوتهم وأثرت سلبا أو إيجابا على طريقة تفكيرهم وموقفهم بما لها من الدور الأساسيّ في تكوين عقليتهم وثقافتهم ومن ثم في تكوين رؤيتهم للأمور وحكمهم عليها.
ومن المعلوم أن شاه ولي الله الدهلوي قد ولد سنة 1114 هجرية وتوفي عام 1176 هجرية، أي أنه عاش لمدة 62 عاما توالى فيها على عرش الدولة العثمانية خمسة سلاطين. واندلعت في عهد أحدهم (مصطفى الثالث المتوفى سنة 1187 ه) الحرب ما بين روسيا والدولة العثمانية والتي انتهت بهزيمة العثمانيين عام 1769م.
وسرعان ما تخرّج الشيخ على يديّ والده (ت 1131ه) ثم تولى مسنده من بعده لمدة اثنتي عشرة سنة. كما انتشرت المطابع في الدولة العثمانية حين كان الدهلوي لا يزال شابا بعد، فضلا عن ظهور حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية (1115-1206ه). ومن الثابت تاريخيا أنه سافر لأداء فريضة الحج عام 1142ه وأقام في الحرمين لمدة عام، وعندما رجع مرة ثانية إلى موطنه أخذ في تدريس علوم الحديث الشريف في المدارس الرحيمية (نسبة إلى والده)، والتي كانت واقعة في حي مهنديان بدلهي القديمة.
وفي السياق نفسه، قدم إلى الهند بعد رحلة حج قام بها سنة 1822م اعتنق خلالها الوهابية مصلح آخر اسمه "السيد أحمد" (1782م- 1831م) فدعا إلى تحريم زيارة الأضرحة والشفاعة بالأولياء وأنشأ بإقليم بنجاب شبه دولة وهابية لدرجة أنه هدد، لفرط نفوذ سلطانه، شمال الهند فأقام حربا عَوَانا على البدع والخرافات وهاجم رجال الدين والوعاظ وأعلن الجهاد على متبعي البدع والخرافات وكل من لم يعتنق مذهبه ويقبل دعوته.
ونظرا لتأثره الشديد بوالده الشيخ عبد الرحيم ألّف الدهلوي كتابا في حياة أبيه سمّاه "بوارق الولاية" المعروف ب "أنفاس العارفين"، تحدث فيه عن فضائله ومناقبه وشيء من نسبه وكراماته (يعود نسب الإمام الدهلوي إلى سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه).
وإذا استعرضنا المؤلفات التى تربى عليها الدهلوي، حسب ما ذكرها هو، فسوف يتبين لنا طبيعة أو تركيبته الثقافية وهو يقول في كتابه "الجزء اللطيف":
"... وقرأت من الفقه شرح الوقاية والهداية، ومن أصول الفقه الحسامي وطرفا صالحا من التوضيح والتلويح، ومن المنطق شرح الشمسية كله، وقسطا من شرح المطالع. ومن الكلام شرح العقائد كله، مع جملة من حاشية الخيالي، وشيئا من شرح المواقف، ومن السلوك [التصوف] قطعة من العوارف، وبعضا من الرسائل النقشبندية وغيرها، ومن الحقائق شرح الرباعيات لمولانا الجامي، واللوائح ومقدمة شرح اللمعات ومقدمة نقد النصوص، ومن خواص الأسماء والآيات [التفسير] المجموع الخاص لذاته، والفوائد المئة وغيرها، ومن الطب الموجز، ومن الحكمة شرح هداية الحكمة، ومن النحو الكافية وشرحه للجامي، ومن المعاني [البلاغة] المطوَّل..." ([5 ]).
ونتيجة لثقافته العالية ترك الدهلوي أكثر من تسعين مؤلفا موزعة على علوم الدين المختلفة: التفسير، والأصول، والفقه، والحديث، والكلام، والحقائق والمعارف، والسوك، والسيرة، والتاريخ، والفلسفة، والشريعة،...إلخ. ومن أهم مؤلفاته: "حجة الله البالغة" و "إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء" و "أنفاس العارفين".
