غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    شاهد بالفيديو.. محامي مصري يقدم نصيحة وطريقة سهلة للسودانيين في مصر للحصول على إقامة متعددة (خروج وعودة) بمبلغ بسيط ومسترد دون الحوجة لشهادة مدرسية وشراء عقار    السفير السعودي: المملكة لن تسمح باستخدام أراضيها لأي نشاط يهدد السودان    كباشي والحلو يتفقان على إيصال المساعدات لمستحقيها بشكل فوري وتوقيع وثيقة    شاهد بالفيديو.. في مشهد مؤثر البرهان يقف على مراسم "دفن" نجله ويتلقى التعازي من أمام قبره بتركيا    شاهد بالفيديو.. في مشهد مؤثر البرهان يقف على مراسم "دفن" نجله ويتلقى التعازي من أمام قبره بتركيا    شيرين عبد الوهاب : النهاردة أنا صوت الكويت    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    المسؤولون الإسرائيليون يدرسون تقاسم السلطة مع دول عربية في غزة بعد الحرب    الحرس الثوري الإيراني "يخترق" خط الاستواء    تمندل المليشيا بطلبة العلم    اتصال حميدتي (الافتراضى) بالوزير السعودي أثبت لي مجددا وفاته أو (عجزه التام الغامض)    السيد القائد العام … أبا محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    هيفاء وهبي تثير الجدل بسبب إطلالتها الجريئة في حفل البحرين    وصف ب"الخطير"..معارضة في السودان للقرار المثير    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    واصل تحضيراته في الطائف..منتخبنا يؤدي حصة تدريبية مسائية ويرتاح اليوم    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هدي السلف في الاتفاق (1-2)

من الخطأ افتراض أننا نعيش أوضاعاً ليس لها مثيل من قبل، ونخطئ ثانية حين نقترح البدائل من أنصاف الحلول والمواجهة، مقرين أنه يحب أن تختلف الطرق والأساليب، عما كان عليه الأمر في عهد السلف الصالح. وهذه النظرية ليس لها حظ من الصواب بل هي خطأ صراح، فلدينا سيرة نبوية عطرة أصل لحضارتنا وثقافتنا التي عايشت كل الظروف. بهذه الافتتاحية يتحدث الشيخ عن هدي السلف في الاتفاق فيقول:
الحمد لله أهل الحمد والهادي إليه والمثيبِ به، أحمده بأرضى الحمد وأزكاه لديه، على تظاهر آلائه وجميل بلائه، حمداً يكافئ نعمه، ويوافي مِنَنَه ويوجب مزيده، وأسأله أن يُلْهِجَنا بشكره، وينفعنا بحب القرآن المرشد في آيه الكريم للاتفاق (وإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)(1)، وقوله جل جلاله: (إنَّ اللَّه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفّاً كأنهم بنيانٌ مرصوص)(2)، وقوله جل جلاله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(3).
الناهي عن الفرقة والشقاق في قوله جل جلاله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(4)، وقوله جل جلاله: (وأَطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)(5)، وقوله جل جلاله: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ)(6)، وقوله جل جلاله: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ)(7).
كما نسأله اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به في كل هديه، وفى جميع توجيهاته، ونخص منها دعوته للاتفاق والبعد عن الخلاف، كما نسأله أن يجعلنا ممن صمت ليسلم، وقال ليغنم، وكتب ليعلم، وعلم ليعمل،ونعوذ به جل جلاله من حيرة الجهل وفتنة العلم وإفراط التعمق، فكم من طالبٍ حظه العناء، وضاربٍ في الأرض غنيمته الإياب لا غيره، وقد جاب البلاد وفنى التِلاد، وقطع الرحم وضيع العيال على جفا الغربة وطول العزبة وخشونة المطعم.
فإن التقريب بين المسلمين والاتفاق عمل تعبدي بقوله جل جلاله: (ولا تنازعوا فتفشلوا)(8)، وإن وقع خلاف فهو سجال الإخوة وانجذاب المؤمنين.
من الخطأ افتراض أننا نعيش أوضاعاً ليس لها مثيل من قبل، ونخطئ ثانية حين نقترح البدائل من أنصاف الحلول والمواجهة، مقرين أنه يحب أن تختلف الطرق والأساليب، عما كان عليه الأمر في عهد السلف الصالح. وهذه النظرية ليس لها حظ من الصواب بل هي خطأ صراح، فلدينا سيرة نبوية عطرة أصل لحضارتنا وثقافتنا التي عايشت كل الظروف، مواكبة الحلو والمر منها، متجلية في فترة الضعف والتمكين، والكثرة والقلة، ومع الموافق والمخالف، وعايشت اليهود والمنافقين بالمدينة المنورة، والوثنيين بمكة المكرمة وجزيرة العرب، والنصارى في نجران وبلاد الشام، وضعفاء النفوس من المسلمين، كما عايشت الاختلاف في وجهات النظر منذ العهد النبوي الشريف ثم عصور بني أمية وبني العباس والدولة التركية حتى أسقطها كمال أتاتورك بخيانة عام 1924م.
