باحثون يرون أن حركة النهضة حاولت طوال الأشهر الأخيرة التي سبقت الانتخابات ترويج صورة جديدة قوامها الاندماج الكلي في النموذج التونسي. العرب مصدق عبدالنبي الناخبون التونسيون انتصروا لمشروعهم الحداثي ولفظوا أصحاب المشاريع الغريبة عنهم باحت الانتخابات التشريعية في تونس بأسرارها وأفرزت الصناديق، وفقا لتقديرات أولية، فوزا متوقّعا لحركة نداء تونس بزعامة السياسي المخضرم الباجي قائد السبسي فيما تقهقرت حركة النهضة الإسلامية وجاءت اختيارات التونسيين مفاجئة لكوادرها. ضمن ملفها الخاص بمتابعة الاستحقاق الانتخابي الذي تحوّل إلى عرس ديمقراطي في تونس، تواصل صحيفة "العرب" رصد أجواء ما بعد الانتخابات والإعلانات الأولية الممتالية عن نتائجها. وبناء على النتائج الرسمية الأولية الصادرة، حاولت في هذا التحقيق البحث عن أبرز الأسباب التي حدت بالتونسيين إلى تغيير المعادلة في المشهد السياسي التونسي بنزع ثقتهم من حركة النهضة عبر استطلاع آراء ثلة من الأكاديميين والمحللين السياسين. يشير سامي براهم، الباحث في الحضارة الإسلامية والمختص في شؤون الجماعات الإسلامية، إلى أن من بين الأسباب الرئيسية لتراجع حركة النهضة في الانتخابات التشريعية تعود إلى تخيير التونسيين للنمط المجتمعي الحداثي التقدمي الذي تبنته حركة نداء تونس. ويضيف براهم أن المجتمع التونسي بصفة عامة مشدود إلى التحديث وهو نمط نجح حزب نداء تونس في الترويج له بقوة وسانده في ذلك جهاز إعلامي قوي ونخب ثقافية تمكنت من استغلال هذا المؤشر. ويتابع براهم، في لقائه ب"العرب"، أن التنافس، بين الحزبين الرئيسين على الساحة التونسية، حركة نداء تونس وحركة النهضة، تمحور حول قاعدة المترددين إلى آخر لحظة، وقد نجحت نخب نداء تونس في استمالة هذه الأصوات بسبب تبنيها لخطاب الحداثة في مقابل خطاب كلاسيكي للنهضة. في ما يتعلق بحضور باقي التيارات الإسلامية في تونس وغيابها الكلي عن المشهد الجديد يعتقد براهم أن أدبيات التيار السلفي بصفة عامة لا تسمح له بالانخراط في العمل السياسي على اعتبار أنه يؤسس لحكم وضعي لا يحتكم إلى الشريعة وهذا الأمر ينسحب على مجمل التيارات الإسلامية بدءا بالتيارات الجهادية والتيارات السلفية العلمية وجماعة الدعوة والتبليغ وهو ما يفسر في رأيه حصول الأحزاب الإسلامية والقائمات المستقلة التي تتبنى الخطاب الديني على نسب صفرية. وفي ما يخص مستقبل التحالفات في تونس بعد الانتخابات، يقر براهم بوجود تحديات حقيقية أمام تحالف محتمل بين نداء تونس وحركة النهضة رغم أنه الخيار الأمثل لتونس حسب قوله. عميرة علية الصغير: ميليشيات النهضة نفرت التونسيين من الحركة لماذا تراجعت شعبية حركة النهضة؟ يلخص عميرة علية الصغير الأكاديمي والمؤرخ التونسي، في حواره مع العرب، أسباب هزيمة النهضة في فشل الحركة في إدارة الدولة إبان فترة حكمها على جل الواجهات. ويقول الصغير إن حركة النهضة تلكأت في الاستجابة لمطالب ثورة 14 يناير التي تتعلق بملفات الاقتصاد والتشغيل والتنمية إذ وصلت جميع المؤشرات الاقتصادية في عهدها إلى الخطوط الحمراء مما خلف فزعا حقيقيا لدى مختلف الطبقات الاجتماعية التونسية. ويشير الصغير إلى أن أبرز الملفات التي تسببت في هزيمة حركة النهضة الفشل الذي ميز أداءها أمنيا إذ أطلقت قيادات الحركة العنان للحركات العنيفة لتنشط في تونس. ويذكّر الأكاديمي أن