عضو مجلس إدارة نادي المريخ السابق محمد الحافظ :هذا الوقت المناسب للتعاقد مع المدرب الأجنبي    القوات المسلحة تنفي علاقة منسوبيها بفيديو التمثيل بجثمان أحد القتلى    لماذا دائماً نصعد الطائرة من الجهة اليسرى؟    ترامب يواجه عقوبة السجن المحتملة بسبب ارتكابه انتهاكات.. والقاضي يحذره    محمد الطيب كبور يكتب: لا للحرب كيف يعني ؟!    مصر تدين العملية العسكرية في رفح وتعتبرها تهديدا خطيرا    إيلون ماسك: لا نبغي تعليم الذكاء الاصطناعي الكذب    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    دبابيس ودالشريف    نحن قبيل شن قلنا ماقلنا الطير بياكلنا!!؟؟    شاهد بالفيديو.. الفنانة نانسي عجاج تشعل حفل غنائي حاشد بالإمارات حضره جمهور غفير من السودانيين    شاهد بالفيديو.. سوداني يفاجئ زوجته في يوم عيد ميلادها بهدية "رومانسية" داخل محل سوداني بالقاهرة وساخرون: (تاني ما نسمع زول يقول أب جيقة ما رومانسي)    شاهد بالصور.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبهر متابعيها بإطلالة ساحرة و"اللوايشة" يتغزلون: (ملكة جمال الكوكب)    شاهد بالصورة والفيديو.. تفاعلت مع أغنيات أميرة الطرب.. حسناء سودانية تخطف الأضواء خلال حفل الفنانة نانسي عجاج بالإمارات والجمهور يتغزل: (انتي نازحة من السودان ولا جاية من الجنة)    البرهان يشارك في القمة العربية العادية التي تستضيفها البحرين    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    الخارجية السودانية ترفض ما ورد في الوسائط الاجتماعية من إساءات بالغة للقيادة السعودية    الدعم السريع يقتل 4 مواطنين في حوادث متفرقة بالحصاحيصا    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    قرار من "فيفا" يُشعل نهائي الأهلي والترجي| مفاجأة تحدث لأول مرة.. تفاصيل    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    كاميرا على رأس حكم إنكليزي بالبريميرليغ    لحظة فارقة    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    كشفها مسؤول..حكومة السودان مستعدة لتوقيع الوثيقة    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام والديمقراطية: حوار بين الأستاذ الطيب زين العابدين والأستاذ جعفر شيخ إدريس (2)

قضية الإسلام والديمقراطية من قضايا الفكر السياسي المعاصر التى أثارت نقاشا متواصلا بين الإسلاميين في أماكن وأزمنة كثيرة. ومن الذين أدلوا بدلوهم في هذا المجال من الكتاب السودانيين الاستاذين الطيب زين العابدين والأستاذ جعفر شيخ أدريس. ولكن كل واحد منهما موقف مختلف ورأي خاص في هذه القضية التي اختلط على الكثيرين أمرها وخاضوا فيها بعلم أو بغير علم. ومن المساهمات الأخيرة في هذا المجال حوار مكتوب ونقاش هادئ بين الأستاذين الطيب وجعفر، كان نموذجا لأدب الحوار في المسائل العلمية. وننشر فيما يلى هذا الحوار توثيقا له ولتعم به الفائدة في حلقتين هذه الحلقة الثانية وتتضمن ما قاله الأستاذ جعفر
حوار مع الدكتور الطيب زين العابدين حول الإسلام والديمقراطية
(1)
الديمقراطية التي أبيتها
بقلم الأستاذ جعفر شيخ إدريس
أنا شاكر للدكتور الطيب زين العابدين بتفضله بمناقشة رأيي في الديمقراطية في عموده، وشاكر له على ما أبدى نحوي من مشاعر طيبة وما نسب إليّ من فضل، وواعد له بأن يكون كلامنا في هذا الأمر المهم إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل بقدر المستطاع بعون من الله تعالى وتوفيقه، وبما أن الدكتور لم يقصر كلامه على الرد على ما قلت بل تعرّض لأمور أخرى تهمه وتهمني كثيراً فسأنتهز هذه الفرصة لبيان رأيي فيها. فأنا إذاً شاكر لجريدة (الصحافة) أيضاً لتفضلها بنشر هذه الآراء..
