عادة لا أحب استخدام كلمات المبالغة. كان عنوان هذا التحليل (المؤتمر الوطني يكسب الانتخابات .. لماذا؟).. وأثناء الكتابة كنت أرفع عيني وأنظر للعنوان. كانت كلمة (يكسب) لا تصف بدقة ما حدث. في نهاية الكتابة شطبت كلمة (يكسب) ووضعت مكانها كلمة (يكتسح). بعد هذه المقدمة أعود لمحتوى العنوان. إذا بقيت خارج أسوار اتهامات المعارضة بتزوير الانتخابات سنجد عدداً كبيراً من الأسباب وراء اكتساح المؤتمر الوطني للانتخابات اخترت منها: الإعداد المبكر للانتخابات. حدثني أحد ناشطي المؤتمر الوطني بأنهم أجازوا قبل أكثر من عام في لجنة فرعية نحو (60) دراسة عن إعلام الانتخابات. الإعداد المالي لتكاليف الانتخابات. وهذا أيضا تم قبل وقت طويل من بداية الانتخابات. فالعضو يقرر التبرع بمبلغ كبير لكنه لا يستطيع دفعه فورا بل يقسطه على شهور طويلة. وفرة الكوادر العاملة في الحزب ما بين متفرغ تفرغاً كاملاً ومتفرغ جزئياً ومتطوع. وهذا غالباً ما يؤجل معظم المترشحين النظر فيه حتى اللحظات الأخيرة. اختيار العاملين في الانتخابات تم منذ وقت مبكر لاخضاع هؤلاء لتدريب مكثف لضبط العملية الانتخابية. الاستفادة القصوى من عناصر بشرية لديها مخزون كافٍ من الوقت والطاقة، مثل الشباب والنساء. الجدية في كل خطوات الانتخابات، إبتداء من التسجيل والطعون، والطعون المضادة بحيث يملك الحزب القدرة على تقوية صفه وإضعاف الصف الآخر، مع الحرص على إيصال الناس إلى مراكز التسجيل والاقتراع بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية. جدية أخرى، الحزب ابتدع سجلاً موازياً للسجل العام. فعندما يخرج الشخص من غرفة التسجيل يجد شاباً يجلس بعيداً على مكتب متحرك ويسجل منه نفس المعلومات التي سجلها في السجل القومي. بعد ذلك يمر هذا الكشف على عدة لجان حزبية لتصنيف كل المسجلين سياسياً: من هو ملتزم أو متعاطف مع المؤتمر. من هو ملتزم أو متعاطف مع أي حزب آخر. من لا انتماء أو تعاطف لهم مع أي حزب. غياب الرؤية السياسية الواضحة لأحزاب المعارضة، الغياب الذي أفرز قراءة خاطئة للخريطة السياسية بعد اتفاقية نيفاشا. ركزت هذه الأحزاب على تصعيد إجراءات المعارضة لتربك الحكومة وتنتظر منها خطأ قاتلاً يقرر نهايتها. الاتفاقية نصت بشكل واضح على إجراء انتخابات في النصف الثاني من الفترة الانتقالية (20052011)، ويعقبها إجراء استفتاء لتقرير مصير الجنوب في يناير 2011م، هذا لم تره أحزاب المعارضة في الاتفاقية، وبالتالي لم تستعد له. ظلت أصول المؤتمر الوطني، وهي كل متفرعات الحركة الإسلامية، واقفة على قدميها طيلة ربع القرن الماضي، بينما بقيت باقي الأحزاب في سبات عميق، وحتى عندما عادت الحريات إلى الساحة السياسية تدريجيا ابتداء من نهاية القرن الماضي لم تستعد الأحزاب وعيها بشكل يتناسب مع حجم الصراع الدائر في الساحة. كانت الأحزاب تركز على الانتقام من المؤتمر الوطني ومكوناته السابقة، ولذلك أضاعت سنوات الديمقراطية، وخاصة السنوات التي أعقبت توقيع اتفاقية نيفاشا، بشكل عشوائي، ولم تفكر في كيف تؤسس لدور ديمقراطي يؤدي بها لكسب الصراع الانتخابي. انشغلت أحزاب المعارضة بتكتيكات تقوم على اللعب بنفس قصير، وهذه التكتيكات كانت تقوم على اختلاق أخطاء حكومية، والغريب أن أخطاء الحكومة المفترضة كان يحاسب عليها جزء من الحكومة وهو المؤتمر الوطني ويعفى من المحاسبة جانباً آخر هو الحركة الشعبية. لم تستوعب أحزاب المعارضة مساحات الحرية والانفتاح السياسي الكبير الذي غمر السودان بعد اتفاقية نيفاشا. وبدل أن يجعلوه انفتاحاً سياسياً متعافياً جعلوه ميداناً للمماحكات والكيد السياسي للحكومة. بلغت غفلة المعارضة ذروتها عندما قبلت بأن تضع على رأسها شريكاً رئيسياً في الحكم هو الحركة الشعبية. وبرغم أن إشارات كثيرة كانت تصلها من قوى خارجية بأن ارتباط الحركة الشعبية بالمؤتمر الوطني أقوى بكثير من ارتباطها بالمعارضة، وبأنه في لحظات المفاصلة ستلتزم الحركة جانب الحكومة وستلقي بكل ارتباطاتها مع المعارضة عرض الحائط. وبرغم الصفعات الكثيرة التي تلقتها المعارضة من الحركة الشعبية إلا أنها كانت شديدة التشبث بها تماماً كالغريق الذي يبحث عن قشة يتعلق بها. افترضت المعارضة أن القاعدة الشعبية تعيش معها في غفلتها وظلت تعاملها على هذا الأساس. على سبيل المثال افترضت المعارضة أن الانتخابات ستزور، وبنت كل مواقفها على هذا الافتراض الوهمي، بينما بقيت الأغلبية الصامتة على صمتها، تراقب وتسجل، وتخصم ذلك من رصيد تعاطفها مع المعارضة. هذا ايضا كان واضحاً لكن المعارضة في خضم حملتها الإعلامية القوية لم تلحظ شيئاً حتى صعقتها الكارثة. ضعف القراءة الموضوعية للساحة السياسية. المجتمع السوداني يتعرض لتغيير كبير بسبب انتشار التعليم وبسبب الثورة في وسائل الإتصال وهو ما أدى لإنفجار معلوماتي بالغ الخطورة، وبسبب التغييرات التي تحدث حولهم في العالم. كل هذا أدى لإهتزاز في المسلمات وفي القناعات. المجتمع كان سابقاً لهذه الأحزاب بمسافات طويلة. للأسف المعارضة لم تدرك ذلك. وبعد .. هذه قراءة لأسباب هذا الانعطاف نحو المؤتمر الوطني، قد تصدق وقد لا تصدق، لكن من المؤكد أن قراءات كثيرة سوف تظهر في الأيام القادمة، ونحن في انتظارها.