القوة المشتركة تكشف عن مشاركة مرتزقة من عدة دول في هجوم الفاشر    كامل إدريس يلتقي الناظر ترك ويدعو القيادات الأهلية بشرق السودان للمساهمة في الاستشفاء الوطني    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. حسناء أثيوبية تشعل حفل غنائي بأحد النوادي الليلية بفواصل من الرقص و"الزغاريد" السودانية    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    اللجنة العليا لطوارئ الخريف بكسلا تؤكد أهمية الاستعداد لمواجهة الطوارئ    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام والديمقراطية: حوار بين الأستاذ الطيب زين العابدين والأستاذ جعفر شيخ إدريس (1)

قضية الإسلام والديمقراطية من قضايا الفكر السياسي المعاصر التى أثارت نقاشا متواصلا بين الإسلاميين في أماكن وأزمنة كثيرة. ومن الذين أدلوا بدلوهم في هذا المجال من الكتاب السودانيين الاستاذين الطيب زين العابدين وجعفر شيخ أدريس. ولكن كل واحد منهما موقف مختلف ورأي خاص في هذه القضية التي اختلط على الكثيرين أمرها وخاضوا فيها بعلم أو بغير علم. ومن المساهمات الأخيرة في هذا المجال حوار مكتوب ونقاش هادئ بين الأستاذين الطيب وجعفر، كان نموذجا لأدب الحوار في المسائل العلمية. وننشر فيما يلى هذا الحوار توثيقا له ولتعم به الفائدة في حلقتين هذه اولاهما:
حوار حول الديمقراطية مع الشيخ جعفر
بقلم الأستاذ الطيب زين العابدين
(1)
ألقى المفكر الإسلامى الشيخ جعفر شيخ إدريس قبل بضعة أسابيع محاضرة فى الخرطوم عن "مزالق الإيمان بالديمقراطية"، ولم أحظَ بحضورها لأنى لم أسمع بها، ولكن تكرم أحد الأصدقاء الأفاضل بارسالها لى عبر بريدى الإليكترونى بعد أن وجدها فى أحد المواقع الإسلامية بالانترنت. وبما أن الدكتور جعفر يعد من أبرز شيوخ الحركة الإسلامية السودانية منذ الخمسينات وصرف معظم سنوات عمره المديد بإذن الله فى العمل الدعوى والنشاط الاسلامى، وهو صاحب تأثير على قطاع كبير من الشباب خاصة أولئك الذين جمعوا بين حركية الاخوان المسلمين وبين الفكر السلفى، وله كتابات راتبة فى مجلة "البيان" التى تصدر عن المنتدى الاسلامى الذى يتخذ من لندن مقرا له، فإن ما يقوله عن قضية هامة وساخنة فى العالم العربى وفى أوساط الإسلاميين مثل الديمقراطية جدير بالمناقشة والأخذ والرد معه فيها، لأن ما يقول به خطير وليس فى مصلحة الجماعات الإسلامية وليس فى مصلحة المسلمين فى هذا العصر. وأحسب أنه يؤمن مثلى بأن الحق أحق أن يتبع وأن الاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية، ولذا أتجرأ للاختلاف معه علانية على صفحات الجرائد رغم الود الذى بيننا وشياخته لنا فى عهد الطلب بجامعة الخرطوم حيث تعلمنا منه الكثير، فالقضية المطروحة تهم المسلمين كافة ولا تحتمل التردد والانتكاسة.