أقول بعد هذا إنه بالرغم من أن الدكتور الطيب أقرّ مشكوراً بأنني قلت في المحاضرة بأنني إنما أتحدّث عن الديمقراطية بمعنى حكم الشعب لا عن ما صار مرتبطاً بها في الواقع وفي أذهان كثير من الناس من وسائل كالانتخابات وغيرها، وبدلاً من أن يحصر مناقشته لي في هذا المعنى الذي حددته، بدأ يتطرق إلى مسائل أخرى لا علاقة لها بكلامي الذي هو موضوع مقاله. ظن الدكتور مثلاً أن عدم تطرقي في تلك المحاضرة إلى المسائل التي يعتقد أنها هي المهمة معناه عدم الاهتمام بها أو التقليل من شأنها، بل افترض أنني منكر لها كلها، وأنني لذلك ربما كنت من دعاة الدكتاتورية، لأنه قد وقر في ذهنه كما وقر في أذهان الكثيرين أن البديل للديمقراطية بمعنى حكم الشعب هو حكم الفرد الدكتاتور المستبد الحاكم برأيه. ومعاذ الله أن يكون هذا رأيي أو رأي أي إنسان يؤمن بأن الحكم لله، لأنه إذا كان لا يؤمن بحكم الشعب كله بديلاً عن حكم الله فكيف بربكم يرضى بحكم فرد أو أفراد منه؟
الديمقراطية في نظر الدكتور الطيب هي نظام الحكم المطبّق في معظم الدول الغربية والمتمثّل في الانتخابات التعددية النزيهة والتداول السلمي للسلطة وحكم القانون والشفافية وحرية التعبير والتنظيم وحقوق الإنسان، وإنشاء الحقوق والواجبات على أساس المواطنة. أريد أن أطمئن الأخ الطيب وقراءه بأنني لست من حيث المبدأ معترضاً على شيء من هذا (ماعدا مسألة المواطنة) لأنني لا أرى فيها شيئاً يتعارض مع الإسلام، بل أعتقد أن بعضها كاختيار الحاكم وحكم القانون هو من صميم الحكم الإسلامي. ما الذي أعترض عليه في الديمقراطية إذاً؟ هذا موضوع خطير أرجو من القراء أن يأخذوه بجد وأن يهتموا به اهتماماً أكثر من اهتمام الدكتور الطيب.
الديمقراطية نظرية وتطبيق، أما النظرية فتقول إن الحكم للشعب. هذا هو المعنى اللغوي للكلمة لأنها كما تحدثنا المراجع مؤلفة من كلمتين يونانيتين هما ديموس وكراتسي.
وهذا هو المعنى الذي تجده في كل القواميس ودوائر المعارف والكتب المدرسية. وهذا هو العنى الذي يعد معياراً تقوم به الأمور التي جعلها الدكتور الطيب ويجعلها الكثيرون هي الديمقراطية. وهو المعنى الذي يقوم به مدى قرب الواقع أو بعده عن الديمقراطية. وهذا هو المعنى المتفق عليه بين كل دعاة الديمقراطية بمن فيهم الدكتور الطيب )من غير أن يشعر فيما يبدو(.
أما التطبيق، أي كيف تحوّل تلك النظرية إلى واقع يكون فيه الحكم فعلاً للشعب فأمر مختلف فيه. الديمقراطية الأثينية -وأثينا هي أم الديمقراطية- كانت ديمقراطية وصفت بالمباشرة واعتبرت هي المثالية، لأن المواطنين كانوا يجتمعون جميعاً على رأس جبل كل عدة أشهر ليقرروا ما يشاؤون. لكن حتى تلك الديمقراطية لم تكن حكماً للشعب بالمعنى الحقيقي لأن من سموا بالمواطنين كانت تستثنى منهم فئات كثيرة من المجتمع منها النساء، فكانت نسبة الذين يجتعون لا تبلغ ربع السكان. أما الديمقراطيات غير المباشرة السائدة في الغرب الآن فهي أبعد ما تكون عن حكم الشعب لأن الذين يقررون في أمره إنما هم الرؤساء أو النواب المنتخبون. ومن البديهي أن حكم الرؤساء والنواب ليس هو حكم الشعب.
فأنا معترض على النظرية الديمقراطية التي تقول إن الحكم للشعب لأساب ثلاثة:
أولها: أنها نظرية لا يمكن تطبيقها سواء بالطريقة اليونانية القديمة أو الطريقة الغربية الحديثة.
أنا آسف إذا كان الدكتور قد فهم من نقدي للديمقراطية وتحذير المسلمين وغير المسلمين منها إنما هو نقد لتطبيق من تطبيقاتها. إن نقدي يا دكتور منصب على النظرية نفسها بغض النظر عن أي محاولة من محاولات تطبيقها. إنني أريد أن أقول للناس-المسلمين منهم وغير المسلمين- ما قاله ويقوله مفكرون غربيون كثيرون إنكم تخدعون حين تظنون أنكم أنتم الذين تحكمون. إن أنظمتكم السياسية تقول لكم إن الحكم لكم لكن الحقيقة أن الذي يحكمكم هم جماعة منكم يحكمون باسمكم. وفي هذا يقول الدكتور روبرت دال أعظم منظري الديمقراطية في الولايات المتحدة بل ربما في العالم، والذي قال أحدهم عنه إذا تحدّث دال عن الديمقراطية فعلى الجميع أن يصغوا. يقول دال هذا إن الديمقراطية المطبّقة في الولايات المتحدة ليست هي حكم الشعب كله، ولا هي حكم أغلبيته، ولا حكم قلة منه وإنما هي حكم عدد كثير، ولذلك أقترح أن يسمى نظام الحكم الأمريكي بالبولياركية polyarchy- كلمة يونانية معناها العدد الكثير. يستغر الدكتور من مثل هذا النقد للديمقراطية ويتساءل كيف يمكن أن يؤمن إنسان يشيء يستحيل تطبقه. أقول وهل الضلال يا دكتور إلا الإيمان بما لا حقيقة له؟ ألم يقل الله تعالى عن المشركين من العرب
«إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».. (العنكبوت:42).
