من الخطأ افتراض أننا نعيش أوضاعاً ليس لها مثيل من قبل، ونخطئ ثانية حين نقترح البدائل من أنصاف الحلول والمواجهة، مقرين أنه يحب أن تختلف الطرق والأساليب، عما كان عليه الأمر في عهد السلف الصالح. وهذه النظرية ليس لها حظ من الصواب بل هي خطأ صراح، فلدينا سيرة نبوية عطرة أصل لحضارتنا وثقافتنا التي عايشت كل الظروف. بهذه الافتتاحية يتحدث الشيخ عن هدي السلف في الاتفاق فيقول: مبادئ وضوابط هدي السلف في الاتفاق من أهم مبادئ سلف الأمة في الاتفاق وإقامة الوحدة وتعزيز أواصر صفها، وامتصاص عوامل الخلاف والقضاء عليها: (1) مبدأ الحق: إن قيام العمل الإسلامي على ميزان الحق، وتوازن العلاقات بين الفرد والمجتمع يضمن سلامة الاتفاق والوحدة. أما إذا اختل الميزان؛ فإن كافة العلاقات تتدهور، ويشيع الاختلاف والحقد والفساد. ومن الطبيعي أن يلتزم المؤمن بميزان الحق في كافة تصرفاته ومعاملاته، وأن يتجاوز المنافق ذلك ويقيم علاقاته على أساس من الهوى والمصلحة غير آبه لسخط الله. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((قل الحق وإن كان مراً))، ومن الواضح أن لقول الحق دوراً بيناً في إطفاء نيران المشاكل والخلافات، والقضاء على جذور الصراع؛ فإن من يقول الحق ولو كان على نفسه لا يرتكب الظلم أي أحد، وبالتالي فإنه يحافظ على علاقاته متوازنة عادلة مع الآخرين. (2) مبدأ المشاركة والبعد عن الاستبداد بالرأي: الناظر فيما يكتب اليوم في الإنترنت؛ يلحظ جرأة محمودة في الطرح والتناول للقضايا؛ تؤذن بانقراض زمن الصمت, وميلاد عصر المشاركة, والمصارحة, وحوار الآراء. ومن أقوال السلف وتوجيهاتهم في ذلك "من استبد برأيه هلك"(21)، "من شاور الرجال شاركها في عقولها، ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ"(22). (3) مبدأ محاربة القطيعة والدعوة إلى المحبة والصلة والحوار والوحدة: وللمتحابّين في الله أجر عظيم، منها: أن الله تعالى يقول يوم القيامة: (أينَ المُتحابّون بِجَلالي، اليومَ أُظِلُّهُم في ظِلِّي، يومَ لا ظلَّ إلا ظِلّي)(23)، ومنها دخول الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: ((وَالَّذي نَفْسي بِيَدِهِ لا تَدْخُلوا الجَنَّةَ حتَّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتَّى تَحابّوا، أوَلا أَدُلُّكم على شَيْءٍ إذا فَعَلْتُموهُ تَحابَبْتُم؟ أَفْشوا السَّلامَ بَيْنَكُم))(24)، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله عزّ وجلّ: المتحابُّون في جلالي لهم منابرُ من نورٍ، يَغْبِطُهم النَّبِيُّونَ والشُّهَداءُ))(25)، وقال معاذ رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تعالى: وَجَبَتْ محبَّتي للمتحابّين فيَّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذِلين فيّ)). ومرّةَ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد معاذ وقال: ((يا معاذ والله إني لأحبّكَ في الله، ثم أوصيكَ يا مُعاذ لا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كلَ صَلاة تقول: اللّهمَّ أَعِنّي على ذَِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عبادَتِكَ))(26)، ومن وصايا السلف في ذلك: "لا تطلبن مجازاة أخيك وإن حثا التراب بفيك، ولا تصرم أخاك على ارتياب ولا تقطعه دون استعتاب، ولِنْ لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك". (4) مبدأ محاربة الجدل: ومن الأمور التي تمزق الوحدة وتزرع البغضاء: المراء والجدال والخصومة وسرعة اللوم، فهذه البلايا التي تمرض القلوب وتشحنها على الإخوان وينبت عليها النفاق. وإذا ما اضطر المؤمن إلى الافتراق والاختلاف مع أخيه وعدم التعاون معه وجب عليه أن يحافظ على لسانه، بل يفارق بحسن، ويخالف بحسن، ولا يتورط في الجدل والمهاترات الإعلامية التي توسع من خندق الشقاق، وتزيد في العداء والتفرقة.