ومن الغريب أنى أتفق معه فى النتيجة التى توصل اليها بخصوص حل المعضلة الدستورية فى السودان التى كانت مقصده من المحاضرة، ولكن لا صلة لها مباشرة بمآخذه على الديمقراطية والتى أختلف معه كثيرا حولها. يدعو الشيخ فى نهاية أطروحته مسلمى السودان أن يجتمعوا فى جبهة واحدة بصفتهم مواطنين سودانيين مسلمين (استغربت تقديمه صفة المواطنة على صفتى البلد والاسلام، لعلها زلة قلم!) من حقهم تكوين حكومة اسلامية لهم تعبر فى دستورها وقوانينها وسياساتها عن هويتهم الدينية، ويكون للولايات غير المسلمة دستور خاص بها لا يتقيد بالاسلام، ودستور اتحادى ثالث ينظم العلاقة بين الولايات المسلمة وغير المسلمة. ويبدو أن القصد من المعادلة هو تفادى المسلمين أن يحتكموا للديمقراطية لأنها فى نظر الشيخ جعفر تتعارض مع بعض تعاليم دينهم. ولكن ما قول الشيخ جعفر اذا وجد أن معظم المسلمين فى شمال السودان يرغبون فى تطبيق النظام الديمقراطى خاصة بعد أن اكتووا بتجربة الانقاذ الشمولية الاسلامية؟ لقد ساهمت الانقاذ من غير قصد أو وعى باقناع الكثيرين أن النظام الديمقراطى المعمول به فى معظم الدول الغربية هو أفضل من التجارب السياسية الفطيرة التى قامت بها الحركات الاسلامية تحت مسمى "المشروع الحضارى"، واضطرت الى التراجع عنها لتسلم مرة ثانية بالنظام الديمقراطى التعددى المعروف. ومن حيث النظر لا اعتراض على مقترح الدكتور جعفر ولكنه لن يكون بديلا للديمقراطية فى شمال السودان، وأحسب أن مثل هذا المقترح هو ما قصده الدكتور جون قرنق حين طرح فى مطلع مفاوضات نيفاشا فكرة النظام الكونفدرالى الذى يؤسس لكيانين مستقلين لكل كيان دستوره وجيشه وقوانينه وخدمته المدنية على أن تكون للكيانين قيادة تشريعية وتنفيذية عليا ذات سلطات محدودة فى القضايا المشتركة. ولكن وفد حكومة الانقاذ المتخوف من مصطلح الكونفدرالية عرض عليه أكثر مما طلب، عرض عليه أن ينفرد بكيان مستقل فى الجنوب لا سلطان لأحد عليه وأن يشارك بثلث السلطة تقريبا فى الشمال على المستوى التشريعى والتنفيذى، ولم يكن غبيا ليرفض ذلك العرض السخى الذى لم يكن يحلم به! وهذا ما سميناه قبل ابرام اتفاقية السلام الشامل بالقسمة الضيزى!
ما هى مآخذ الشيخ جعفر على الديمقراطية حتى يحذر من مزالق الايمان بها؟
يعرف جعفر الديمقراطية بأنها حكم الشعب فهو صاحب السيادة التشريعية فيها، ويحاول أن يخرج منها المبادئ التى ارتبطت بها فى أذهان الناس مثل: الانتخابات والتداول السلمى للسلطة وحكم القانون والشفافية وحرية التعبير والتنظيم وحقوق الانسان. ويقول ان حديثه ليس عن شئ من هذا المبادئ التى صارت ملحقة عند كثير من الناس بالديمقراطية بل صارت عند بعضهم هى الديمقراطية، ويزيدنا الشيخ عجبا عندما يقول انه يعنى مزالق الايمان بالديمقراطية لا عن العمل بها أو تطبيقها. وسيكتشف القارئ أن جعفر يتحدث عن "ديمقراطية" غير التى يعرفها الناس اليوم ويتحاورون حول صلاحيتها وامكانية تطبيقها نظاما للحكم فى بلادهم. ويفسر قوله بأن الديمقراطية حسب تفسيرها العلمى تعنى (حكم الشعب) وهى نظرية يستحيل العمل بها الا فى مجموعات سكانية صغيرة لا تتعدى بضع عشرات من الآلاف. ويقول ان الأوربيين الذين بعثوا الفكرة الديمقراطية بعد ألفى عام من موتها فى أثينا أسموها الديمقراطية غير المباشرة أو الديمقراطية النيابية، وأن بعض واضعى الدستور الأمريكى يقولون ان نظامهم ليس هو الديمقراطية المباشرة التى كانت سائدة فى أثينا بل هو نظام جمهورى نيابى.