ومن خلال استعراض مآثر الشيخ التجديدية يبدو لنا سعة دائرة الإحياء أو التجديد التي قام بها وتنوعها، حيث توزعت جهوده الإصلاحية لتشمل كافة المجالات التالية:
1)إصلاح العقيدة والدعوة إلى الرجوع للقرآن والسنة.
2)الوعظ الديني والإصلاح الاجتماعي العام.
3)التوفيق بين الحديث والفقه.
4)الكشف عن مقاصد الشريعة.
5)الدفاع عن نظام الخلافة الإسلامية.
6)الجهاد في عصر الفوضى السياسية واحتضار الدولة المغولية.
7)نقد التيارات السائدة في عصره.
8)الدعوة إلى الإصلاح والتجديد ومحاربة الجمود والتقليد.
9)إعداد القادة والدعاة عبر القيام بالتوجيه والتدريس.
وفي الواقع، يحتل جانب إصلاح العقائد المكانة الأسمى من بين اهتمامات ولي الله الدهلوي التجديدية انطلاقا من إيمانه الراسخ بأن إصلاح الأمة وتجديد الدين في أي عصر أو مصر لا بد وأن يبدأ أولا بإصلاح العقيدة وإلا فإنه يعدو خطَّا على الماء ومبنيا على غير أساس.
وقد رأى الدهلوي أن دراسة القرآن وفهمه يعد بمثابة أقوى الطرق وأكثرها تأثيرا لعلاج فساد العقيدة وانحرافها . ويبدو أن الشيخ قد تأثر في هذا الجانب كثيرا بالدعوة الوهابية التي عاصرها أثناء رحلته إلى البيت الحرام ويذكر في هذا الجانب أن أول ما بدأ به الشيخ ترجمته للقرآن باللغة الفارسية تحت عنوان "فتح الرحمن".
وبحسب ما يذكر أبو الحسن الندويّ، فإن الدهلوي "قد اطمأن بعد عودته من الحجاز بخمسة أعوام (ولعل ذلك بعدما شاهد من نتائج الجهود المبذولة لإصلاح العقائد عن طريق التدريس للخاصة، وإلقاء الدروس العامة، والوعظ والإرشاد) إلى أنه لا طريق أبلغ وأقوى تأثيرا للإرشاد العام وإصلاح العقائد من نشر تعاليم القرآن الكريم وإرشاداته ودعوته وتبليغها إلى الناس بطريقة مباشرة"([6 ]).
وعلاوة على التراجم الأردية للقرآن الكريم التي قام بها لاحقا الشيخين عبد القادر الدهلوي (ت1230 ه) ورفيع الدين الدهلوي (ت1233ه)، قام ولي الله الدهلوي بإلقاء دروس القرآن شرحا وتفسيرا وقد استمر على نفس النهج أكبر أبناءه، المضطلع بأعباء أعماله الإصلاحية التجديدية بتوسيع نطاقها واستكمالها، الشيخ عبد العزيز الدهلوي (ت1239 ه) الذي استمر في إلقاء دروسه المؤثرة في القرآن بدلهي لثلاثة وستين عاما.
ومن أهم كتب ولي الله الدهلوي في هذا المجال كتابه "الفوز الكبير في أصول التفسير" الذي درس فيه مقاصد القرآن وموضوعاته وخصائص أسلوبه ومناهجه، وأسباب النزول ...إلخ.
كما أولى الإمام اهتماما كبيرا بمسألة التوحيد وحقيقة الشرك مؤكدا أن الطبقة الكبيرة من العامة قد فهمت حقيقة الشرك على أنه إشراك كائن مع ذات الله تعالى على قَدَم سَواء، أما نسبة بعض صفات الله تعالى إلى بعض عباده المقربين، وتوليتهم بعض أمور القدرة المطلقة، فكل ذلك لا ينافي عندهم التوحيد ولا يرادف الشرك! موضحا أن هذا تلبيس جرّ كثيرا من أفراد هذه الأمة (الصوفية بخاصة) إلى حِمى الشِّرك المُحرَّمة بحيث تخطوا الخط الأخير الذي هو الحد الفاصل ما بين الشرك والتوحيد.