والعبرة في مدارسة هدى السلف في الاتفاق، بشواهد وقواعد الثقافة الإسلامية العامة التي انطلق منها سلف الأمة مطبقين عليها مجمعين حولها، وليست بالاجتهاد الفردي غير الملزم، وإنما الملزم للناس هو الكتاب والسنة الصحيحة والإجماع الثابت، وليس المدعى.
وليس ثمة حجر وابتداع أن يقع الاختلاف في النظر بين العلماء المجتهدين، مع رعاية أصول الاختلاف وأصول المناظرة والتنازع، فلا تأنيب ولا تدابر؛ وإنما خلاف يعقبه اتفاق، في أدب يكسو المعرفة جلاء ويزينها وضوحاً، يُبينُ عن طيب معدن المختلفين ويبرز مقاصدهم الحسنة، وحرصهم على الهداية، وبعدهم عن الهوى وحظوظ النفس، "قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب"(9).
ليس من الفطرة السليمة أن تسعى البشرية إلى الله جل جلاله جادة على هذا الكوكب في تمزق متكئة على الخلاف متوكئة على الفرقة والتفكك والشتات،ولا من العقل الرشيد أن يشتهر علماؤها وعوامها بالتناحر والتناطح، وقد فضلهم الله جل جلاله وكرمهم وميزهم بالعقل وجعلهم من مصدر واحد ((كلكم لآدم))،أبيضهم وأسودهم،عربيهم وعجميهم،بل إن أشد ما يتنافى مع الفطرة،ويتعارض مع العقل، أن يوحد الله عباده في المنشأ والمصدر،ثم يفتعلون الفرقة في المرجع والمصير. ولعل من حكمة الله جل جلاله أن شمل القرآن الكثير من الأسس والأصول والقواعد التي تحمي هذا الكيان من التصدع،وتمكنه من أداء مهمته على الوجه الأمثل.
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ((ما أحب أن أرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختلفون؛ لأنه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضيق))(10). أي الاختلاف الذي يتحرى الصواب ويرصده، ويتحسس الحق في غير مداهنة أو تلبيس، شعاره التسامح لا التعصب، ومرماه التكامل والتقدم ومركزه العلم والتقوى
ويضرب الإمام الشافعي رضي الله عنه مثالاً رائعاًً في أدب الاختلاف الإيجابي البناء، فلم يستنكف أن يؤلف كتابه "اختلاف مالك"، يخالفه فيه ويرجح غير رأى شيخه الكبير إمام دار الهجرة، يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: "إني استخرت الله ونشرت الكتاب لما وجدت الناس افتتنت بمالك، وفضّلت حديثه على السنّة"(11). وإذا كان الإسلام الحنيف يحث على وحدة الأديان السماوية (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين)، فمن باب أولى أن تتداعى الدعاة من حملة الثقافة الإسلامية، إلى التقارب بينها، سعياً للاتفاق في مسيرتها إلى الله جل جلاله، وهم يحاضُّون على القرآن والسنة ويدافع عن هدى السلف الصالح، والحالة أنهم من الوارثين في الأصول والمبادئ العامة وإن اختلفوا في الفروع اختلاف رحمة بعيداً عن التأثيم.
ولعل مثل هذا المؤتمر المبارك الذي تشهده الساحة الفكرية والثقافية اليوم، أن يثمر الكثير لصالح الإسلام والمسلمين، أقله التحليل الموضوعي لنزعة الاختلاف وحجمه وموضوعاته وأنواعه. ومن المسلمات أن دراسة نزاعات الخلاف وأسبابه وأدبه في ديننا، يساعدان على التقريب المقصود والاتفاق المنشود المحمود، وما أحوج الأمة إليه وهي في عصر الثورة العلمية، التي لا تحتمل التعدد المذهبي المبنى على الاختلاف والعداوة الفكرية الفجة.