وقبل أن انتقل الى مآخذ الشيخ جعفر على الديمقراطية الأثينية التى تعنى حكم الشعب بصورة مباشرة والتى قال ان تطبيقها مستحيل فى الدولة الحديثة ذات الأعداد الكبيرة، أسأل الشيخ جعفر: هل وجد فى زماننا هذا من يؤمن بالديمقراطية الأثينية فى أى بلد من العالم دعك من السودان ومن الاسلاميين فى السودان؟ وبما أن نقده ينطلق من وجهة نظر دينية اسلامية فلا بد أن المعنيين بهذه المزالق هم الاسلاميون، ولكن كيف يؤمن اسلامى أو غير اسلامى بنظام يستحيل تطبيقه؟ خاصة وأن الاسلامى لا تربطه بهذه الفكرة آصرة تاريخية أو ثقافية مثل ما تربط الأوربيين بالتراث اليونانى القديم. اذن ما الفائدة من الايمان بنظرية كهذه؟
أحسب أن الذين يتحدثون عن الديمقراطية فى بلادنا، من الاسلاميين وغير الاسلاميين، يعنون النظام الديمقراطى المطبق فى كثير من الدول الغربية والذى ارتبطت به مبادئ الاختيار الشعبى للحكام عبر انتخابات تعددية نزيهة، والاحتكام الى الدستور والقانون، وانشاء الحقوق والواجبات على أساس المواطنة، وبسط حرية التعبير والتنظيم، ورعاية حقوق الانسان، ومساءلة الحكام، والفصل بين السلطات الخ ... وقد أخذت دول كثيرة فى آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية هذا النظام عن الغرب لأنها وجدته الأفضل بحكم التجارب المعاشة، ولكن تطبيق هذا النظام استعصى على معظم الدول العربية والاسلامية ومنها السودان وظلت هذه الدول رهينة للأنظمة الاستبدادية من ملكيات وراثية وحكومات عسكرية وأنظمة الحزب الواحد. ويرى الكثيرون وأنا منهم أن النظام الديمقراطى أفضل من سائر هذه الأنظمة الاستبدادية السائدة فى العالم العربى والاسلامى. وكان ينبغى للدكتور جعفر أن يحصر نقاشه حول مفهوم الديمقراطية الحديثة والمطبقة فى أنحاء العالم بكل ما ارتبط بها من مبادئ وقيم وتقاليد، ويحدثنا عن مزالق تطبيق مثل هذه الديمقراطية فى بلادنا، وماذا نأخذ منها وماذا ندع؟ مثل هذا النقاش يكون ذا طبيعة عملية مفيدة أكثر من الحديث عن مفهوم فلسفى قديم للديمقراطية لا مكان له فى دنيا الواقع.
(2)
انتهينا فى المقالة الماضية الى دعوة الشيخ جعفر أن يركز فى نقاشه على الديمقراطية الحديثة المطبقة فى عالم اليوم بكل ما تشتمل عليه من مبادئ الانتخابات التعددية، والتداول السلمى للسلطة، وحكم القانون، والشفافية، وحرية التنظيم والتعبير، ورعاية حقوق الانسان الخ ...، لأن هذه هى الديمقراطية التى يعنيها الناس، بما فيهم الاسلاميون، ويريدون تطبيقها فى بلادهم. أما الحديث عن ديمقراطية أثينا التى تعنى حكم الشعب بصورة مباشرة والتى يقول جعفر بأنها مستحيلة التطبيق فى الدول الحديثة، فلا أرى أى معنى للنقاش حولها، ولا أعرف أحدا يدعو لها. وما معنى أن تدعو الى نظرية فى الحكم يستحيل تطبيقها؟ ويدهشنا جعفر بقوله انه معنى «بمزالق الايمان بالديمقراطية لا عن العمل بها أو تطبيقها». والشيخ جعفر كأستاذ للفلسفة من حقه أن يهتم بالقضايا النظرية، ولكن مسألة نظام الحكم قضية عملية فى المقام الأول، وينبغى أن يدور النقاش حولها مقارنة بالنظم الأخرى، وكأنما أراد جعفر أن يتفادى هذه «الورطة» فلجأ الى الحديث عن ديمقراطية غير موجودة ويستحيل وجودها- كما قال- ولا يدعو لها أحد! وما معنى الحديث عن مزالق الايمان بشئ غير موجود ويستحيل وجوده؟
يتحدث جعفر عن تسعة مزالق للايمان بالديمقراطية هى: إعطاء حق الحكم للشعب، الايمان بالعلمانية، المساواة بين المسلمين وغير المسلمين، اعلاء رابطة المواطنة على رابطة الأخوة الدينية، نسبية معايير المصلح والمفسد من المبادئ والاجراءات، انتشار الثقافة الغربية تبعا للايمان بالديمقراطية، كونها معيار الشرعية الوحيد، الخضوع لرغبات الناخبين ولو كانت منكرة، هى الحل الوحيد للتعددية الدينية.
وأبدأ بملاحظة منهجية على مزالق الشيخ جعفر، فهى لا تلتزم بالمفهوم «العلمى» أو الفلسفى للديمقراطية الذى يعنى حكم الشعب، وانما تستطرد الى مبادئ الديمقراطية الحديثة وما يترتب عليها من التزامات مثل المساواة بين المسلمين وغير المسلمين، كما أنه دخل فى مجال التطبيقات رغم قوله انه غير معني بها، مثل اعلاء رابطة المواطنة على رابطة الأخوة الدينية، فهى قاعدة قانونية فى التعامل وليست قاعدة ايمانية، فيجوز للمسلم أن يؤمن بعلو الأخوة الدينية على غيرها، ولكنه مع ذلك يرتضى المساواة القانونية بينه وبين غير المسلمين. ويخلط جعفر بين الأسس التى تقوم عليها الديمقراطية وبين بعض الأفعال التى يمكن أن تحدث فى بعض المجتمعات ولكنها لا ترتبط ضرورة بالديمقراطية، وقد تحدث فى نظم الحكم الأخرى، مثل انتشار الثقافة الغربية فى مجالات الحياة، الخضوع لرغبات الناخبين ولو كانت منكرة. ولقد ساهمت الأنظمة الديكتاتورية فى تركيا وايران وتونس ومصر والجزائر والعراق فى نشر الثقافة الغربية أكثر من أى نظام ديمقراطى فى بلد مسلم.
