دخل السّلفيّون معترك السّياسة، وأبلوا بلاء حسنًا، وأمسكوا حتى اللّحظة بكثير من خيوط العمل السّياسيّ، وحتى تكون الممارسة أقرب إلى الصّواب وأحرص على الجمع بين المحافظة على الهويّة و تحقيق المصلحة سأشير بإيجاز إلى بعض النّقاط التى يغلب على ظنّي أنّها ستدفع بهذا الاتّجاه: اولا- التّمييز بين الدّعوة والسّياسة (الفصل بين الحزب والجماعة): فجوهر السّياسة المحافظة على المصلحة العامّة والرّفق بالمخالف، والتّمحور حول المبدأ فى دائرة واسعة مع عدم المساومة عليه، ممّا يقتضي أحيانًا التّنازل والحلول الوسط والاعتراف بوجود الآخر، ومن هنا تختلف طبيعتها عن طبيعة العمل الدّعويّ الذى يقوم على الاستقامة والصّدق؛ فالداعية حامل علم وليس سياسيًّا مغامرًا، لا يقصد المغالبة أو انتزاع القيادة، يحرص على الجمع بين فتواه وتقواه، وتلتقي عنده أدقّ التّفاصيل فى مسائل الحلال والحرام و الولاء والبراء، ممّا يجعل النّاس يرتبطون به ويتفاعلون مع أخلاقه، والخلط بين الدّعوة والسّياسة له مخاطر منها: أنّه يشوّش على صورة الدّعاة، ويحمّل الدّعوة انتكاسات السّياسة، مع توجيه الطّعن مباشرة للدّين بدلاً من توجيهه للكيان السّياسيّ، واهتزاز مكانة النّص الشّرعيّ وقداسته طبقًا لتقلّبات المناخ السّياسيّ، والمطلوب الفصل بينهما، مع الاحتفاظ بجسر ضيّق يتّسع لموظّف يحمل الاستشارة والبشارة، والإنجازات، والمعوّقات من وإلى كلّ من الطّرفين ثانيًا: الانتقال من مرحلة الدّفاع إلى مرحلة البناء و شغل الآخرين بهموم الوطن: ولن يكون ذلك إلاّ بامتلاك ناصية الحوار فى موضوعيّة وأدب جَمّ، والإجابة المنطقيّة العقليّة على مشكلات المجتمع الأساسيّة، وهذا الأسلوب منهج قرآنيّ أصيل أسكت أهل قريش فى بداية العهد المكِّيّ و الدّعوة فى مهدها- حين كشف قصورهم فى علاج مشكلات المشترك الإنسانيّ، تجد مثالاً لذلك فى قوله تعالى: (كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) وقريب منها-فى ثوب معاصر- فضائيّات الفتنة ودكاكين حقوق الإنسان، فلم ينصفوا زوجة معتقل أو أرملة شهيد أو أم ثكلى اكتوت بنار المخلوع حسني ابن السّيد، وقد تسرّبت القضيّة من بين أيدينا بفعل فاعل، فهل أحسنّا استغلالها؟ ثالثًا: التّصوّر الشّامل والإدراك الصّحيح لقضيّة تطبيق الشّريعة ومعوّقاتها: فالشّريعة بمعناها العامّ تشمل كلّ ما جاء به الدّين من عقائد وأخلاق وعبادات ومعاملات، وهي بهذا المعنى ترادف كلمة الدّين، فيكون المقصود بتطبيقها حراسة الدّين وسياسة الدّنيا به، ومن هنا تأتي خطورة اختزالها فى الحدود فقط، وهى محاولة للتّشويش انجرّ إليها بحسن نيّة بعض الإسلاميّين واستبقوا الأحداث، وغاب عنهم أن السّياسة لا تستطيع جعل النّاس أكثر تديّنًا ولا تستطيع تغيير أفكارهم وعقائدهم، فالنّظم والقوانين تساعد على حماية المجتمع لكنّها لا تنشئه، مالم تكن أحكام الاسلام وآدابه جزءًا من ثقافة أفراده اليوميّة، وهذا لن يكون إلاّ إذا تغلغلت تعاليمه فى أعماق النّفوس، و انجذب إليها النّاس وأحبّوها. رابعًا: حصر دائرة العمل وتجنّب الدّخول فى مواجهات على عدّة محاور فى آنٍ واحد، والابتعاد عن المعارك المفتعلة التى تستنزف الطّاقات وتميط اللّثام عن مذخور