ألم يقل عن المشركين من أهل الكتاب:
«مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ».. (المؤمنون:91).
الضلال أن تؤمن بشيء لا حقيقة له، ثم تتصرّف في الواقع على افتراض أنه حقيقة.
ثانياً: لأن الديمقراطية مبدأ شكلي إجرائي لا محتوى له. أعني أن الديمقراطية لا تشترط في القرار أكثر من أن يكون قد جاء بإجراءات ديمقراطية صحيحة، ولذلك فإن القرار يمكن أن يكون في غاية الديمقراطية لكنه في غاية الظلم. لست أدري لماذا ينسى أناس من أمثال الدكتور الطيب أن غزو العالم غير الغربي بما في ذلك العالم الإسلامي ونهب خيراته وإذلال أهله كان بقرارات ديمقراطية أصدرتها برلمانات منتخبة انتخابات حرة ونزيهة. وها نحن نرى في أيامنا هذه كيف أن غزو أفغانستان ثم العراق كان بقرارات ديمقراطية لا شك في ديمقراطيتها. وقرارات كثير من البرلمانات الغربية بإباحة كل أنواع الفحش بما في ذلك الزواج المثلي كانت قرارات ديمقراطية. والله إن المرء ليكاد يجزم بأن الظلم الذي ارتكب في حق الناس من المسلمين وغير المسلمين باسم الديمقراطيات الغربية ظلم لم يسبق أن ارتكبته في حقهم كل أنواع الأنظمة الدكتاتورية الظالمة.
ثالثاً: وهو الأمر الأهم الذي ركّزت عليه في محاضرتي هو أن الإيمان بأن الحكم للشعب -سواء كان ممكناً أم غير ممكن- هو أمر يتناقض مع الإيمان بالله تعالى، لأن أول لوازم الإيمان بالله هو الإيمان بأن الحكم لا يكون إلا له، وأعني بالحكم هنا الحكم التشريعي، لا الحكم التنفيذي. فالله تعالى هو الذي يحكم تشريعاً والناس هم الذين يحكمون بما أنزل تنفيذاً.
يسألني الطيب متحدياً «ما قول الشيخ جعفر إن وجد أن معظم المسلمين في شمال السودان يرغبون في تطبيق النظام الديمقراطي خاصة بعد أن اكتووا بتجربة الإنقاذ الشمولية الإسلامية؟». أقول للدكتور أولاً، إن وصفك للإنقاذ بالشمولية ليس وصفاً علمياً لأنك تعلم وأنت الرجل المختص بعلم السياسة أنها ترجمة لكلمة توتالتيرينزم totalitarianism وهي مركبة من كلمتين total أي الشامل أو الشمول وكلمة authoritarian أي الاستبداد. فالحكومة الشمولية كما تحدثنا المراجع السياسية هي التي ترى أن من حقها أن تقضي هي وحدها في كل القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية الثقافية. والتي لا يكون لها معارض، كما كان الشأن في حكومات الاتحاد السوفيتي. إن حكومة الإنقاذ مهما كانت عيوبها ليست شمولية ولو كانت كذلك لما سمحت لك ولا لي بنقدها. لكن كلمة الشمولية أصبحت تطلق عند العامة في السودان مجرّد تعبير عن السخط على الحكومة. كنت ذات مرة بصالة الوصول بمطار الخرطوم وكان أحدهم يدخّن فأشرت له إلى اللافتة التي تمنع التدخين، فقاطعني آخر قائلاً للرجل «يا زول دي حكومة شمولية أعمل الدايرو».
ثم أعود لموضوعنا فأقول للدكتور إذا قال لي المسلمون إنهم يريدون الديمقراطية فسأقول لهم ما قلت قبل قليل، إن الديمقراطية بمعنى أن تكونوا أنتم أصحاب السلطة التشريعية العليا فأمر مخالف للأصل الذي يقوم عليه دينكم. وأما إذا كنتم تريدون الاحتكام إلى شرع الله وتجعلون كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هما قانونكم الأعلى الذي يحكم كل ما تصدرون من قوانين بما في ذلك الدستور، وقررتم أن يتضمّن هذا الحكم مبادئ ووسائل مثل الانتخابات وحكم القانون والشفافية وغيرها، فسأقول لهم: أصبتم جزاكم الله خيراً ولكن لماذا تسمون حكم الله هذا بالديمقراطية وأنتم تعلمون أن الديمقراطية إنما تعني حكم الشعب؟ إن هذا خطأ من ناحيتين أولاهما أنه تسمية للأشياء بغير اسمها، وثانيتهما أنه حتى لو كان الاسم موافقاً فهو اسم يوناني لأمة وثنية وأنتم مأمورون بأن تخالفوا أمثالهم وتثبتوا هويتكم الإسلامية. ألا تقرأون في كتاب الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ».. (البقرة:104).
