خزانة الفاتيكان العلمية ومكتباته الممتدة عبر العالم، من أكبر مصادر المعرفة، خصوصاً أنها معرفة نامية ومتجددة، نسبة لانتشار شبكة الفاتيكان من سفراء وخدام وكهنة وأساتذة جامعات ومدرسين وباحثين وناشطين يخدمون الهدف التبشيري ويحافظون على تنمية المذهب الكاثوليكي -الذي يلتف حوله قرابة المليار ونصف المليار من البشر- وتنتشر هذه الشبكة في الغابات والعمائر في المدن والأرياف وتتغذى من أكبر خزانة اقتصادية تديرها بنوك ومؤسسات الفاتيكان الاقتصادية والخيرية والاجتماعية. خدم كثير من الكهان والقساوسة الكاثوليك في السودان ، ومن أشهر هؤلاء في القرن التاسع عشر الأب دانيال كمبوني، الذي يقال أن رفاته موجودة في منطقة وسط الخرطوم ربما مقر مجلس الوزراء الحالي والذي توفى «أكتب من الذاكرة» ربما في العام 1881م. أما في الأزمنة المعاصرة ، فإن أشهر رواد أباء فيرونا في السودان «منظمة كاثوليكية» ربما كان الأب باروني الذي خدم في السودان، قرابة نصف قرن، في مشروع تنصير السودان وأصبح كاردينالاً وكان مهتماً بالتعليم والخدمة الاجتماعية. ثم الأب فانتيني الذي اهتم بالتاريخ للمسيحية في السودان وممالك النوبة المسيحية ولعله لم يوازه في الاهتمام بالتاريخ الديني إلا اسبنسر ترمجنهام صاحب كتاب «الإسلام في السودان والإسلام في شرق إفريقيا»، والمقابلة المسيحية للإسلام في السودان، علماً بأن ترمجنهام بروتستاني وكان رئيس الكنيسة الأسقفية في الثلاثينيات من القرن الماضي، وبينما الكاثوليك يحترسون في بسط معالم مشروعهم التنصيري إلا أن البروتستانت فيهم شفافية كما أن كتابات ترمجنهام تميل للتحليل ووضع النقاط فوق الحروف لأهداف المشروع التنصيري. كانت هذه مقدمة للتعرف على كتاب الأب فانتيني المصادر التاريخية لممالك النوبة، وفانتيني يريد أن يقول ، كانت هناك حضارة مسيحية عظيمة في هذه المنطقة لها شخصيتها ووضعيتها في التاريخ الإنساني والمسيحي . ولا يمضي في القول أكثر من ذلك. ولنأخذ مقتطفات مختارة ونقف عند دلالاتها اسم الكتاب هو Oriental Sources Concerning Nubia ، أما القصة الأولى أو القطفة الأولى فهي قصة الصراع بين جستنيان وزوجته ثيودورا لتنصير النوبة في القرن السادس الميلادي وتنتهي فصول هذه القصة بإقامة كنيسة قبطية في النوبة ثم علوة العام 580م. وإذا كان عهد البقط قد وقع في 652م فالفارق بين إقامة أول مسجد في النوبة وأول كنيسة هو فقط «72» سنة ، إذ يمكن أن نقول أن ممالك النوبة أصبحت ذات ديانة مزدوجة منذ القرن السابع الميلادي وليس صحيحاً القول على إطلاقه بأنها ظلت ممالك مسيحية لمدة 900 عام أي منذ 580م إلى 1504م بل الأصح أنها ثنائية الديانة إسلامية / نصرانية. ويشير إلى مصدر آخر فيه أنه في العام 573م وصل وفد من منطقة المقره -ربما منطقة عطبرة / شندي الحالية- إلى القسطنطينية وقدم هدايا للملك جستنيان». ومن القصص التي أوردتها نقلاً عن أسقف يدعى جون المدبر، الذي كتب «تاريخ عموم الإغريق» ، ابتداءً من فتح العرب لمصر ، قصة ملك النوبة الذي حارب ذا النواس الذي يعتقد المفسرون من المسلمين أنه المقصود في سورة البروج. والمعروف الرائج أن هذا الملك اليهودي كان في اليمن وعذب نصارى نجران، مما استدعى تدخل الحبشة «أكسوم» النصرانية. ولكن ترد القصة بصورة أخرى، حيث أن ملك اليهود ذا نواس كان يقطع الطريق على التجار النصارى قائلاً: «كما يضطهد الرومان اليهود، فإني كذلك أقتل ثأراً له وحينما علم ملك النوبة بذلك أرسل لملك اليهود قائلاً:- بقتلك للتجار النصارى فإنك تؤذي تجارتي ودولتي». وأغضب ذلك ملك اليهود الذي عزم على محاربته ، بينما نذر ملك النوبة أنه إذا ما انتصر في الحرب سيعتنق النصرانية وبالفعل انتصر ملك النوبة في الحرب وأرسل بعدها إلى الحكام الرومان في الاسكندرية ، ليرسلوا له أسقفاً ليقوم بتنصيرهم وتعليمهم مبادئ المسيحية . وحينما علم جستنيان بذلك طلب أن يرسل لهم ما يريدون وكانت هذه بدايات تنصير النوبة والفائدة أن الشخصية النوبية ظلت على صراع مع اليهودية قبل أن تدخل في النصرانية. وبعد أن دخلت في الإسلام وهذه قضية تحتاج للتأمل وكتاب جوفيني فانتيني مليء بالقصص والأخبار المأخوذة من مختلف المصادر اليونانية والرومانية والإثيوبية والعربية وحتى السودانية لأنّه مسك الختام مثل كتاب «طبقات ود ضيف الله». والشاهد على أصحاب الاهتمامات التاريخية ألا يهملوا مثل هذه المصادر حيث مجرى التاريخ متسع وفيه صور وتقلبات وحكم وبناء العقل التاريخي يحتاج للإلمام بالمصادر المختلفة. وطالب التاريخ كلما اتسعت مصادره اتسعت معارفه وذلك سيقلل عثراته لأن دروب التاريخ متشعبة وطرقه هابرة ويحتاج للخبرة والدراية حتى تصل اشعاع من حكمة التاريخ للمتلقي. ومما ورد كتابه عطبرة «أتبرة» وربما كان معناها أرض التبر -والتبر كلمة عربية وربما حرفها اللسان البجاوي في امتزاجه بالعربية - والفائدة أن الدولة النوبية، حدث فيها الانقلاب الفكري في اتجاه المسيحية بفعل فوقي، وهو اعتناق الملك والنخبة الحاكمة للمسيحية، بينما تقبل المجتمع النوبي الإسلام بصورة مجتمعية أو قاعدية وحينما غلب الإسلام في المجتمع حدث الانقلاب على الملك والنخبة الحاكمة لمصلحة ملك مسلم ويمكن أن يفسر ذلك جزئياً لماذا تلاشت المسيحية تماماً في ممالك النوبة، مفسحة المجال للإسلام بينما بقيت المسيحية ككنيسة وأقلية حتى في مصر والشام وغيرها، لأن الانقلاب الفوقي دائماً لا يغطي كل الفراغ بينما التغيير المجتمعي القاعدي على بطء وقوعه إلا أنّه يملأ المساحة .. والله أعلم.