الطّاقات والإمكانات، مع تغليب النَّفَس الدّعويّ على نفَس التّحذير والتّهييج والاستفزاز والإثارة التى تلهب العواطف، وقد تدفع إلى ردود أفعال غير محمودة العواقب، فإن مسّت الحاجة إلى تحديد موقف إسلاميّ من بعض الممارسات فليكن بالخطاب العلميّ الرّصين، وفى إطار من الحرص على إقناع الآخرين وهدايتهم بلا تشكيك أو طعن فى النّيّات؛ فليس من الصّواب أن يُفسّر كلّ موقف على أنّه عداء صريح للدّين أو حمَلَته، وعلى الإسلاميّين عامّة أن يسعوا سعيًا حثيثًا إلى تأليف كلّ من يمكن تأليفه من قبل خصومهم، مؤسّسة كان أو فردًا، تحييدًا لموقفه أو تقليلاً لعدائه؛ فالتّأليف والمداراة فى هذه المرحلة أولى من الهجر والمجافاة، وفى شريعتنا سهم للمؤلّفة قلوبهم، وإذا كان أبو سفيان رجلاً يحب الفخر فلماذا لا نعطيه ما يحبّ؟ خامسًا: التّدريب على أعلى مستوى لتحصيل التميّز والتّخصّص: الذّكاء والدّبلوماسيّة و تراثيّة المعرفة غير كافية لتحصيل الخبرة السّياسيّة؛ فالخبرة إنّما تُنال بالتّدريب المستمرّ الذي يساعد على رسم الأشياء في الذّهن أولاً، ثم تجسيدها في صور ملموسة، ويبني العقليّة المنهجيّة التي تمكِّن صاحبها من حسن التعامل مع ما يعرف وما لا يعرف، كما يمُكِّن ليس فقط من مسايرة المتغيّرات والمستجدّات بل قيادتها والتحكّم فيها، ويساعد على رسم الأهداف بعيدة المدى؛ فالأهداف غير الواضحة وغير المبرمجة تسلم قيادنا للآخرين كي يتحكّموا فينا، على أن يكون التّدريب فى مجال مهارات التّواصل وإدارة الأزَمَات والحوارات وطرق التّفكير والوعي السّياسيّ وكسب الجماهير، إضافة إلى التّدريب فى مجال التّخصّص داخل العمل السّياسيّ. سادسًا -علاج مرض الغلوّ في المتبوع والثّقة فى الأتباع: من أشدّ المحن التى نعانيها في حياتنا المعاصرة تمجيد الذّات وستر العيوب، وتمثّل المراجعة والنّقد الذّاتيّ والمفاتحة والمفاتشة الخطوة الأولى على طريق التّصحيح؛ فلابد من تنقية الصّف من شوائب الغلوّ وعقد الولاء والبراء على مفاهيم وقناعات اجتهاديّة؛ فليس شرطًا أن يكون الأكبر سنًّا هو الأكثر خبرة، أو أن يكون الأعلم شرعًا هو الأفقه للواقع السّياسيّ، كما يتطلّب الوقوف على الأخطاء و علاجها وحلّ الخلافات الداخليّة بعيدًا عن المنابر الإعلاميّة، مع العلم بأنّ كثيرًا من هذه الخلافات لا يعود إلى خفاء الدّليل أو سوء الفهم، بقدر ما يعود الى أسباب نفسيّة واجتماعيّة تراكمت على مدى سنوات طويلة. سابعًا: علاج أخطاء البدايات: بإعادة الهيكلة داخل مجموعات العمل على أساس الكفاءة وحسن السّير والسّلوك ووجود قدر مناسب من الاكتفاء الماديّ والاستغناء عن الآخرين، فأثر التّسرّع فى الانتقاء مازال ظاهرًا للعيان، غلب فيه جانب المظهر على الجوهر، والانتماء للجماعة على حساب الفكرة والهدف، وليس كلّ النّاس يصلح للعمل السّياسيّ، وقد سُئل الإمام مالك عن واحد من زهاد عصره فقال: أرجو دعاءه، ولا أطلب رأيه، مع ضرورة الاستعانة بهيئة استشاريّة دائمة من خبراء السّياسة والإعلام، وعرض التّّصريحات عليهم قبل الإدلاء بها؛ فالمخاطر المترتّبة على الارتجال كبيرة، والوقت محدود والتّصحيح صعب، وإذا كان الله يغفر لنا خطايانا فإنّ الإنترنت والفضائيّات لاتفعل ذلك.