في الديمقراطيات العريقة في الغرب غالباً ما يحكم الحزب لدورة رئاسية أو برلمانية واحدة أو لدورتين ويغادر منصة الحكم ليخلفه الحزب الآخر في تبادل سلمي وسلس للسُلطة. في العالم الثالث الوضع ليس كذلك. فالحزب غالباً ما يكون بعيداً عن الحكم لفترات متطاولة، وإذا وصل إلى منصة الحكم يخطط ليبقى فيه كذلك لفترات متطاولة. زمان كانت كل الخطوط والطرق مفتوحة للبقاء داخل الحكم أو خارجه.. كل الخطوط والطرق بما فيها التزوير. الآن تصعب عمليات التزوير بعد أن أصبحت الرقابة الدولية والإقليمية والداخلية على الانتخابات بواسطة منظمات المجتمع المدني متاحة. وتصعب أكثر بعد أن اقتحمت الساحة العربية انتفاضات الربيع العربي. التي أظهرت أن عين الشعب متيقظة وأنها تسجل كل فعل يأتيه الحكم، لصالحه أو خصما عليه. بدايات التحول الديمقراطي لا تعني بالضرورة أن الحكم في البلد أصبح ديمقراطياً بما تعنيه الديمقراطية من معانٍ. فالتحول الديمقراطي سيمر بمنعرجات كثيرة فيها الصالح وفيها الطالح قبل أن يقترب من صفحة الديمقراطية البيضاء. ونحن في السودان نمر بهذه المرحلة. نمر بأخطائها ومشاكلها ونحاول معالجتها : أول هذه الأخطاء، أننا نريد من الآخرين أن يلتزموا بالديمقراطية، ونحن لا. ونظرة إلى التجارب الانقلابية في السودان في سنوات ما بعد الاستقلال تثبت أن معظم الأحزاب السياسية لا تمانع إذا واتتها الظروف أن تنقلب على الديمقراطية، ولكن ما إن يتولى الانقلاب آخرون حتى ترتفع الأصوات منادية بالديمقراطية. وثاني هذه الأخطاء، أن السياسة السودانية لم تمعن التفكير في عملية التحول الديمقراطي ولا متطلباته. فالأحزاب على سبيل المثال لم تفعل شيئا يؤهلها للحكم. فهي في شأن إدارتها الداخلية لا تكاد تعرف الديمقراطية، أو هي تتوكأ على ديمقراطية عرجاء. لكن في المقابل نجد أن السياسة السودانية اتخذت خطوات لا شك في نضجها باتجاه الديمقراطية، مثل أن الجميع في السودان أصبحوا يعترفون بالجميع. على سبيل المثال في عام 1967 اتخذت غالبية الأحزاب السياسية الفاعلة قرارا بحل الحزب الشيوعي السوداني، فانقلب الحزب الشيوعي وأصدقاؤه في الجيش على الحكم.. فجاءت مايو. وفي عام 1989 أوشك الحزبان الكبيران الأمة والاتحادي باتخاذ خطوة مماثلة بحل الجبهة الاسلامية القومية مع أن الجبهة كانت قد أثبتت جدارتها في السباق الانتخابي وأحرزت 53 مقعدا كثالث حزب في السودان. فسبق الإسلاميون بالانقلاب على الديمقراطية.. وجاءت الإنقاذ. الآن أصبح من مسلمات السياسة السودانية أن يعترف الجميع بالجميع، وألا يوضع حزب في القائمة السوداء، وأن يترك خيار العزل والإقصاء لصندوق الاقتراع. في الغرب نضجت التجارب الديمقراطية لدرجة أصبح كل مهتم بالسياسة والحكم عالما بكل تكاليف العمل السياسي، وبالذات تكاليف إنشاء الأحزاب. ولأنها تكاليف باهظة أصبحت الديمقراطية العريقة في كل دولة يديرها حزبان أو ثلاثة، يتبادلان الحكم بشكل سلمي، وفي سلاسة وشفافية. وبعد .. الديمقراطية أشبه بالكائن الحي. إذا تعاملت معها بشفافية ونضج نمت وازدهرت. وإذا أسأت معاملتها ذبلت وانطوت. وأظن أننا في السودان بدأنا نتعامل معها وفق هذا الفهم. لكن النتائج غالبا ما تأتي في مرحلة لاحقة.