تلميحات كثيرة في الفضائيات تشير إلى أن دور الاحتجاجات الشبابية العربية القادم سيكون على السودان بحيث يتحول الاحتجاج إلى نوع من العصيان المدني أو السياسي، ليتحول هذا بدوره إلى ثورة تقتلع الحكم من جذوره، كما حدث في تونس ومصر، وكما يوشك أن يحدث في دول أخرى. جزء كبير من متابعي الفضائيات مستغربون ويتساءلون : لماذا تأخر دور السودان في هذه الاحتجاجات حتى الآن ؟. فهم مشبعون (على الآخر) بالصورة النمطية التي يرسمها الغرب لمن يشق عليه عصا الطاعة. هذه الصورة بالنسبة للسودان بالغة الغتامة. فبلد يحكمه دكتاتور، وهذا الدكتاتور مطلوب من محكمة الجنايات الدولية, وهو ارتكب جنايات يشيب لها الولدان. يكفي أن سجله الجنائي ممتلىء بجرائم مثل جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم التطهير العرقي، وتجارة الرقيق، والتهجير القسري .. الخ .. العيون مصوبة على السودان، متى يحدث هذا الاجتثاث. لكن في المقابل هناك ايجابيات قليلة في التركيز الإعلامي على سوءات السودان. من بينها أن عددا كبيرا من المسئولين الأمريكيين الذين جاءوا إلى السودان لتنفيذ مهام محددة .. جاءوا معبئين بروح عدائية، أو شبه عدائية، عادوا لبلدهم بروح أخرى غير الروح التي جاءوا بها للسودان. وهو ما أحدث تغييرا ايجابيا تجاه السودان في الإدارة الأمريكية. بالنسبة للاحتجاجات الشبابية العربية واحتمال أن تمر على السودان في تطوافها على البلاد العربية أستضعف بعض المحللين السودانيين مرورها على السودان، كما فعل محللون من بعض البلاد العربية مرورها على بلادهم لأسباب قدروها. بعض المحللين السودانيين استبعدوا احتمال أن تغشى موجات الاحتجاج بلدهم، لسببين رئيسيين : الأول، أن هذه الاحتجاجات مرت على السودان مرتين في عامي 1964 و1985، وأطاحت بنظامين عسكريين، لكن نتائجها النهائية كانت أقرب إلى السلبية منها للإيجابية. فقد سقط النظامان العسكريان وجاءت الديمقراطية والانتخابات فأعادت الأحزاب التقليدية للحكم وهي ذات الأحزاب التي انقلب عليها الجيش عامي 1958 و1969. الغريب أن نفس الشارع الذي انقلب على الفريق إبراهيم عبود عام 1964 عاد وصفق للنميري عام 1969، وأطاح بالنميري عام 1985 وصفق للبشير عام 1989. إذن تجربة انتفاضة الشارع يعرفها السودانيون جيدا ويعرفون نتائجها جيدا. الثاني، أن حرية التعبير والنقد للنظام تكاد تصل لحد الفوضى، لدرجة أن الحزب الشريك الثاني في الحكم يتزعم أحزاب المعارضة تحت مسمى (تجمع أحزاب جوبا) أو (أحزاب قوى الاجماع الوطني). وبعد .. هل سينقلب الشارع على الحكم في السودان. لا أحد يدري. لقد ثبت من التجربة أن للاحتجاجات قانونها الخاص. لا تشاور أحدا ولا تكشف أوراقها لأحد. وفي نفس الوقت لا تسمح أن يستغلها أحد. لكن لا أحد يستطيع أن يقول إنها تأتي بلا منطق. قوانين التغيير الاجتماعي تخضع لمنطق التغيير. لكن التغيير نفسه شيء غامض. الشاب الذي أشعل النار في نفسه في تونس فأشعل النار في تونس كلها. هل كان يظن ولو بنسبة 1% أنه بفعلته سيشعل النار في المنطقة العربية. والشبان الذين قادوا الثورة في ميدان التحرير في القاهرة هل كان لهم أي دراسة أو تخصص في علم الثورات. لا .. لكنهم حيروا العالم بقوة إرادة ولدت من الوهم .. نعم من الوهم.