و السباب واللعن، والله جل جلاله يبغض اللعان السباب الطعان على المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بشراركم؟))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((المتفحش اللعان الذي إذا ذكر عنده المؤمنون لعنهم، وإذا ذكروه لعنوه)). (5) مبدأ التواضع: الاتفاق من الأمور المهمة التي تتأثر بالتواضع، وغني عن القول أن مبدأ التواضع يقلب حياة الإنسان إلى الأفضل ويجعلها أكثر ليونة وتالفاً واتحاداً مع الآخرين ((لينوا بأيدي أصحابكم))، فإذا كان الداعية متواضعاً اتسم بحب الآخرين والخجل من مدح الذات، والابتعاد عن الرياء والتفاخر والمباهاة وتضخيم الأعمال. يقول الإمام الصادق رضي الله عنه: "لا يصير العبد عبداً خالصاً لله عز وجل حتى يصير المدح والذم عنده سواء، لأن الممدوح عند الله عز وجل لا يصير مذموماً بذمهم وكذلك المذموم، فلا تفرح بمدح أحد فانه لا يزيد في منزلتك عند الله ولا يغنيك عن المحكوم والمقدور عليك ولا تحزن أيضاً بذم أحد فأنه لا ينقصك عنك به ذرة، ولا يحط عن درجة خيرك شيئاً، واكتف بشهادة الله تعالى لك وعليك، قال الله عز وجل: (وكفى بالله شهيداً)". ومن لا يقدر على صرف الذم عن نفسه ولا يستطيع على تحقيق المدح له كيف يرجى مدحه؟ ويخشى ذمه؟ واجعل وجه مدحك وذمك واحداً، وقف في مقام تغتنم به مدح الله عز وجل لك ورضاه. (4) مبدأ العفو والحلم: ويلعب الحلم دوراً كبيراً في امتصاص عوامل الفرقة والتوتر والصراع بين الدعاة. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالعفو، فإن العفو لا يزيد العبد إلا عزاً فتعافوا يعزكم الله)). ولا يزيد الحلمُ المسلمَ إلا عزاً، وعلماء الدين الذين يفترض فيهم أن يكونوا قدوة يتأسى بها الناس من حولهم، هل يتسامحون ويعذر كل منهم الآخر في حالة الاختلاف، أم يلجأ كل واحد منهم لسلاح التشهير والإسقاط؟ فلأننا نفتقد للقدوات التي تمتلك لهذه الروح في مجتمعاتنا أصبحنا غير متسامحين، ومن المسلمات أن النتيجة تتبع أخس المقدمات! وأنك لا تجني من الشوك العنب! فكيف نطلب من الطالب أن يكون متسامحاً وهو يرى بأم عينه، أباه متعصباً؟ كيف نريد منه أن يكون متسامحاً وهو يرى مدرسيه وقد أصبحوا أعداءً؟ فلكي نعيش هذه المفردة الجملية في حياتنا نحتاج إلى ممارستها عملياً طوال الأوقات، في البيت، في المدرسة، في المتجر، في المصنع، وليجعل كل شخصٍ منا من نفسه قدوة في التسامح، مع زوجته، مع أولاده، مع أصدقائه، وأخيراً، ينبغي أن نؤمن بالتسامح كقيمة داخل ذواتنا لا أن نحمله كشعار أجوف فوق صدورنا، وبهذه الكيفية ربما نتفيأ من ظلال هذه الشجرة الباسقة الوارفة الظلال. نعم، قد نكون قاب قوسين أو أدنى من أولئك الذين تحدث عنهم القرآن الكريم، بقوله جل جلاله: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)(27). (4) مبدأ الانطلاق من معين الإيمان والثقة بالله: فيزرع الداعية في قلوب المؤمنين الود والمحبة، ويقتلع من طريقهم أشواك الحسد والبغضاء من القلب. بعض الناس يقيمون علاقاتهم على أساس المادة والدنيا والمصلحة.. فإذا كان ثمة شيء من ذلك فإنهم يجاملون ويبتسمون ويظهرون الود والملق.. وإذا لم يكن شيء من ذلك.. فإن علاقاتهم يسودها العبوس والتجهم والاحتقار. (5) مبدأ اعتزل الهوى فيما يريد إصابة الحق فيه: وأن يعتزل الهوى فيما يريد إصابة الحق فيه، فإن الله جل جلاله