تحدث الناس كثيرا عن قضية الهلال في القديم والحديث ، فكتب السلف تزخر بنقاشها ، خاصة في ثنايا البحث في مسائل الصيام ، وقد أفرد بعضهم رسائل مستقلة للنظر فيها . وفي العصر الحديث أصبحت القضية مشكلة تثير جدلا جديدا في كل سنة من السنين . فكلما أقبل شهر رمضان وعيد الفطر ، والحج وعيد الأضحى يفتأ الناس تلوك ألسنتهم أمرها ويخوضون فيها ، عن علم أحيانا وعن جهل أحيانا أخري، ومع اتساع قنوات الاتصال المعاصرة ، ويسر الطباعة والنشر ، اتسعت دائرة الجدل الثائر حول القضية ، واستعملت في ذلك كل وسيلة ممكنة ، من كتب وندوات ومؤتمرات ، وإذاعة وتلفاز، وشبكة إلكترونية . ومع كثرة الزخم والفتاوى العديدة ، لم يصل أحد إلى قول فصل ، بل زاد الطين بلة ، وكثرت البلبلة والحيرة . وانضاف إلى الجدل مرض العصبية المذموم المستشري في المسلمين منذ عهود انحطاطهم . فخرجت القضية في كثير من الأحيان من إطارها العلمي المحدود إلى آفاق لا صلة لها بها ، حين اندرجت في الخلافات بين الفرق والجماعات ذات الألوان المتباينة والأسماء المتعددة ، كل ينصر جماعته وفرقته بحق وبغير حق ، أو حين دخلت في دهاليز السياسة ، واضحي كل قطر يذهب بها يمنة ويسرى حسب مصالحه السياسية المتقلبة ، وحسب ما تملية أمزجة قادتها وساستها . والخطب أهون مما يتصوره كثير الناس ، ولعله من البدهي أن يؤكد على أنه يحسن بكل أحد يريد الخوض في هذه المسألة أن يسلك فيها المسلك العلمي ، لعله يقربه إلى تحري الصواب . وأهم ذلك أمور ثلاثة . الأول: ألا يهجم على تناولها إلا عن معرفة ، ولا يقول فيها إلا بعلم ، ولا يدلى فيها بدلو إلا بعد فهم وعقل . وهذا دأب المسلم ونهجه في كل قضية من القضايا ، عملا بقول الله عز وجل {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا (الإسراء: 36 ) } . ولقول الله تعالى {ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ، إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }. الثاني: أن يحيط ما استطاع بجوانب المسألة من كل نواحيها والأقوال كلها بأدلتها ، إذ أن المعرفة الجزئية الناقصة لا تهدي إلى الصواب . يقول ابن كثير رحمه الله مبينا هذا المنهج: "أحسن ما يكون في حكاية الخلاف أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام ، وأن تنبه على الصحيح منها وتبطل الباطل ، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته ، فتشتغل به عن الأهم فالأهم . فأما من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص ، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه ، أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضا . فإن صحح غير الصحيح عامدا فقد تعمد الكذب ، أو جاهلا فقد أخطأ ، وكذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته ، أو حكى أقوالا متعددة لفظا ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى ، فقد ضيع الزمان وتكثر بما ليس بصحيح ، فهو كلابس ثوبي زور ." الثالث: أن يجرد الذهن من كل رأي مسبق ولا يقبل إلا ما يهديه إليه الدليل . فمن أقدم على دراسة مسألة وهو لا يريد إلا أن ينصر رأيا يميل إليه لسبب من الأسباب ، من مثل هوى أو عصبية ، فإن ذلك يشوش على ذهنه ، ويلون نظره وبحثه ، ويجعله يلوي الأدلة لتوافق رأيه . ولا شك أن ذلك مخالف للمنهج العلمي الصحيح ، لقول الله تعالى {يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم} (الحجرات:1).