وتأكيداً على هذا المعنى يقول في كتابه الفوز الكبير: "والشرك هو إثبات الصفات الخاصة بالله تعالى لغيره مثلَ إثبات التصرف المطلق في الكون، بالإرادة المطلقة، التي يعبر عنها ب "كن فيكون"، أو إثبات العلم الذاتي الذي يحصل بالاكتساب عن طريق الحواس والدليل العقلي والمنام والإلهام... وهؤلاء المشركون لا يعرفون مع الله تعالى شريكا في خلق الجواهر (أصول المادة/العالَم) وتدبير الأمور العظام، ويعترفون بأنه لا قدرة لأحد إذا أبرم الله تعالى شيئا وقضى، أن يُمانعه ويقف دونه، إنما كان إشراكهم في أمور خاصَّة ببعض العباد" ([7 ]).
وبذلك يكون الدهلوي قد تابع خطى ابن تيمية في شرح العقائد وعرضها وفق منهج السلف الصالح وهو يقوم على الجادة المتوسطة بين كل من "التأويل" و "اللفظية" بحيث يجمع في كتابه "العقيدة الحسنة"، المنشور لاحقا باسم "العقيدة السنية"، بين عمق الدراسة وسهولة العبارة على النحو الذي تميزت به أيضا وصيته "المرآة الوضيئة في النصيحة والوصية" والتي جاء فيها:
"وصية هذا الفقير الأولى أن يتمسك المسلم في العقائد والعمل بالكتاب والسنة ويَعِضَّ عليهما بالنواجذ، ويعمل بهما دائما ويختار في العقائد منهج المتقدمين من أهل السنة، ويُعرض في باب الصفات والآيات المتشابهات التي لم يّخض السلف في تفصيلها والبحث فيها، ولا الالتفات إلى تشكيكات العقلانيين المتكائسين" ([8 ]).
وفي المحصلة، لقد حاول ولي الله الدهلوي أن يعيد توازن القوى المتصارعة في عصره لصالح الإسلام، وذلك من خلال كتاباته في المقام الأول وبترجمته للقرآن الكريم ثانيا. كما كان يقصد من وراء حركته التجديدية الإصلاح بين مختلف الفرق والمذاهب الإسلامية لأنه كان يرى في تفرقها سببا في ضعف الإسلام.
وبعد وفاة الشيخ تولى ابنه الشاه عبد العزيز الدهلوي (1746-1824م) قيادة الحركة التجديدية التي قادها أباه إلى جانب مسنده في التدريس.
والواقع، أن ظروف الابن كانت أكثر صعوبة عن حقبة أبيه حيث بدأ تأثير كل من السيخ والإنجليز ينمو باضطراد في الحياة السياسية والاجتماعية لشبه القارة الهندية.
ولعل ذلك ما دفع الابن لأن يقوم بجهود عسكرية عام 1246ه لمواجهة طائفة السيخ في منطقة "بالاكوت" إلى جانب اهتمامه بالعمل الدعوي. وقد بقيت حركته الجهادية تمارس كفاحها المسلح ضد الإنجليز إلى وقت خروجهم من الهند.
ومع تصاعد وتيرة تردِّي أوضاع المسلمين بشبه القارة الهندية أعاد الشاه عبد العزيز الدهلوي من جديد طرح مسألة: هل الهند دار إسلام أو أنها تحولت إلى دار حرب؟. كان ذلك عام 1803م حيث أكد عبد العزيز أن كتاب الدر المختار في الفقه الحنفي يضع لانقلاب دار الإسلام دارَ حرب ثلاثة شروط هي:
1)إحلال أحكام المشركين محل أحكام الإسلام.
2)مجاورة الدار لدار الحرب.
3)وافتقاد المسلمين والذميين المقيمين للأمان الأول([9 ]).
ويتابع الشاه عبد العزيز: إن كتاب الكافي في الفقه الحنفي يقول: إن دار الإسلام هي التي يسيطر عليها مسلم، ودار الحرب هي التي يسيطر فيها وعليها كافر.