نماذج من هدى السلف في الاتفاق
(1) هدى السلف واتفاقهم في فقه الخلافة والسياسية:
تعد مسألة نصب أول خليفة، أول مسألة فقهية خلافية واجهت سلف الأمة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولا تُعرف مسألةٌ فقهية سالت فيها الدماء وحزت رقاب المسلمين وعلقت، إلا في مسألة الإمامة الكبرى، وهي أمضى سلاح في تفرقة المسلمين، فهلا من وقفاتٍ لنستشف كيف تجاوز سلف الأمة رحمهم الله هذه المسألة العصيبة؟ وكيف حصل لهم الاتفاق المبارك على أبى بكر الصديق رضي الله عنه أول خليفة راشد في أول بادرة للنظام السياسي والتراتيب الإدارية لإقامة ونصب الخليفة؟
يقص علينا تاريخ التشريع الإسلامي مسطراً أروع مواقف الاتفاق، على قواعد وثوابت منها: لم ينعزل فقهاء السلف عن الأحداث العظام، مؤثرين البعد والسلامة أو متنسكين متزهدين أو يائسين قانطين، لا بل كان شعارهم ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم))، ديدنهم النشاط والمشاركة والتفاعل سواءً في عهد أبى بكر رضي الله عنه أو في عهد بقية الخلفاء الراشدين, فالفرد منهم وإن لم ينصب في منصب إداري أو قضائي أو عسكري إلا أن هديه رضي الله عنه كان التفاعل مع الأحداث، والسهر بجانبها وبذل كل الجهد ليؤدي دوره في الإصلاح والتغيير وفي ترشيد المسيرة وتسديد الأعمال والممارسات، مؤدياً ما عليه من مسئوليات تجاه الدولة وتجاه الأمة. غير مبالٍ بمنصبٍ رفيع أو دونه لا يمنعه من التفاعل والمشاركة والتعاون البناء وفى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((.. وطوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله إن كان في المقدمة كان في المقدمة وإن كان في السَاقة كان في السَاقة إن استأذن لم يؤذن له وإن يشفع لم يشفع..))(12).
ومن الأصول والقواعد الثابتة في هديهم في جمع الكلمة ولمِّ الشتات أن المصلحة الإسلامية العليا هي الهم الأكبر والأصل الذي يجب أن تنحني إليه كل فروع المسائل الفقهية وغيرها، ويحرم أن ينطلق أي موقفٍ إلا من خلف مصلحة الإسلام والمسلمين الكبرى، فلا يتقدمها رأي ولا يُصغى لاجتهاد أو رأي لا حظ له ملموس في وحدة الدولة والأمة، وإزالة عوامل التوتر والتشنج في علاقات المسلمين وخصوصاً علاقات أهل الحكمة من العلماء أصحاب الدور الأكبر في تجاوز الأزمات وسكون الفتنة.
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل تنصيب إمام على المسلمين وجد الصحابة أنهم أمام خلافٍ لا بد له من فقهٍ عميق، يواجه منهجاً ورأياً يهدد المصلحة الإسلامية العليا والوحدة الإسلامية، إنها الفتنه بين الخليفة والمعارضين , فقد خلق هذا الخلاف جواً من الاضطراب والتخلخل في تماسك ووحدة الكيان الإسلامي، وفي ظل هذه الأجواء المضطربة الحادة، يظهر فقه السلف في الاتفاق، وتتفتح الآفاق، وتنهض العزائم، ولم ينعزل فقيهٌ ولا عالمٌ عن الأحداث، ولم يفر أحد عن الميدان, وإنما قام كل بواجبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كأنه المعنيُّ الوحيد، حفاظاً علي تماسك الكيان الإسلامي، وعلي سلامة تطبيق منهجه الرباني في الاتفاق، من قبل الخليفة والولاة والأمة، فالكل يحاول تهدئة الأوضاع والعلاقات المتشنجة لكي لا تحدث الفتنة وتتوسع فيتمزق الكيان الإسلامي.
ولنقف مع عبارة علي رضي الله عنه مصرحاً بأفصح عبارة في هذا الموقف العصيب مخاطباً خليفة المسلمين أفضل رجل في الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما الفرقة فمعاذ الله أن أفتح لها باباً وأسهل إليها سبيلاً, ولكني أنهاك عما ينهاك الله ورسوله عنه, وأهديك إلي رشدك, ألا تنتهي سفهاء بنى أمية عن أعراض المسلمين وأموالهم, والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان إثمه مشتركاً بينه وبينك"(13).