كان أهل المدينة يستعملون كلمة راعنا في خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم قاصدين بها ارعنا سمعك، لكن اليهود كانوا يستعملونها في خطابهم له قاصدين بها الرعونة فنهى الله المؤمنين أن يستعملوا كلمة من كلماتهم ذات معنى صحيح لأن اليهود كانوا يقصدون بها معنىً ذميماً. فكيف يستعمل المؤمنون كلمة لأناس وثنيين يعنون بها معنىً ذميماً، بل شركاً قبيحاً، ليدلوا بها على حكم الله؟
(2)
وسائل ومبادئ بين الديمقراطية والإسلام
أذكّر القراء بأنني قلت في مقالي السابق بأنه لا اعتراض لي من حيث المبدأ لا التفاصيل على المسائل التي جعلها الأخ الدكتور خطأً هي الديمقراطية ما عدا مسألة جعل المواطنة هي الأساس. وهذا أوان الدخول في شيء من التفاصيل.
أما الانتخابات فإنها في شكلها الحالي وسيلة استحدثها الديمقراطيون ليختاروا بها حكامهم الذين يفترض أن يحكموهم باسمهم. والوسائل تابعة للغايات. فإذا كانت الغاية في الديمقراطية هي اختيار من يحكمون باسم الشعب فإن الغاية في النظام الإسلامي هي اختيار من يحسن الحكم بما أنزل الله تعالى. مبدأ اختيار هذا الحاكم حق من حقوق الأمة، فقد أورد البخاري في صحيحه خطبة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحذّر فيها المسلمين من الذين يريدون أن يغصبوهم حقهم بمبايعتهم لأحد من غير مشرورة المسلمين ويقول فيها إن الذي يفعل هذا لا يبايع هو ولا الذي بايعه. أما كيفية الاختيار فمتروكة فيما يبدو لاجتهاد المسلمين بحسب ظروفهم. والذي أراه أن أقرب ما يحقق الهدف الإسلامي من الانتخابات في عصرنا هو مايلي:
أولاً: أن لا يكون اختيار الحاكم المسلم كاختيار الرئيس الأميركي لأنه اختيار يؤثر فيه المال وتؤثر فيه وسائل الإعلام.
ثانياً: بما أن الحكم المراد هو حكم الله لا حكم الشعب، فيجب أن تكون الغاية من الانتخابات هي اختيار أصلح الناس للحكم بما أنزل الله، وهذا يقتضي اشتراط بعض الشروط في المنتخِب (بكسر الخاء) والمنتخَب (بفتحها).
ثالثاً: أقرب ما يحقق هذا الهدف في نظري هو النظام الذي تبدأ الانتخابات فيه على مستوى محلي وصغير جداً، مستوى يعرف فيه الناس بعضهم فلا يتأثرون كثيراً بدعاية حزبية أو غير حزبية، ولا يحتاجون فيه لمال. المنتخبون على هذا المستوى المحلي ينتخبون مجالس أعلى منهم وتلك المجالس تنتخب مجالس، وهكذا يتطوّر الأمر بطريقة هرمية حتى يصل إلى المجلس التشريعي الأعلى الذي ينتخب حاكم البلاد ويكون من حقه إقالته بشروط توضع في الدستور.
حكم القانون.. لماذا أعترض على حكم القانون وهو إنما يعني العدل بين الناس وبالعدل قامت السموات والأرض وعلى العدل يقوم بنيان الدين كله. وهل وجدت من تعبير عن ما يسمى بحكم القانون أروع من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها».
لماذا أستجدي من الديمقراطية الغربية هذا المبدأ العظيم الذي هو من صميم ديني؟
والشفافية لماذا أتقمشها هي الأخرى من فضلات الديمقراطية، وأنا أقرأ في تاريخ ديني كيف كانت في عهد خلفاء النبي الراشدين؟ ألا يقرأ كل منا الآن كيف كانت مناقشات الصحابة في أمر الردة كتاباً مفتوحاً؟ وإذا كانت الديمقراطية بحسب تعريف الدكتور زين إنما هي الشيء الممارس في الدول الغربية الديمقراطية، فأين بالله تجدها في نظام يكذّب رؤساؤه بوش وبلير كذبات بلقاء على رؤوس الأشهاد في العالم عن أسلحة الدمار الشامل؟
وحقوق الإنسان إذا لم تجدها في كتاب الله فأين بربك تجدها؟ إن الإنسان لا يوجد في الواقع مجرّداً وإنما هو دائماً إنسان بصفة معينة والقرآن والسنة فصّلا حقوق الناس آباءً وأمهاتٍ، أولاداً وأقارب، مؤمنين وأهل كتاب، مصالحين وأعداء. وبينا أن هذه الحقوق كلها إنما هي عطاء من الرب لعباده. أما الفكر الغربي العلماني فلا يزال يبحث حائراً عن الأساس الذي ترتكز عليه تلك الحقوق بعد أن فصل بين الدين والسياسة. ولا يزالون حائرين في كيفية التوفيق بين مبدأ ديمقراطي يقول إن الحكم للشعب، ومبدأ لبرالي يقول بل هنالك حقوق للأفراد لا يجوز حتى للأغلبية أن تتغوّل عليها
أما مبدأ فصل السلطات الذي كان أول من دعا إليه المفكّر الفرنسي مونتسكيو فإنه ليس دعوة إلى فصل كامل بينها لأن ذلك أمر متعذّر وغير مفيد إن أمكن، ولذلك يضيفون إليه مبدأ آخر هو أيضاً مقترحات مونتسكيو. والمبدآن مطبقان إلى حدٍّ ما في الولايات المتحدة. فالرئيس هو الذي يرشّح قضاة المحكمة العليا للمجلس التشريعي. والقضاة ملزمون بالقوانين التي تصدرها هذه المجالس، والرئيس الذي يفترض فيه أن يكون أداة تنفيذية من حقه أن ينقض ما يصدره المجلس التشريعي بشروط معينة. الغريب أن من المفكرين الغربيين من يرى أن مبدأ فصل السلطات هو الذي يساعد على دكتاتورية السلطة التنفيذية.