يقول: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله)، ويقول جل جلاله: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً)(28). (6) مبدأ الاعتراض السلمي علي آراء الباحثين في المسألة: وتلعب الأخلاق الحسنة دوراً مهماً في تمشيط الأضغان من القلوب ونثر ورود المحبة على طريق الوحدة، حيث إن الأخلاق الحسنة تنبع من الحب.. فإذا كره المؤمن أخاه غطى الكره ملامح وجهه وعقد لسانه، وخطف البسمة من شفتيه. ولذلك يدعو الإسلام إلى كنس الحقد من القلب، والتصميم على الحب والمبادرة إليه، ولا يسمح للحقد أو الكراهية أن يعشعشا في قلبه. وعاشر بمعروفٍ وسامح من اعتدى**وفارق ولكن بالتي هي أحسن سامح صديقك إن زلت به قدمُ**فليس يسلمُ إنسان من الزللِ (7) مبدأ إعمال الحكمة: تجاوز الخلاف بالحكمة والنظرة إلى مصلحة الإسلام في تحليل للمواقف بفطنة وذكاء هو طريق السلف في تفسير الأحداث المفضية للاتفاق: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(29)، ولما دخل عمر على معاوية ابن أبى سفيان رضي الله عنه وكان والياً لعمر على الشام، قال له عمر رضي الله عنه أراك قد بدنت ولبست زي العجم! فقال له معاوية يا خليفة رسول الله علِّمني فإنني جاهلٌ. فسكت عنه عمر رضي الله عنه وخرج معاوية من الخلاف بالحكمة والفطنة. (8) مبدأ التحكم في الأمور من منطلقات اللامذهبية: العصبية المنتنة التي تغلب على مستعملها فتبعده عن الحق وتصده عنه، قد كان موقف السلف منها جلياً، وحربهم عليها كمجاهدتهم للمشركين؛ لذا كان لهم الحظ الأوفر في الاتفاق والبعد عن الخلاف (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِين)(30). (9) مبدأ الانقياد والطاعة للمصلحة الإسلامية العليا: تواترت الروايات أن السلف لم يمنعوا الخوارج من الاجتماعات داخل المسجد، ولم يحرموهم من العطاء، ما داموا غير متمردين عسكرياً, وكانت آخر وصايا علي رضي الله عنه: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي, فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه"(31)، وبذلك تمت المحافظة علي وحدة الصف الإسلامي وحرمة وقدسية الخلافة, وللحيلولة دون حدوث تصدع في الجبهة الداخلية ودون حدوث خلل واضطراب في العلاقات بين المسلمين. الخاتمة الحمد لله، به تتم الصالحات وتكتمل النعم، ونسأله أن ينفعنا بما كتبنا، وينفع به عامة المسلمين، ويجعلنا ممن قال تعالى فيهم: (إنَّ الْمُتَّقينَ في جَنّاتٍ وعُيونٍ اُدْخُلوها بِسَلامٍ آمِنينَ وَنَزَعْنا ما في صُدورِهِم مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلينَ لا يَمَسُّهُم فيها نَصَبٌ وما هُمْ عَنها بِمُخْرَجينَ)(32). نسأل المولى عزّ وجلّ أن يهديَنا وإخواننا إلى الحق المبين، وأن يصلح أحوالنا، وينصرنا على أنفسنا وأعدائنا، وأن يتولانا برحمته الواسعة، إنه سميع مجيب.. (رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإخْوانِنا الّذينَ سَبَقونا بالإيمانِ ولا تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلاَّ لِلَّذينَ آمَنوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحيمٌ)(33). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الهوامش (21) أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. (22) أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. (23) رواه مسلم. (24) رواه مسلم. (25) رياض الصالحين 178. (26) رياض الصالحين 179. (27) سورة آل عمران:134. (28) سورة النساء: 83. (29) سورة النحل: 125. (30) سورة القصص: 55. (31) البداية والنهاية: 7/288. (32) سورة الحجر: 45 48. (33) سورة الحشر: 10.