الذي يحتاجه السودانيون والعرب في هذه المرحلة على وجه العموم أن يكسروا القمقم الذي يحنط حياتهم وهو ما عرف ب(الثوابت). هذه الثوابت يلتزم بها بعض العرب حتى يظنوا أنها من سنن الله في الكون. معمر القذافي عاش جزءا من حياته في الظروف الطبيعية حيث كان إنسانا عاديا حتى بلغ سن الثلاثين، ثم بدأ بعد أن هيمن على السلطة يبني ثوابته الجديدة. وكان معروفا بأنه مصاب بمرض ازدواج الشخصية : حياته مقسمة بين تركيبة شخصيته القديمة، وهي الفترة منذ مولده حتى سن الثلاثين، وهي فترة تمثل نصف عمره، وشخصيته الجديدة بعد أن تمكن من الحكم، وهي تمثل النصف الثاني من عمره. حدث صغير أعلنته شاشات التلفزة يشرح هذا التقسيم. في الدقائق الأخيرة من عمره حينما فوجيء بتغيير الأوضاع من حوله، حاول أن يبقى على شخصيته الثانية. سأل من حوله ولم يلحظ أن الشرر يتطاير من عيونهم: خير إن شاء الله .. حصل شيء .. أسئلة لا مبالية. لكن الشخصية الأولى ظهرت على حين بغتة حينما تأكد انه شخص لا حول له ولا قوة، وأدرك أنه اقترب من النهاية. بدأت أطرافه ترتجف، وأخذ يستعطف من كانوا حوله أن يبقوا على حياته. المعتصم القذافي، بعكس أبيه، عاش حياة واحدة، كان فيها الآمر الناهي فيمن حوله. كل الناس يخافونه وهو لا يخاف أحدا. بكلمة واحدة منه يمكن أن ينقل الإنسان من الدنيا إلى الآخرة. هو فوق القانون، وفوق الموت والحياة، وفوق كل الناس ربما باستثناء والده معمر القذافي. الناس من حوله مجموعة جرذان وحشرات لا قيمة لهم وليس في إمكانهم أن يفعلوا حياله شيئا لا يريده. ولذلك كان حتى قبل دقائق معدودة من النهاية جالسا في مكان ما وهو يدخن سيجارة، لكن حتى وهو جالس بين أعدائه لا حول له ولا قوة، لم يفارقه الإحساس بأنه جالس وسط مجموعة من الجرذان والحشرات. ربما كان يفكر فيما حدث في الكون من انقلاب، انقلاب جعله يرى أشياء لم يكن يعرفها، وربما لم يكن يتصورها أو حتى يفهمها. كان واثقا أنه الأمر الناهي، وأنه بيده مصائر الجميع، وفي وسط أحلامه تلك، أو كوابيسه، انطلقت رصاصة أنهت كل شيء، ونقلته من الدنيا إلى الآخرة. لكن عندما تستمر الثوابت في حياة الناس وتستمر تتحكم فيها لعشرات السنين، يبقى تغييرها صعبا، وربما عد من المستحيلات. الثوابت السورية استقرت لنفس المدة التي استقرتها الثوابت الليبية. في سوريا سيطرت نظرية المؤامرة. فهم يرون أن الغالبية الساحقة، كما يعكسها الإعلام الرسمي، تقف وراء النظام. ويرون أن ما تبثه بعض القنوات هو نوع من الفذلكة الإعلامية يقلب الحقائق رأسا على عقب. نفس الشيء كان يقوله القذافي حتى وهو متخف ومطارد، وحتى وهو قاب قوسين أو أدنى من النهاية. كان يقول في خطب عامة إن أنصاره سيزحفون على الجرذان بالملايين. وبعد .. ما يحدث في اليمن وسوريا ليس بعيدا عما حدث في ليبيا. الآن بدأ الربيع العربي يصنع ثوابته. لكن الأهم من ذلك أن الروح بدأت تدب في الأرض العربية. روح الثورة تتجول في كل المنطقة العربية. وبدا أن هذا كان كافيا ليستعدل الأمور. فقد اختفى الهمود الذي (كلس) عظام الجسد العربي .. دعونا نستبشر.