(2) هدي السلف واتفاقهم على تعيين بعض الولاة أو بعض قادة الجيش:
لم يحدثنا التاريخ أن السلف كانوا يعترضون علي تعيين الولاة أو قادة الجيش أو المحصلين والجباة، وخصوصا الذين لا يرونهم أهلاً للمسئولية, ولم يتدخلوا في تبديلهم أو عزلهم, ولم يقترحوا تعيين البعض دون البعض الآخر، وحديث ابن اللتبية خير شاهد على ذلك، فقد صبر الصحابة على تعيينه جابياً للزكاة حتى إذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عبارته المشهورة "هذا لكم وهذا أهدي لي" مما أغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((هلا جلست في بيت أمك فيهدى لك))، فأين نحن من هذا الهدي في الاتفاق والبعد عن القيل والقَال، والهمز واللمز بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقديم النصح. وتبرئة الذمة؟ وفى حقيقة الأمر هو نوع من التشويش والفوضى الفقهية، ولقد استمسكنا بهذه المقولة لأنها كانت المخدرة للضمائر والمضللة والمشعرة بعدم التقصير.
(3) هدى السلف واتفاقهم في قتال مانعي الزكاة:
كالتي حدثت مع مالك بن نويرة؛ حيث غلط في فقه الزكاة مع إقراره بالشهادتين وبالصلاة والحج والصوم والجهاد، ودبَّ الخلاف بين الفاروق عمر رضي الله عنه والخليفة الراشد الصديق رضي الله عنه، ولم تمض لحظات حتى وفق الجميع وجمع كلمتهم واتفقوا نابذين الفرقة والشقاق بعيداً.
(4) هدى السلف واتفاقهم فيما ارتكب من أخطاء في حرب مانعي الزكاة:
ولم يغفل سلف الأمة إنكار بعض الأخطاء التي ارتكبت, في حروب مانعي الزكاة، حيث سبيت النساء المسلمات وتزوج خالد بن الوليد رضي الله عنه زوجة مالك بن نويرة بعد أن استبرأها بحيضة واحدة، لقد تجاوز السلف هذه المحنة الفقهية، ولم تنقل كتب السير والمغازى إلا اعتذار خالد بأنه فهم من قول جماعة مالك ابن نويرة أنهم كفروا فقد كانوا يصرخون "صبأنا.. صبأنا" يريدون أننا على دين محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان المشركون يسمون المسلم بالصابئ، وانتهى الخلاف وحل محله الاتفاق وسارت سفينة الإيمان بالمؤمنين لا تعرف تعثراً ولا توقفاً عن نشر الدين الحق.
(5) هدى السلف في الاتفاق في مسألة كتابة التاريخ:
كان رأي بعض الصحابة أن يكتب من تاريخ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رأي عمر رضي الله عنه أن يكتب من تاريخ المبعث, وكان رأي علي رضي الله عنه أن يكتب من يوم الهجرة إلى المدينة, واستقر الأمر على رأي الإمام علي رضي الله عنه, كما هو مشهور في التاريخ(14).
(6) هدي السلف في الاتفاق على فقه النظام المالي والاقتصادي:
وحينما وضع عمر رضي الله عنه الدواوين ودوَّنها في سجلاتها وفرق رضي الله عنه بين المسلمين بالعطاء على أساس السبق في الإيمان والهجرة؛ لم يعترض الصحابة عليه خاصة من قلَّ عطاؤه، أو من كان يرى التسوية بين من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربه وبين من قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أول الإسلام، وكان رأي علي رضي الله عنه التسوية في التوزيع. ولما آلت إليه السلطة وأصبح خليفة للمسلمين، ساوي في العطاء في وقت خلافته كما يذكر جميع المؤرخين, فقد يكون مراعياً للظروف الموضوعية في ذلك, أو عدم رغبته في مخالفة الخليفة أو الصحابة.
وأول بادرة للاستشارة حينما أراد الخليفة معرفة حقه في بيت المال, قال فريق من الصحابة: "ما أصلحك وأصلح عيالك بالمعروف, وليس لك من هذا المال غيره"، فقال الصحابة المخالفون: القول قولك واندمل الخلاف(15).
مجال الثروة:
وشاور عمر رضي الله عنه الصحابة في سواد الكوفة, فقالوا له: نقسمها بيننا, فشاور علياً رضي الله عنه فقال: "إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجئ بعدنا شيء, ولكن تقرها في أيديهم يعملونها, فتكون لنا ولمن بعدنا"(16).
المجال القضائي:
(7) هدي السلف في الاتفاق في فقه القضاء والحدود:
أراد عمر رضي الله عنه رجم امرأة ولدت لستة أشهر فمنعه علي رضي الله عنه فرجع عن قراره.