ويصل عبد العزيز بمقارباته تلك إلى النتيجة الحاسمة بأن دلهي، موطن الاستفتاء، ليس لإمام المسلمين فيها سلطة بل السلطة للمسيحيين الذين تتيح لهم سيطرتهم أن يفعلوا ما يشاءون بالمسلمين، وأن مواطن سيطرة البريطانيين تمتد من دلهي إلى كلكوتا ومن ثم فهي مواطن كفر وحرب، ويتوجب على المسلمين فيها مجاهدة البريطانيين لاستعادة هوية الدار أو الهجرة منها إن عجزوا عن الجهاد.
وبالفعل سرعان ما ارتفعت راية الجهاد خفاقة تحت قيادة شيخ الطريقة المحمدية السيد/ سيد أحمد برلوي (1786-1831م) والذي حج عام 1824م ويبدو أنه تأثر كثيرا بالوهابية ثم بدأ الإعداد للجهاد عقب عودته مباشرة وذلك بدعوته أتباعه للهجرة إلى شمال غرب الهند على الحدود المتاخمة لأفغانستان ولكن قتله السيخ في بلاكوت سنة 1831م بعد أن تخلى عنه زعماء القبائل هناك وانزعجوا من طريقته في تطبيق الشريعة وإقامة الحدود بصورة وحشية.
وفي الناحية الغربية من شبه القارة الهندية كان السيد تيتومير (ت 1831م) يقاتل في غربي البنغال ضد ملاك الأراضي الهندوس والبريطانيين معا غير أنه هزم وقتل هو الآخر عام 1831م. ومع ذلك، استمرت الطريقة المحمدية في قتال البريطانيين بعد مقتل زعيميها في كل من منطقة سيتانا شمال غربي الهند، ومنطقة بتنة شمال شرقي البلاد إلى أن أمكن القضاء عليها نهائيا نحو العام 1883م.
أما الحركة الفرائضية التي أسسها الحاج شريعة الله (1781-1840م) عام 1804م، فقد بدأت هي الأخرى سلفية مهتمة بتنقية التوحيد من الشوائب الكثيرة التي علقت به، ثم سرعان ما اكتسبت طابعا سياسيا في عهد ابنه الملقب بدودو ميان (1819-1861م) الذي جمع الفلاحين والحرفيين المسلمين في مجموعات ودعاهم لمقاومة ملاك الأراضي الكبار إلى جانب البريطانيين عن طريق الإضرابات والتظاهرات والهجرة وعدم إقامة الصلوات العامة كالجمعة والعيدين ما دامت السلطة في البلاد ليست بيد المسلمين.
ولما ضيّق الإنجليز على علماء الهند المسلمين نشأت حركة تعرف باسم "ديوبند"، أي حركة المحافظة على التدين. وقد انخرط أعضاؤها في الكفاح ضد المحتلين وتعاونوا في هذا الإطار مع الهندوس وانضم بعضهم إلى حزب المؤتمر الهندي، وعلى رأسهم: الإمام المجدد أبو الكلام آزاد، والشيخ محمد قاسم النانوتوي، والشيخ حسين أحمد المدني وغيرهم.
أما الشيخ أبو الأعلى المودودي([10 ]) (1321ه/1906م- 1368ه/1949م) فكان والده السيد أحمد حسن المودودي (ولد سنة 1266 ه/ 1850م ) من خريجي كلية عليكرة التي أسسها السيد أحمد خان وعقب تخرجه عين مدرسا بها كما اشتغل بمهنة المحاماة. فيما ولد أبو الأعلى المودودي في الثالث من شهر رجب سنة 1321 ه/25 سبتمبر 1903م بمدينة أورنك آباد الواقعة ضمن حدود ولاية حيدر آباد الدكن الشهيرة.
وما إن تخرج المودودي حتى امتهن الصحافة مع أخيه الأكبر، والذي كان يعمل مديرا لتحرير صحيفة محلية كانت تسمى "المدينة"، لكن سرعان ما أغلقتها السلطة مما اضطره للانتقال للعمل بصحيفة أخرى تدعى "تاج"، إلا أن السلطات قامت بإغلاقها هي الأخرى مما اضطره للعودة ثانية إلى مدينة دلهي بطلب من الشيخ المفتي كفاية الله، مدير جمعية علماء الهند، للعمل على إصدار مجلة "المسلم" لتكون لسان حال جمعية علماء الهند غير أنها أغلقت هي الأخرى!! عام 1922م بعد أن عمل مديرا لتحريرها لمدة ثلاث سنوات، لكنه لم ييأس حيث أصدر على نفقته الخاصة في العام التالي جريدة "الجمعية"، والتي باشرت الصدور حتى عام 1928م.
