سنقدم في هذا البحث أبرز الثوابت والمتغيرات التي ينبغي للعاملين في مجال العمل الدعوي ملاحظتها ومراعاتها ولا ينبغي لهم تجاوزها باعتبارها تمثل الإطار المرجعي للعمل والعاملين في هذا المجال ، وما إيرادي لها إلاَّ نوع من التذكير ليس إلاَّ. كانت هذه أبرز الثوابت التي لا يختلف عليها مسلمان ،وأما المتغيرات فهي أكثر من أن تحصى، وقد سبق وأن ذكرنا قول ابن تيمية في ذلك، وإنما نشير إليها إشارة، فمن المتغيرات: ثانياً: المتغيرات 1 حصر الخلاف في دائرة الفروع. وهذا هو الخلاف السائغ، هو الذي يجري فيه التغافر والتناصح. 2 الوسائل لها حكم المقاصد من حيث المشروعية. 3 تفاوت الاجتهادات في الوسائل ما دامت في دائرة المباح وليس فيها من محذور شرعي. 4 تفاوت الاجتهادات في ترتيب الأولويات يختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة والأشخاص، ولكل ما يناسبه. فهذه الأمور من جملة المتغيرات ومن أبرزها، و في الغالب ما يجري الخلاف في إطارها. فالوسائل باتفاق الفقهاء، وكما سبق وأن بينا أنه ما لا دليل قاطع عليه فإنه يجوز فيه الاجتهاد، وبالتالي الخلاف. غير أنه ينبغي أن يكون مضبوطاً بما ذكرنا في الثوابت. وهذا بخلاف الأهداف والغايات، فما هي في الحقيقة إلاَّ صياغة عصرية للثوابت، وبالتالي فلا يجوز الخروج عليها أو عنها. ومن المناسب هنا أن نتعرض لقضية معاصرة كثيراً ما اختلف الناس حولها، لما لها من ارتباط بالثوابت والمتغيرات. هذه القضية هي قضية الديمقراطية والتي إذا ما عرضناها على ميزان الثوابت والمتغيرات يمكن لنا أن نخرج برأي مناسب حولها. من المعروف أن هذه القضية موضوعها حادث ومصطلحها دخيل على أمة الإسلام، فهي غربية المولد والنشأة علمانية المضمون والجوهر. وقولي هذا ليس حكماً مسبقاً وإنما هو مقدمة واقعية وحقيقية. فالديمقراطية تعني عند مؤسسيها وواضعيها ودعاتها تعني حكم الشعب نفسه بنفسه، كما أنها تعني حق الشعب في اختيار حكامه ومراقبتهم ومحاسبتهم وعزلهم. وإذا ما عرضنا الديمقراطية بهذه المضامين على ميزان الثوابت والمتغيرات لنرى هل هي متعلقة بالثوابت أم بالمتغيرات؟ فسنجد أن لها علاقة بهما معاً، فهي من ناحية السيادة تتعلق بالثوابت ومن حيث أسلوب الممارسة تتعلق بالمتغيرات. فقول دعاتها: أنها حكم الشعب نفسه بنفسه. هذا المضمون يتعارض معارضة كلية مع جميع ثوابت الحاكمية في الشريعة الإسلامية. والديمقراطية بهذا المعنى لا يقول بها أي من العاملين في مجال العمل الإسلامي، ومن تبنى الديمقراطية بهذا المفهوم فهو واقع في أكبر الكبائر، فهي بهذا المعنى كفر بالله وشرك أكبر. ونخشى عليه إن لم يرجع عن قوله هذا. أما من يقول بأنها مفروضة عليه فرضاً فهذا شيء أخر، وهو على خطر عظيم. وبحسب علمي فإن الإسلاميين الذين يتكلمون عن الديمقراطية ويدعون إليها لا يقصدون بها هذا المعنى وإنما يقصدون المعاني الأخرى التي سبق وأن أوردناها من حق الشعب في اختيار حكامه ومراقبتهم ومحاسبتهم وعزلهم، للحد من طغيان الحكام ودكتاتوريتهم، وإذا ما نظرنا إلى الديمقراطية بهذا المعنى، فهل التعامل بها جائز أم محرم؟ من البدهي أولاً أن نقول: أن الديمقراطية بهذا المفهوم من المتغيرات لا من الثوابت فهو لا يمسها، بخلاف المضمون الأول فهو يمس السيادة، بينما هي بهذه المفاهيم تمثل آلية عمل ليس إلاَّ. وعلى هذا الأساس كونها هنا من المتغيرات لا من الثوابت سيكون حديثنا وبحثنا. فالديمقراطية بهذه المفاهيم ومن هذا الشق لها أصل في شرعنا، بل هي من الأسس والقواعد الكلية في السياسة الشرعية الإسلامية، فعموم نصوص الشرع تدعوا إلي العدل بين الناس في الحكم، وإلى تولية الناس أمرهم من يرضون دينه، ولهم عزله إن ارتكب ما يوجب عزله، ولهم الحسبة على منكراته إن ظهرت بالأساليب الشرعية، وقبل ذلك لهم مناصحته لحديث (الدين النصيحة). ولا يوجد مانع شرعي يمنع من ممارستها والدعوة إليها بهذه المضامين وعلى فرض أن النصوص الشرعية