أما في الإسلام فإن التشريع الأساس إنما هو في كتاب الله وسنة رسوله، وهما فوق كل السلطات. وقد نبهني قبل سنين الأخ الدكتور توفيق الشاوي القانوي المصري الضليع أنه تبين له أنه إذا كان القاضي في النظام الديمقراطي مستقلاً عن السلطة التنفيذية، فإن التشريع نفسه (القانون) مستقل في الإسلام حتى عن السلطة التشريعية. والحاكم في الإسلام له بعض السلطات التشريعية المحكومة بشرع الله، لكنه هو نفسه يحاكم أمام القضاء بحكم الله. أما ما يسمى بحرية التعبير فأمر لا يمكن أن يخلو منه نظام مهما بلغ من درجات الاستبداد، ولا يمكن أن يطلقه نظام مهما بلغ من درجات الحرية، فالعبرة إذاً إنما هي بما يمنع أهو بحسب هوى السطة الحاكمة أم بحسب مصلحة الناس. الممنوع قطعاً في الإسلام هو ما حرمه الله تعالى من كل أنواع التعبير، وما عدا ذلك فالحكم فيه بأن الأصل في الأشياء الإباحة، مسألة أخرى اهتم بها الإسلام هي أنه يهدي الناس إلى التعبير المفيد، وينهاهم عن كل أنواع التعبير السيء باللسان كان أم بغير اللسان. فالله تعالى يأمرنا بأن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ويذكّرنا بأنه لا يحب الجهر بالسوء من القول، وهكذا.
أما تداول السلطة فليس في النظرية الديمقراطية أو تطبيقاتها الغربية ما يوجبه كما رأيت بعض الناس عندنا في السودان يظنون، بل من حق الشعب أن ينتخب حزباً معيّناً في كل مرة حتى لو بلغت عشرات السنين، وأما الأفراد فإن بعض الدول كالولايات المتحدة رأت أن لا تعطيهم أكثر من فرصتين لرئاسة الدولة. وأما التداول السلمي للسلطة فهو الأمر الطبيعي الذي نراه كثيراً حتى في الحكومات غير الديمقراطية.
أقول إذا كان خير ما في الديمقراطية بهذه المعاني التي يحصرها فيها الدكتور الطيب موجوداً في ديننا فلماذا نذهب لنتقمشه من فضلات الفكر الغربي؟ لماذا لا ندعو إليها باعتبارها شيئا من ديننا، وإذا كان لا بد من تسميتها باسم يناسب العصر فلماذا لا نجتهد ونتواصى باختيار اسم لها؟
ما أظن أن الدكتور الطيب سيقول إن الذي دعاه إلى ذلك هو فشل زملائه الإسلاميين الذين تقلدوا الحكم في تحقيق هذه المثل. إن من يكون على يقين من الحق لا يتركه لأن منتسباً إليه تنكّر له أو قصّر في العمل به. إن الحق يظل حقاً آمن به المؤمنون أو جحده الكافرون، عمل به العاملون أو تنكّر له المتنكرون.
(3)
الديمقراطية ليست ضماناً ضد فساد الحكم
يبدو من كلام الأخ الطيب وكلام كثيرين غيره في بلادنا والعالم العربي، أنهم يعتقدون أن في النظام الديمقراطي القائم على انتخابات حرة ونزيهة ضمانا ضد فساد الحكم. فإن كان الأمر كذلك فإنهم إنما يبنون الرجاء على شفير هار. إنه ليس في النظام الديمقراطي مهما كانت محاسنه ما يصلح حاكما ولا شعبا، بل إن الديمقراطية تفترض وجود مواطنين صالحين لا تصلح هي إلا بهم، كما كان يصرح بذلك كبار العقلاء من الأميركيين الذين وضعوا لهم دستورهم في القرن الثامن عشر. فهذا الرئيس ثوماس جيمفرسن يقول:
الأخلاق ذات علاقة وثيقة بحكومة الأمة، لأنه كما قال جيمز ما ديسون «إنه لمن الوهم أن تفترض أن أي شكل من أشكال الحكم سيضمن الحرية والسعادة من غير أن يكون في الأمة خير.»
جيمز ما ديسون هذا كانت له مشاركة كبيرة في وضع الدستور، لدرجة أنه سمي بأبي الدستور.