كما أصدر في عام 1932م مجلة أخرى بعنوان "ترجمان القرآن" في حيدر آباد الدكن، ثم استقدمه محمد إقبال عام 1938م إلى لاهور قبل وفاته بأربعة أشهر فقط. وبعد ذلك أسس المودودي الجماعة الإسلامية في لاهور وظل أميرا لها حتى الرابع من نوفمبر عام 1972!! أي لما يقرب من 32 سنة كاملة.
وقد تعرض المودودي بسبب آرائه السياسية وأحكامه الفقهية للاعتقال أكثر من مرة بل وحكم عليه بالإعدام عام 1953 بسبب كتابه "القضية القاديانية" لولا تراجع حكومة الرئيس الباكستاني غلام محمد بسبب تزايد الضغوط المحلية والدولية. وفي كل الأحوال، ظل المودودي يمارس جهوده الإصلاحية والتجديدية على صعيديّ الفكر والممارسة السياسية إلى أن توفي عام 1979م عن عمر يناهز 76 عاما.
ويمكن القول إن المودودي قد تابع إلى حد كبير نهج سابقه الشاه ولي الله الدهلوي في محاربة الجمود والتخلف وتوجيه النقد لكافة التيارات المعاصرة له. غير أنه يمتاز عن سابقه باتساع الاهتمام السياسي لديه بحكم سياقات عصره، فضلا عن تقديمه الإسلام باعتباره نظاما شاملا لكافة جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية...إلخ.
ولم ينس المودودي بالطبع أن يوجه سهام نقده للحضارة الغربية التي كانت محل إعجاب العديد من قطاعات الشباب خاصة المنتمين فكريا لمدرسة السيد أحمد خان المتخرجين من جامعة عليكرة.
أما على المستوى الفكري، فقد ترك الشيخ عددا كبيرا من الرسائل والمؤلفات تقارب 160 مؤلفا في مختلف علوم السيرة والتفسير والتوحيد والدعوة والسياسية الشرعية أو الحكومة الإسلامية إضافة إلى مؤلفاته في الثقافة والتعليم والاقتصاد والملل والنحل والترجمة وقضايا العالم الإسلامي المعاصر...إلخ.
ومن أهم مؤلفاته: الجهاد في الإسلام، مكانة السنة في التشريع، تفهيم القرآن (في ستة مجلدات)، الدعوة الإسلامية ومتطلباتها، الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية، ترجمة القرآن الكريم باللغة الأردية، سيرة سيد العالم، مبادئ الإسلام، الحضارة الإسلامية أسسها ومبادؤها، الدين القيم، تجديد الدين وإحياؤه، الجماعة الإسلامية هدفها ، تاريخها ، وبرنامجها، منهاج الانقلاب الإسلامي، نظرية الإسلام السياسية، حقوق أهل الذمة في الدولة الإسلامية، الخلافة والملك، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة، كتاب الربا، الحجاب، منهج التعليم الإسلامي، مسألة الخلافة، وغيرها.
ويبدو من خلال استعراض أسماء المؤلفات السابقة حجم الجهد التجديدي الذي بذله الإمام المودودي، خاصة وأنه اقترن بنشاط عملي وسياسي مكثف كان له أكبر الأثر في تشكيل وعي الشباب المسلم في العالم أجمع، وليس فقط في شبه القارة الهندية.