والمزلق الأكبر عند جعفر فى الديمقراطية، هو الايمان بأن الحكم للشعب، وهذا مناقض للقاعدة التى يقوم عليها بنيان الاسلام وهى (إن الحكم إلا لله)، ويفسر بأن «الحكم التشريعى هو من خصائص الربوبية التى لا يجوز لأحد أن يدعيها أو يشرك مع الله تعالى أحداً فيها». وفى تقديره أن المزالق الأخرى تنداح من هذا المزلق. ونحن نسلم مع الأخ جعفر بأن المسلم ملزم بالحكم الالهى القطعى فى ثبوته وفى دلالته. والسؤال هو كم من هذه الأحكام يدخل فى باب السياسة ونظام الحكم؟ أقول انها قليلة جدا وكثير منها مبادئ عامة، وأن معظم مسائل الحكم فى الحياة المعاصرة اجتهادية محضة تقاس بما تحققه من مصالح المجتمع على أن لا يتناقض ذلك مع الأحكام القطعية. وأن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا اختلافا كبيرا فى مسائل الحكم، مما أدى الى حمل السلاح ضد بعضهم البعض، مما يدل على مساحة الاجتهاد فى كيفية الحكم وتنصيب الحاكم. وان كان فى الأمر سعة للاجتهاد، فهل الأفضل أن يكون اجتهاد فرد واحد أو مجموعة من الأفراد أو اجتهاد الأمة كلها بواسطة نوابها فى البرلمان، بكل ما يعنيه ذلك من التراضى والقبول بين فئات المجتمع وذلك من مقاصد الدين. ويجوز للنظام الديمقراطى أن يقيد نفسه بأحكام الشريعة الاسلامية كما فعل الدستور الايرانى «1980م» ودستور الجمهورية العربية اليمنية «1973م» ودستور جمهورية باكستان الاسلامية «1973م» ودستور السودان لعام 1998م، ولا يعنى ذلك أن هذه البلاد تقيدت تماما بكل أحكام الشريعة الاسلامية، لكن تضمينها فى الدستور يعنى الايمان بها. قد يكون سبب المفارقة عدم استطاعة النخبة الحاكمة تطبيق بعض المبادئ لأنها تجر عليها مشاكل من المجتمع الدولى، أو تحدث لها انشقاقات ونزاعات داخل بلدها، أو تفوت مصلحة ما للطبقة الحاكمة. وأحسب أن احداث مشاكل خارجية أو داخلية راجحة، مما يعذر للحاكم المسلم على أساس درء المفاسد وجلب المصالح، ولا عذر له فى مفارقة الشريعة لمصلحة شخصية أو سياسية. والنقطة هنا لا تتعلق بالايمان النظرى، ولكن تتعلق بامكانية التطبيق. ويعذر من كان قلبه مطمئنا بالايمان، ولكن أكرهته الظروف لمجانبته، مثل ما حدث للصحابى المجاهد عمار بن ياسر.