زاد جيفرسون على كلام جيمز قوله «إن الحكومة المشروعة هي التي يتجلى خير الأمة هذا في سياساتها مع مواطنيها ومع الأمم الأخرى». من أين يأتي هذا الخير للأمة؟ من فضل الله تعالى على الناس أنه فطرهم على الخير، ثم أرسل رسله برسالات تثبت هذا الخير وتنميه. فما من أمة إلا وتجد فيها قدرا من هذا الخير الفطري. ولكن كلما بعدت الأمة عن رسالات السماء بعدت عن هذا الخير. وهذا هو الذي يحدث في البلاد الغربية وغيرها من بلاد العالم التي تتأسى بها. أذكر أنه عندما هاجر الكاتب الروسي سولجنتسين إلى الولايات المتحدة هربا من جحيم الاتحاد السوفيتي، أصيب بخيبة أمل شديدة، وقال معلقاً على النظام السياسي الأميركي كلاما فحواه أن الديمقراطية تعطي الناس الخيار أن يفعلوا ما يريدون، فعندما كان الناس متدينين كان الدين يقول لهم اختاروا الخير. فلما ذهب الدين صار الناس يختارون الشر. وقد ازداد هذا الشر زيادة كبيرة منذ أن قال سولجنتسين كلمته تلك، فصارت الولايات المتحدة أكثر ظلما، وصارت تجارة الفحش فيها أكبر تجارة، لدرجة أن بوكانن الذي كان مرشحاً ضد بوش الأب في دورته الثانية، أصدر قبل عدة أشهر كتابا بعنوان «موت الغرب».
لكن ينبغي أن نقول إن هذا ليس أمرا خاصا بالديمقراطية، بل إن العوامل الخارجية كلها ديمقراطية كانت أم إسلامية أم غيرها، ليست هي التي تصلح الناس، بل غاية ما تفعله إذا كانت مناسبة، هو أن تعينهم على الصلاح. فالقوانين إسلامية كانت أم غير إسلامية لن تصلح مجتمعا إذا فسد القائمون عليها من حكام وقضاة وشرطة وغيرهم. حتى المساجد لا تصلح كل من دخلها بطريقة آلية. بل إن الصلوات لا تصلح أحدا إذا حصرت في أشكالها الظاهرة، ولذلك قال تعالى:
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ «البقرة: 177»
وإذا أراد الأخ الطيب برهانا على أن الديمقراطية لا تصلح الحكام الفاسدين، فليفترض أن انتخاباتنا القادمة كانت حرة ونزيهة، وأن الفريق البشير كان هو الفائز، وأنه أتى بطاقمه هذا نفسه الذي يحكم معه الآن. ترى هل سيتحولون فجأة إلى حكام صالحين لأنهم جاءوا بطريق ديمقراطي سليم؟ إن المفكرين الأميركان من أمثال فريدرش هايك Hayek وهنتجتن وفوكوياما، يؤكدون لنا أن الحكومة يمكن أن تأتي بانتخابات حرة ونزيهة، وتكون مع ذلك في غاية الفساد. وها هو أحد الصحافيين الكنديين المرموقين يكتب ساخرا
«إن على كندا أن تلغي الديمقراطية» ويعلل ذلك بقوله «إن هذه الحكومة «كتب المقال عام 2005م» هي أفسد حكومة في تاريخ البلاد، إن القدر الهائل من السرقات والغش والتزوير وغسيل الأموال هو أعظم من أن يعزى إلى قلة من السياسيين المنحرفين وجماعة قليلة من الموظفين الخائنين. إن الحزب الليبرالي فاسد، وبالتالي حكومته فاسدة. إن الفساد ليس في عدد من التصرفات المنعزلة؛ إنه شيء في أصل الجهاز.
ما الحل إذن؟ قلنا إن العوامل الخارجية وحدها لا تصلح الناس فكيف إذن يصلحون؟ أقول إن الناس لا يصلحهم إلا الدين الحق. لكن الدين كالطبيب، فكما أن الطبيب لا يداوي إلا راغبا في الدواء متعاطيا له، فكذلك الدين لا يصلح إلا راغبا في الإصلاح عاملا بما يأمره به الله تعالى.
إذا كان صلاح الأمة هو شرط في صلاح الحكم كما قال بحق أولئك المفكرون، فإن أول واجب على الحكومة ينبغي أن يكون تثبيت هذا الصلاح وتنميته باتخاذ السياسات المناسبة لذلك. إنه لمن الخطأ الفادح أن نؤمن بالخرافة التي تضافر على نشرها بين الناس الشيوعيون وسائر العلمانيين من ديمقراطيين وغيره، أعني الخرافة التي تجعل من الشعب أيا كان شيئا هولاميا مقدسا لا يمكن أن يخطئ إذا أخطأ أفراده وحكامه، ولا أن يذنب إذا هم أذنبوا، ولا يكون لذلك مسؤولا عن انحرافاتهم. إن الحكام لا يأتون من فراغ، وإنما يأتون من أمة معينة يكونون ممثلين لها في سلوكهم، وبالتالي في سياساتهم» لكن هذا لا يعني أن أمتهم تلك ترضى عنهم وتؤيدهم قد تلعنهم ويلعنونها. إنه لا يمكن أن يحكم أمة فاضلة عصابة من المجرمين كما يتصور كثير من الناس الآن بسبب تلك الدعاية.
