تواترت الأنباء منذ أسابيع حول نية أمير دولة قطر التخلي عن الإمارة لنجله الشيخ تميم، وما كان موضع خلاف هو توقيت الإعلان. أما الآن، وقد تم الإعلان عمليًّا؛ فإن الأمر يستحق التوقف لقراءة دلالاته وتبعاته على الوضع في قطر، لاسيما السياسة الخارجية وعموم الوضع في الخليج والمنطقة. ما ينبغي أن يقال ابتداء هو أن عملية نقل السلطة كانت تتم بطريقة تدريجية منذ 3 سنوات تقريبًا، وكانت جملة من الملفات تنتقل تباعًا لولي العهد، حيث أخذ يباشر جزءًا معتبرًا من مهمات الدولة، وهو ما كان يؤكد أن عملية نقل السلطة كانت قرارًا متخذا بالفعل. الجانب الآخر هو أن الأمر لا يتعلق بالمسألة الصحية؛ إذ يبدو الأمير الأب بصحة جيدة لا تحول بينه وبين ممارسة السلطة، فهو الذي لم يتجاوز 61 عامًا، بقدر ما يتعلق بقناعات شخصية، سواء تعلقت بقناعته بضرورة ضخ دماء جديدة في السلطة، أم برغبته في الابتعاد عن عوالم السياسة المتعِبة، مع أنه من المستبعد أن يبتعد تمامًا بعدما عاش مرحلة سياسية بالغة الاضطراب منذ العام 1995م، وخاض معارك سياسية على كل صعيد جعلت من بلاده موضع جدل دائم في الأوساط السياسية العربية، رسميًّا وشعبيًّا. أيًّا ما يكن الأمر؛ فإن الموقف يبدو لافتًا إلى حد كبير، ففي مثل هذه الإمارات الوراثية لم يتعود الناس على مثل هذا السلوك السياسي؛ إذ يبلغ الحكام فيها من العمر عتِيًّا، بل يعجزون أحيانًا عن ممارسة أدوارهم الإنسانية الطبيعية، لكنهم يظلون في الحكم حتى الموت، أما أن يجري تجديد الدماء في السلطة، فهذا يُعد أمرًا جيدًا إلى حد كبير، وهو يبعث برسالة إلى الآخرين بأن بوسعهم أن يختطوا ذات المسار، مع أن ذلك لن يحدث على الأرجح، والنتيجة أن البلد الذي أتعب كثيرين وأثار جدلاً لم يتوقف بسياساته الخارجية يتعبهم الآن بممارسة سياسية غير معهودة أيضًا. وإذا ما بادرت قطر في ظل الأمير الجديد إلى إصلاحات سياسية أخرى (برلمان منتخب) -كان قد وعد بها الأمير الأب- فإنها ستقدم نموذجًا آخر يستجيب لربيع العرب، ولا يعتبره خطرًا، كما ذهب هو نفسه في كلمته الافتتاحية في القمة العربية الأخيرة في الدوحة؛ فالإصلاح في الخليج بات ضرورةً، ولا يمكن أن يجري الرد على الربيع العربي بنكوص إلى الوراء، أو بالتآمر عليه كما تفعل دول كثيرة كي لا يتجاوز البلاد التي وصلها. هنا يُذكر للأمير الأب أنه وقف مع ربيع العرب، وإلى جانب الشعوب، حتى في الدول التي كانت له مع قيادتها علاقات متينة جدًّا، كما هو الحال في ليبيا وسوريا على وجه التحديد، وقناة الجزيرة كانت التعبير الأبرز عن ذلك، إلى جانب دعم عملي للمقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، ثم لثورات الربيع العربي بشكل عام، ربما باستثناء البحرين التي كان حراكها سابقًا على ربيع العرب، ولها حساسياتها الخاصة التي لم تتسبب فقط في موقف قطري متحفظ، بل في تحفظ عربي عام، من دون أن يبادر أحد باستثناء قلة على إدانة الحراك، كما فعل أهل الحراك أنفسهم (غالبيتهم في أقل تقدير) حين وقفوا إلى جانب النظام السوري، مع الفارق الهائل في الوضع بين البلدين، لجهة المظالم الأصلية، وتبعًا لها، الرد البشع على الحراك الشعبي المطالب بالحرية والتعددية. أيًّا ما يكن الأمر، فإن ما جرى في قطر يعد تطورًا بالغ الأهمية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو ذلك المتعلق بالسياسة الخارجية للبلد في ظل الوضع الجديد؛ فهل ستأخذ منحًى آخر أقل مغامرةً مما كانت عليه، أم سيمضي الوضع في ذات الاتجاه؟! ليست لدينا إجابة حاسمة على هذا السؤال، لكن مؤشرات كثيرة مازالت تقول باستمرار ذات السياسة بهذا القدر أو ذاك، مع أن الموقف سيعتمد أيضًا على تطورات الوضع في العالم العربي والإقليم بشكل عام، والذي يعيش تحولات عاصفة لا يدعي أحد القدرة على الجزم بمآلاتها القريبة والمتوسطة والبعيدة. في أي حال، لا نملك غير الترحيب بخطوة كهذه، ونتمنى أن يخطوها آخرون في العالم العربي، وبخاصة في الخليج، في ذات الوقت الذي نتمنى فيه أن يتزامن ذلك مع إصلاح سياسي وبرلمانات منتخبة تعبر عن الناس، وتحقق الشراكة السياسية؛ انسجامًا مع التطور الحاصل في العالم أجمع، ومن ضمنه العالم العربي بعد ربيعه الذي يتعرض لمؤامرة كبرى تتولى كبرها جهات داخلية وخارجية أكثرها معروفة للجميع.