ومن ناحية أخرى ما هو البديل لحكم الشعب؟ سيقول جعفر هو حكم الله، ولكن من الناحية العملية سيأخذ هذا الحق فرد أو أفراد ويدعون أن هذا حكم الله. ولقد عاش السودان هذه التجربة فى فترة النميرى وفى فترة الانقاذ. ولا أعلم فترة انتهكت فيها الحقوق وظلم فيها الناس وتفشى فيها الفساد أكثر من هاتين الفترتين فى تاريخ السودان منذ الاستقلال، هذا لا ينفى حدوث اجراءات اسلامية نافعة مثل منع الخمر والبغاء بالقانون وجمع الزكاة وتشجيع احياء الشعائر الدينية. ولكن النتيجة واضحة أن انتهاكات الحقوق وظلم الناس وتفشى الفساد، أدى الى فتنة أكبر وصدود عن أحكام الاسلام. وحصيلة القول أن مجموع الشعب مؤتمن أكثر على رعاية تعاليم الاسلام وأحكامه من فرد أو مجموعة من الأفراد يحكمون باسم الدين، وبما أن البدائل العملية هى بين حكم فرد أو مجموعة محدودة وبين حكم عامة الشعب، فإن الأقرب لتحقيق مقاصد الدين وأحكامه هو حكم عامة الشعب، أى الديمقراطية مقارنة بالملكيات الوراثية والحكومات العسكرية والأحزاب الشمولية. ويكفى أن نشير الى تجربة انتفاضة أبريل 1985م، اذ لم تستطع قوى التجمع الوطنى الديمقراطى التى قادت الانتفاضة بزخم ثورى، أن تلغى القوانين الاسلامية التى استنها الرئيس نميرى، لأن قاعدة واسعة من الشعب كانت تدافع عنها فى مناخ من الحرية والتعددية، مع أن نميرى نفسه كان يمكن أن يتنازل عنها اذا ما ضغطت عليه الدول الكبرى فى تلك المرحلة الحرجة.
لست من المؤمنين بأن أميركا تسعى لنشر الديمقراطية فى العالم الاسلامى من أجل عيون المسلمين، بل أنى أشك فى أنها تريد حقا نشر الديمقراطية فى العالم الاسلامى، فهى تتحالف مع أكثر الحكومات ديكتاتورية فى المنطقة، لأن تلك الحكومات تخضع لسياساتها حرصا على عروشها. وينبغى التفريق بين أهداف أميركا الحقيقية فى المنطقة، وبين الحجج التى تسوق بها سياساتها الخارجية داخل أميركا «لا تحسبن الشحم فى من شحمه ورم». وقد قالها صمويل هنتنجتون بصراحة فى كتابه «صدام الحضارات» ان الانفتاح الديمقراطى فى الشرق الأوسط سيأتى بالحركات الاسلامية وبأعداء أميركا من القوميين. والنتيجة لا داعى لهذا الانفتاح..!!
لا أرى أن الديمقراطية تعنى بالضرورة الايمان بالعلمانية، فالديمقراطية لا تمنع تحديد مصادر تشريع اسلامية كما حدث فى بعض دساتير الدول المسلمة التى ذكرناها، ويزيد الدستور المغربى بأن الملك هو «أمير المؤمنين». والمساواة وحقوق المواطنة التى تتحدث عنها الدساتير هى فى النواحى القانونية وليست فى النظرة العقدية أو الأخلاقية أو الاجتماعية، ويصعب فى مجتمعات اليوم التفريق بين حقوق الناس على أساس دينى، وقد ساوى الرسول «ص» فى وثيقة المدينة بين حقوق المسلمين وغير المسلمين، وأعطى اليهود حق الدفاع عن أحيائهم ومزارعهم تحت قيادتهم، ولم يلزمهم بالقتال تحت قيادة المسلمين، وخيره الله سبحانه بأن يحكم بينهم أو يعرض عنهم، مما يعنى جواز الاحتكام الى قوانينهم. وتحدث الشيخ جعفر عن نسبية المصلح والمفسد من الاجراءات والقوانين، وكأنما يريد أن يقول إن هذه المسائل ثابتة الى يوم القيامة. ألا يجوز تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان؟ أليست هذه نسبية؟ هذا لا يعنى أن نقول إن كل شئ نسبى وليست هناك قواعد دينية ثابتة مثل حقوق الميراث.
إن الديمقراطية خيار عملى لادارة الدولة الحديثة، وهى أفضل من الخيارات الأخرى المطروحة، وأن العالم الاسلامى هو أكثر مناطق العالم تخلفا فى نظمه السياسية التى تقوم على الاستبداد عن طريق القوة العسكرية والوراثة. وأن تلك النظم الاستبدادية ترتكب كل المساوئ التى يخشى منها الشيخ جعفر، بما فيها تفشى منكرات الحضارة الغربية، والخضوع لسياسات الدول الكبرى التى تستهين بالعالم الاسلامى، وتستغل موارده، وتمنع نشاط الحركات الاسلامية التى يضطر قادتها الى اللجوء الى الدول الغربية، حتى يجدوا الأمان على حياتهم وأهلهم وعلى حرية الكلمة والدعوة. لذا أعجب أن يتصدى مفكر اسلامى فى قامة الشيخ جعفر شيخ ادريس لمزالق الديمقراطية، ويصمت عن مزالق الاستبداد والديكتاتورية، فى حين أن الأولى مفقودة فى العالم الاسلامى، والثانية منتشرة فى كل أرجائه..!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.