ولأن صلاح الناس هو المهم فقد جعله الله تعالى أول واجبات الحكام الصالحين فقال:
«الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ» «الحج: 41»
الصلاة بمعناها الواسع تشمل كما يقول العلماء كل نوع من أنواع الصلة بين العبد وربه، وإقامتها تشمل نشر العلم بها وتشجيع الناس على أدائها والاهتمام بمساجدها وغير ذلك. والزكاة تشمل كل أنواع الإحسان بين الناس. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل كل السياسات التي تحصن الأمة من الشر والفساد.
إنه لا فصل قاطع بين الدين والسياسة في هذا التصور الإسلامي للحكم، لأن كلا منهما إذا صلح كان مؤيدا للآخر ومعينا عليه.
أقول بعد كل هذا إنني لست ضد الاستفادة مما في الديمقراطية وما في غيرها من تجارب زماننا من أشياء مناسبة لفكرنا وظروفنا، معينة لنا على تطبيق ديننا في عصرنا.
(4)
تصور الدكتور الطيب للحكم الإسلامي تصوّر بائس
يدافع الأخ الدكتور الطيب عن الديمقراطية بحرارة شديدة، فإذا ما جاء للحديث عن الحكم الإسلامي احتوشته الشكوك والشبهات من كل جانب فتردد في كلامه واضطرب اضطراباً شديداً، والسبب في هذا فيما يبدو لي هو تأثره الشديد بفكرة تقديس الشعب التي قلت إنه تضافرت على نشرها بين الناس الدعايات الشيوعية والديمقراطية. فمما جاء في أقوال الدكتور مما يعبّر عن هذا الشك والتردد:
أولاً قوله: ونحن نسلم مع الأخ جعفر بأن المسلم ملزم بالحكم الإلهي القطعي في ثبوته وفي دلالته.، السؤال هو كم من هذه الأحكام يدخل في باب السياسة ونظام الحكم؟ أقول إنها قليلة جداً وكثير منها مبادئ عامة، وأن معظم مسائل الحكم في الحياة المعاصرة اجتهادية محضة تقاس بما تحققه من مصالح المجتمع على أن لا يتناقض ذلك مع الأحكام القطعية.
وأقول: هذا كلام قائم على افتراض خطأ هو أن العلم محصور في المسائل القطعية. لكن الصحيح أنه لا العلم الديني ولا الدنيوي محصور فيها، وإنما هو شامل لما كان ثابتاً بالاحتمال الراجح.
إن الطبيب العالم بصناعته يدرك أنه ليس على يقين من أن كل دواء يعطيه مريضاً سيكون سبباً لشفائه، لكنه يعلم أن احتمال شفائه بهذا الدواء أكبر من تركه بلا دواء. وكذلك المسلم يعلم أن أخذه بحديث ثبت عن رسول الله برواية صحيحة باحتمال يفوق الخمسين بالمئة، بل قد يصل إلى ما فوق التسعين هو خير له من الأخذ برأي يخالفه هو على يقين من أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقله. لكن العجيب في أمر أخينا الطيب أنه في الوقت الذي يضيق فيه ما يؤخذ لزاماً من أمر الدين وبحصره في دائرة القطعي، يوسع الدائرة التي يلزم الناس فيها بقرارات الأغلبية سواء في الاستفتاءات الشعبية أو في القرارات البرلمانية. لماذا لا يطبق هذه القاعدة على القرارات الديمقراطية أيضاً فيقول إن المواطنين ليسوا ملزمين إلا بما ثبت قطعاً أنه حكم الشعب؟ لأنه إن فعل فلن يبقى من الديمقراطية شيء.
إن هذه القاعدة الشاذة التي وضعها الأخ الطيب، والتي ولم يلتزم بها هو نفسه تعني أننا لسنا ملزمين بكل أحكام القرآن الكريم بل ببعضها الذي هو قطعي الدلالة، وأننا لسنا ملزمين بما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن بل بالسنة المتواترة فقط، ثم بما هو قطعي الدلالة منها. كم يا ترى يبقى من الدين بعد ذلك سواء في السياسة أو العقيدة أو العبادات؟
لست أدري ماذا عنا الدكتور الطيب بقول إن معظم مسائل الحكم في الحياة المعاصرة تقاس بما تحققه للناس من مصالح. وهل كانت السياسة في كل العهود إلا كذلك؟ إن الناس لم يختلفوا في هذه القاعدة لكنهم اختلفوا في المعايير التي يعرف بها ما هو نافع للمجتمع أو ضار به. ثم كيف يكون الاجتهاد مقدماً على ما هو صحيح وغير قطعي؟ إن الاجتهاد في الإسلام هو اجتهاد في ما لم يقض فيه الشرع بحكم، وهو ليس اجتهاداً في فراغ وإنما هو اجتهاد يزن الأمور بميزان النصوص الثابتة. فكيف يكون مثل هذا الاجتهاد مقدماً على ما ثبتت نسبته إلى الله ورسول باحتمال أعلى من احتمال صحة الاجتهاد؟
والاجتهاد الذي يريد الطيب أن يقدّمه على النصوص الصحيحة غير المتواترة هو اجتهاد عوام لا اجتهاد علماء، لأنه يريد أن يعطيه لممثلي الأمة في مجلسها التشريعي. أقول للدكتور حتى لو كان بعضهم من غير المسلمين على قاعدتك التي تساوي بين المواطنين بغض النظر عن دينهم؟ وحتى لو كان المسلمون منهم لا يحسن بعضهم حتى تلاوة القرآن الكريم؟ أتدرون ما الذي أدى بالدكتور إلى هذه النتيجة التي لا يقبلها عقل؟ إنه إيمانه من غير شعور منه بأن الحكم للشعب.