وارتاعت المرأة من عمر وسقط جنينها فأشارت عليه الصحابة أن يضمن الدية, فقال عمر ((صدقتني))(17).
(8) هدي السلف في الاتفاق في فقه المجال العسكري:
وحينما أراد عمر رضي الله عنه غزو نهاوند نصحه عدد من الصحابة بالبقاء في المدينة المنورة, وقال له علي رضي الله عنه: "أما بعد يا أمير المؤمنين, فأنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلي ذراريهم, وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلي ذراريهم, وإنك إن أشخصت من هذه الأرض انتفضت عليك الأرض من أطرافها وأقطارها.. أقرر هؤلاء في أمصارهم, واكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا فيها ثلاث فرق.. ولتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مدداً لهم)"(18)، وحصل الاتفاق بعد الخلاف، وينقلب الأمر والخلاف في واقعة أخرى فيشير فريق على عمر رضي الله عنه بالخروج بنفسه, وفريق من الصحابة يرى عدم خروجه، وذلك حينما تحصن المشركون ببيت المقدس وأجابوا إلى الصلح بشرط قدوم الخليفة عمر رضي الله عنه عليهم، فأشار عليه علي رضي الله عنه بالمسير إليهم "ليكون أخف وطأة على المسلمين في حصارهم بينهم"(19).
وقال له:"إن القوم قد سألوك المنزلة التي لهم فيها الذل والصغار، ونزولهم على حكمك عز لك وفتح للمسلمين.. حتى تقدم على أصحابك وجنودك, فإذا قدمت عليهم كان الأمر والعافية والصلح والفتح إن شاء الله"، فأخذ عمر بمشورته(20).
(9) هدى السلف في الاتفاق في مسائل الحلال والحرام:
لقد كان لنكاح المتعة، المنسوخ حكمه مثالاً لاتفاق السلف رضي الله عنهم، وأنموذجاً يحتذى به في تجاوز الخلاف بأقل قدر من المشورة والمعالجة المبنية على الدليل الشرعي من الأصلين الكتاب والسنة، فقد أفتى ابن عباس بجوازه، بيد أنه سرعان ما رجع عنه لما ناظرته الصحابة فيه وأبانوا له الدليل، وبعد أن سرت بفتواه العامة، ورجز بها فحول الشعراء:
يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس***هل لك في رخصة الأطراف آنسة
وما كان لينتهي أمر هذا المسألة التي تبيح الفروج والعروض وتصبح في قاموس التاريخ، لولا رغبة السلف في الاتفاق المبني على الدليل، والمستند إلى الفقه المستنير، بعيداً عن الممارسات المتشنجة والداعية إلى التباغض والعداء, والمشجعة علي التمرد والعصيان، ولاشك أن أكبر أسباب الاختلاف المبررات المبنية على رمال التأويل والتفسير بالرأي المذموم.
(10) هدى السلف في الاتفاق في مسائل العبادات:
صلاة عثمان رضي الله عنه في حجه بمنى أربع ركعات وقول ابن مسعود: ((صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع وأبى بكر وعمر فصلوا ركعتين))، ثم عمد فصلى بجماعته كصلاة عثمان فلما سئل قال: ((الخلاف أشد)).
الهوامش:
(1) سور المؤمنون: 52.
(2) سورة الصف: 4.
(3) سورة آل عمران: 103.
(4) سورة الأنعام: 153.
(5) سورة الأنفال: 46.
(6) سورة آل عمران: 105.
(7) سورة آل عمران: 7.
(8) سورة الأنفال: 46.
(9) ينسب هذا القول لحكيم الفقهاء وتاجهم الإمام الشافعي رضي الله عنه.
(10) ذكره صبحي الصّالح، المرجع المذكور ص 81، كذلك ورد في "الاعتصام" للشاطبي: 3/11.
(11) صبري الأشوح، التفكير عند أئمة الفكر الإسلامي، القاهرة، مكتبة وهبة، 1417ه/1997، ص 187.
(12) رواه البخاري.
(13) البداية والنهاية: 7/55، ابن كثير، دار الفكر، بيروت.
(14) الكامل في التاريخ: 2/526، وتاريخ المدينة المنورة: 2/758.
(15) تاريخ الطبري: 2/453، والمنتظم: 4/197.
(16) تاريخ اليعقوبي: 2/152.
(17) انساب الأشراف: 2/178.
(18) تاريخ الطبري: 2/524، والمنتظم: 4/273.
(19) البداية والنهاية: 7/55.
(20) الفتوح: 1/225.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.