وفي تفسير ذلك يذهب محمد عمارة في كتابه عن المودودي إلى القول بأنه لما حدث وتوارت قيادة الإمام حسن البنا العاملة في إطار الشرعية القانونية، وسيطرت على أغلب البلاد العربية نظم ثورية وانقلابية ذات طابع شمولي، انفتح الباب على مصراعيه، في طول البلاد الإسلامية وعرضها، لمشروع المودوديّ- وليس لمشروع البنا- في البعث الإسلامي بعد أن غاب إطار "الشرعية القانونية" الذي جعل البنا يعمل كجزء من نسيج المجتمع. ومن ثم، غدا أمير "الجماعة الإسلامية" الباكستانية- بعد استشهاد البنا- الملهم الأول لفصائل الشباب الإسلامي على امتداد عالم الإسلام، وزاد من جاذبية هذا الطريق "الإسلامي-الانقلابي" تصاعد مخاطر التغريب والغزو الصليبي-الصهيوني([11 ]).
أما مولانا أشرف على التهانوي (1863-1943)([12 ]) فقد ركزّ جهوده على الجانب الإصلاحي العملي حيث نشأ في مناخ من الفرقة والاضطهاد بسبب الاستعمار وفي زمن غلب فيه على المسلمين اليأس والشعور بالنقص. ومن ثم، كان مجال نشاطه واسعا يمتد إلى كافة فئات المسلمين وطبقاتهم الثقافية.
وقد حاول التهانوي أن يذكّر أبناء الإسلام بقيمة الإيمان في حياتهم ويحرّضهم على ترجمة الإيمان بالله إلى واقع الإصلاح البنّاء المركزّ على تنمية الشخصية الإسلامية المتكاملة بعد أن تمزّقت هذه الشخصية وفقدت مركزيتها وقسّمت هويتها بين الولاءات المختلفة. فمن كان ينتمي إلى طريقة صوفية كان منعزلا عن واجبات الحياة الإسلامية العائلية والاجتماعية ومن كان مهتما بالسياسة لم يكن ملما بإصلاحه الروحي ولا بتقوية إيمانه ليتجلّى إيمانه في سلوك اخلاقي قويم يؤثر على سياسته وعلى نشاطاته الأخرى.
ومن ثم اختار التهانوي طريقته الإصلاحية الخاصة التي تركزّ على إصلاح الفرد المسلم وذلك من خلال المحاور التالية: الاتصال الشخصي بالأفراد؛ الاتصال الاجتماعي بمجموعات؛ المراسلة المستمرة بالأفراد؛ الأسفار والرحلات لمخاطبة الجماهير؛ تأليف رسائل وكتب لمخاطبة أهل العلم؛ الافتاء؛ الاتصال بقادة المسلمين وسادتهم لتغيير الرأي العام؛ الاهتمام بتثقيف النساء وتوعيتهن؛ الاتصال بالعلماء والصوفية؛ التدريب العملي للحياة الإسلامية في مركزه الخاص؛ إرسال الدعاة والمرشدين إلى بلاد نائية في القرى والأرياف.
وفي المحصلة، كان التهانوي يؤمن بأن إصلاح المجتمع إنما يتطلب إصلاح الأفراد، كما كان يعتقد اعتقادا جازما بأن الإصلاح الروحي والأخلاقي للأفراد يقتضي التركيز على تعليمهم مقتضيات حسن المعاشرة. ولذا كان الإمام يقسّم تعاليم الإسلام وشريعته إلى كل من: العقائد، العبادات، المعاملات، الحياة العائلية والمعاشرات.
وهكذا استطاع الإمام بجهوده المستمرة التي دامت ستين سنة أن يغيّر وجه المجتمع الإسلامي الهندي خلال هذه المدة من كل النواحي. وقد تأثر بجهوده الإصلاحية مجموعة كبيرة من الناس من مختلف مجالات الحياة. فقد كانت النقطة الأساسية في تعاليم الإمام تتمثل في علاقة الإنسان المسلم بربّه والتي تتركب من ثلاثة عناصر رئيسية: طاعة الله بإخلاص النية، محبة الله بالقلب، ومعرفة الله بالعقل والقلب معا.
وبحسبه فإن كلا من هذه العناصر يقوّي بعضه بعضا بحيث تؤدّي الطاعة إلى المحبة وهي تمهّد السبيل إلى المعرفة ثم تعود المعرفة لتقوّي الطاعة وتقوّي الطاعة المحبة وتزيد المحبة في المعرفة وهكذا يستمرّ السير العملي والسلوك الروحي في حياة الفرد.