ثانياً: يسأل الدكتور الطيب كم من الأحكام الإلهية يدخل في باب السياسة ونظام الحكم؟ ثم يجيب بأنه قليل جداً. أقول والله يا دكتور إنه لكثير ولكن حتى لو كان قليلاً فإنه لأكثر مما في الديمقراطية التي لا تقول أكثر من أن الحكم للشعب ثم تترك للناس أن يطبقوا هذا الحكم بالطريقة التي يرونها.
ثالثاً: يقول الدكتور: إن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا اختلافاً كبيراً في مسائل الحكم مما أدى إلى حمل السلاح ضد بعضهم البعض مما يدل على مساحة الاجتهاد في كيفية الحكم وتنصيب الحاكم.
أقول للأخ الطيب هل تأويلك هذا للحرب التي دارت بين الصحابة هو من نوع الدلالات القطعية التي قلت إنها هي وحدها الملزمة؟ كلا والله، بل إنه لتأويل في غاية الخطأ. إن الحرب لم تكن بسبب اختلاف في كيفية الحكم ولا تنصيب الحاكم. إن لدينا دليلاً قاطعاً على أن عليّاً كان هو الخليفة الشرعي، وأن الذين خرجوا عليه كانوا بغاة. الدليل هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عماراً بأنه ستقتله الفئة الباغية، ويبدو أن هذا الحديث كان شائعاً بين الناس ولذلك ارتاع بعض المحاربين لعلي لما اكتشفوا أن فئتهم هي التي قتلت عماراً رضي الله عنه.
رابعاً: يقول الدكتور: ومن ناحية أخرى ما هو البديل لحكم الشعب؟ سيقول جعفر هو حكم الله، ولكن من الناحية العملية سيأخذ هذا الحق فرد أو أفراد ويدعون أن هذا حكم الله
آه.. يا دكتور! هذا هو مربط الفرس. لقد ظللت تؤنبني على قولي بأن جوهر الديمقراطية هو حكم الشعب وتؤكد بأن الديمقراطية التي تعنيها أنت ويعنيها الناس إنما هي الانتخابات وسائر الأمور التي ظللت تكررها، فإذا بك الآن تجعلها حكم الشعب، بل وتجعلها في مقابل حكم الله، وترى فيما يبدو أنه لا بديل أحسن من هذا الحكم لأن حكم الله لا يمكن أن يتحقق في الواقع. ما هذا يا أخانا الطيب؟ أحقاً أن حكم الشعب الذي قلت لك إنه يستحيل تطبيقه هو المضمون وأن حكم الله سيأخذه دائماً فرد أو أفراد يحكمون الأمة بأهاوئهم ثم يقولون هذا حكم الله فتصدقهم الأمة وتأتمر بأمرهم؟ إنك كثيراً ما تتحدّث وكأنك الرجل العملي الواقعي، فهل عرفت في تاريخ المسلمين كله شيئاً كهذا؟ هل عرفت فرداً أو أفراداً ملكوا ناصية الحكم ثم حكموا بغير ما أنزل الله وصدقهم الناس؟ إن هذا لأمر يستحيل وقوعه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم. إنها أمة لا تجتمع على ضلالة؛ إنها أمة لا تزال فيها طائفة تعرف دينها وتلتزم به وتدافع عنه بالنفس والنفيس. إن أحكام الله ليست بالأمر السر الذي يدعيه المدعون؛ إنها مبثوثة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. لن يستطيع أحد أن يخدع الناس جميعاً بدعواه أن الله أحل لهم شرب الخمر وأكل الربا والزنا، وأنه حرم عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر العلم بينهم.
وما قلته عن الإسلام احتمال أن يكون قد حدث في المذاهب الأخرى حقيقة، فهذا هتلر يأتي للحكم بطريق ديمقراطي ويزعم أنه ممثل للشعب في سياساته كلها، وهذا بوش المنتخب انتخابا حراً ونزيهاً فيما يبدو )وإن كان بعض الأميركان يشككون في ذلك( أتراه الآن ممثلاً لشعبه في حكمه؟
إذا ادعا أحد أنه يحكمنا باسم الله ورأيناه محرفاً لشرعه فإن هذا ينبغي أن لا يؤدي بنا إلى الشك في إمكانية أن نحكم بما أنزل الله تعالى، بل ينبغي أن يحولنا إلى مجاهدين مدافعين عن شرعه نقول كلمة الحق عند سلطان ظالم مهما كانت النتائج.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.