غير واضحة الدلالة على جواز ممارستها، فسنجد أن من المنصوص عليه في كتب القواعد الفقهية أن الأصل في الأشياء الإباحة. وأما احتجاج البعض بكونها غربية المنشأ والمولد، فليس دليلاً على حرمتها ومنعها، لا من حيث المصطلح ولا من حيث الممارسة، فلا مشاحة في الاصطلاح فالعبرة للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني. ومن حيث الممارسة لا يمنع ممارسة غير المسلمين لها من أن يمارسها المسلمون، فقد استفاد النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الأعراف السائدة التي كان يمارسها المجتمع الجاهلي، ووظف تلك الأعراف في خدمة الدعوة الإسلامية، وكذلك فعل أبو بكر صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك دخولهما في جوار المشركين، فقد دخل صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم بن عدي، فيما دخل أبو بكر في جوار ابن الدغنة، كما استفاد النبي صلى الله عليه وسلم من خبرة الفرس العسكرية ووظفها في حماية المسلمين في غزوة الخندق، والمسلم المعاصر اليوم في أشد الحاجة إلى الاستفادة من كل ما من شأنه أن يحمي المسلمين، ويمكن لهم في الأرض لتحكيم شرع الله تعالى وإعلاء كلمته. ومنها الديمقراطية إذ هي اليوم لو صدق الحكام و الدعاة إليها هي أقصر وأفضل وأسهل وأسرع الطرق لإيصال القيادة الإسلامية إلى مصدر القرار، والواقع يشهد بذلك في البلدان التي مارستها بمصداقية، كما جرى في الجزائر وفلسطين وتركيا وغيرها من الدول. غير أنه مما ينبغي أن ننبه عليه وبقوة: 1 أن الديمقراطية إذا ما قُصِد منها إلغاء حاكمية الشريعة وسيادة الشعب بحكمه نفسه بنفسه، وجب رفضها ومحاربتها. 2 وكذلك ينبغي أن نعلم أن الديمقراطية يجب أن تكون وأن تظل وسيلة لا غاية، وأنها ليست الحل الدائم والأفضل في كل الأوقات والأماكن، وإنما تختلف الفتوى فيها باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال، وإن كانت اليوم مناسبة في مكان فإنها قد تكون لا يكون مناسبة في مكان أخر، وإن كانت اليوم هنا مناسبة فقد لا تكون كذلك غداً، بل قد تكون وبالاً وخطرا، وأن قبول بعض الإسلاميين لها اليوم بهذا المصطلح ما هو إلاَّ نوع من المجاراة والمداراة؛ لتحقيق أفضل النتائج المرجوة منها، كما أنها من ناحية أخرى نوع من الضعف الناتج عن التبعية للدول القوية، وعليه فإنه إذا زال الضعف نتج عنه انقطاع عن التبعية، أو لم تحقق المشاركة ما يراد منها وجب نبذها وتعرية سوءتها وإظهار حقيقتها التي بينَّتها سابقاً، ومع تجويز المشاركة فلا بد من إشهار وإظهار المصطلحات الشرعية في هذا الجانب كالشورى وأهل الحل والعقد ونحوها، وإن كنَّا اليوم قادرين على إشهار المصطلحات الشرعية فهي أولى وأحق من هذه المصطلحات. 3 أن الخلاف فيها بالمعنى الثاني يعتبر خلافاً في الفروع فهو من الخلاف السائغ، يتناصح فيه المتناصحون، وفيه يجري اجتهاد المجتهدين، بحسب الزمان والمكان والأحوال والمصالح والمفاسد. ويقدر ذلك كله علماء وفقهاء كل بلد على حدة. والله أعلم -------------------------------------------------------------------------------- [1] رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني في السلسلة 1/404 [2] قال تعالى )مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ( ص:69 [3] قال تعالى )وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ{78} فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ( الأنبياء : 78 79 [4] في الألسن والألوان والعقول والأفهام والمدارك كما هي سنته في الجبال وقطع الأرض. [5] ) والإجماع ليس أصلاً مستقلاً بذاته، بل هو أصل تبعي يرجع إلى الكتاب أو السنة، بل هو مستند عليهما كاشف للدليل منهما، رافع له من درجة الظن إلى درجة القطع. [6] سبقه تخريجه [7] حسنه الألباني [8] صحيح مسلم [9] حسنه الألباني [10] كتب السنن وصححه الألباني [11] صحيح البخاري . [12] صحيح البخاري