وهو يؤكد على أن السير الروحي للعبد نحو الخالق وطاعته ومحبته ومعرفته لا يتحقق إلا بسعي العبد وكفاحه طوال الحياة وأن الله سبحانه وتعالى قد وعد العبد بأنه يهديه سبيل الرشاد بالسعي والجد والجهد فقال تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين".
ولذا كان يحث تلامذته دائما على ممارسة الأعمال التي هي في نطاق القدرة الإنسانية حيث لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وأما ما كان خارج طاقة الإنسان فأمره مؤكلّ إلى الله تعالى. ومن ثم؛ يصح القول إن رسالة الإمام التهانوي هي رسالة رجاء وأمل استنادا لقوله تعالى: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" وقوله أيضا "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر".
لقد قلّب التهانوي النظر بإمعان في الأحوال والظروف والمشاكل والعقبات التي تقف حائلا في طريق الإسلام والمسلمين في شبه القارة إبان عصره، وكان ذا بصيرة ثاقبة في تحليل الأحوال النفسية لأبناء الإسلام ليصل نهاية الأمر إلى يقينه الخاص بأن حل كافة المشاكل التي تواجه المسلمين في شبه القارة إنما يكمن في العودة إلى أصول الإسلام واستعادة القوى الروحية الكامنة لدى الأفراد من خلال هذه العودة.
حاصل على دكتوراه في الفلسفة الإسلامية
([1]) شكيب أرسلان: حاضر العالم الإسلامي، ج 4، ص 319.
([2]) تاريخ الإسلام في الهند، ص331.
([3]) راجع ما كتبه الدكتور جلال السعيد الحفناوي عن الدهلوي ضمن: موسوعة أعلام العلماء والأدباء العرب والمسلمين، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى 1426ه-2005م، المجلد التاسع، الصفحات 366-369.
([4]) أبو الحسن الندوي: رجال الفكر والدعوة في الإسلام، الجزء الرابع "الشيخ ولي الله الدهلوي"، دار ابن كثير، بيروت، الطبعة الأولى، 1420 ه- 1999م، ص 7.
([5]) نقلا عن: رجال الفكر والدعوة في الإسلام، مصدر سابق، ص91-92.
([6]) رجال الفكر والدعوة في الإسلام، مصدر سابق، ص 126 وما بعدها.
([7]) الفوز الكبير في أصول التفسير، نشر المكتبة المحمدية، الهند، دون تاريخ، ص 7-8.
([8]) الوصية بالفارسية وقد نشرت ضمن مجموعة رسائله الأخرى، والترجمة أعلاه منقولة عن: رجال الفكر والدعوة في الإسلام، مصدر سابق، ص 142.
([9]) عوّلنا في استعراض هذه المسألة بشكل رئيس على الفصل الشيق الذي كتبه الدكتور رضوان السيد تحت عنوان "دار الإسلام، والنظام الدولي، والأمة العربية- دراسة في الأصول السياسية للعالم الإسلامي المعاصر"، وذلك ضمن كتابه "سياسيات الإسلام المعاصر، مراجعات ومتابعات"، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1997، الصفحات 84-89.
([10]) هناك عشرات التراجم المنتشرة على صفحات الانترنت حول المودودي وخاصة موقع الجماعة الإسلامية إضافة إلى الفصل الخاص به ضمن الدكتور يوسف القرضاوي " مع أئمة التجديد ورؤاهم في الفكر والإصلاح"، المتاح أيضا على موقع فضيلته. ويمكن الرجوع أيضا إلى كتاب الدكتور محمد عمارة: أبو الأعلى المودودي والصحوة الإسلامية، رقم 8 من سلسلة أعلام، دار الوحدة للطباعة والنشر، بيروت، 1986.
([11]) ص 12-13.
([12]) استعنا في هذا الجزء الخاص بشسخصية التهانوي على ما ورد في الورقة التي تقدم بها د. محمد الغزالي للمؤتمر وهي بعنوان: رواد الإصلاح الديني في شبه القارة الهندية، لذا لزم التنوية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.