الحركة كانت مسؤولة بدرجة أولى عن تفشي ظاهرة العنف والإرهاب في تونس إذ لم يسبق للبلاد أن شهدت اغتيال 4 رموز سياسية (شكري بلعيد محمد البراهمي محمد بالمفتي ولطفي نقض) في أقل من عام. قالوا عن انتخابات تونس *البحرين: "الانتخابات التشريعية خطوة هامة وحاسمة في ترسيخ الديمقراطية". *فرنسا: "التونسيون برهنوا أن الديمقراطية ممكنة في جميع القارات وفي جميع الثقافات". * الجزائر: "هذا النجاح لم يكن ليتحقق لولا حكمة وعزيمة القوى السياسية التونسية". * الولاياتالمتحدة: "هذه الخطوة تفسر لماذا ظلت تونس منارة للأمل ليس للتونسيين فحسب بل للمنطقة والعالم". * إيطاليا: "تونس هي مثال لجميع دول جنوب المتوسط التي بدأت عصرا جديداً من الديمقراطية". * مصر: "نتمنى أن تؤسس هذه الانتخابات لمستقبل مشرق يحقق تطلعات الشعب التونسي". ويتابع الصغير أن لجان حماية الثورة، التي كانت بمثابة الجناح المسلح للحركة، ساهمت في نفور الشعب التونسي منها بعد أن قامت هذه الميليشيات، على حد قوله، بترويع المناضلين والتهجم على مقرات الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية العريقة (إفساد اجتماعات حزبية الاعتداء بالعنف على قيادات حزبية وهجومات على مقر اتحاد الشغل أكبر المنظمات النقابية بالبلاد). ويضيف المؤرخ التونسي أنه لولا النواة الصلبة التي تتمثل في أبناء حركة النهضة وقياداتها التاريخية والمتعصبين بشدة للأفكار الإخوانية والذين اعتمدوا قاعدة "انصر أخاك ظالما كان أو مظلوما" لما تمكنت النهضة من المرتبة الثانية. في سياق متصل يؤكد الصغير أن انحسار دور الإخوان إقليميا وعزلهم شعبيا في مصر والثورة القائمة ضد حكمهم في ليبيا والحظر الخليجي لأنشطتهم والضغوط التي تمارس على قطر الراعي الرسمي للإخوان في العالم العربي ساهمت مجتمعة في تراجع دور الجناح التونسي (النهضة) واتخاذه لمبدأ انحني حتى تمر العاصفة. ويشدد الصغير على ضرورة تضافر جهود الحكومة القادمة على تطهير أجهزة الدولة (الداخلية، الإدارات الكبرى، الشركات الوطنية) من العناصر التي زرعتها حركة النهضة تحت يافطات مختلفة من بينها العفو التشريعي العام (عفو شمل مساجين سياسيين سابقين أغلبهم من ذوي التوجه الإسلامي) ومراجعة التعيينات والترقيات التي تم إقرارها في فترة حكمها. وفي وقت سابق وفي السياق، قال عبدالقادر اللباوي رئيس الاتحاد التونسي للمرفق العام وحياد الإدارة إنّ دراسة أجراها الاتحاد بشأن التعيينات التي قامت بها حكومة الترويكا صلب الإدارة أظهرت أنّ 87 بالمئة من جملة التعيينات هي من الترويكا، وأنّ 93 بالمئة من هذه التعيينات جاءت من حركة النهضة صلب مختلف مفاصل الدولة، وهو ما أسهم في تأزم مردودية المرافق العمومية. عجز في إدارة دواليب الحكم يفسر الكاتب الصحفي والباحث في الجماعات الإسلامية هادي يحمد، في تصريحات للعرب، تراجع حركة النهضة في الانتخابات الحالية بفشل حكم الترويكا (ائتلاف حكم تونس وقادته النهضة) في السنوات الثلاث التي أمسكت بها دواليب الحكم وخاصة في ما يتعلق بالملفات الكبرى ومنها ملفات التنمية والتشغيل وتحقيق التوازن الاقتصادي بين الجهات. ويتابع يحمد قوله إن النهضة فتحت عليها طوال عامين من حكمها مواجهات عدة مع أطراف مختلفة إذ دخل أنصارها في عملية ليّ ذراع فاشلة مع الاتحاد العام التونسي للشغل كما قامت النهضة بمحاولة احتواء الإعلام والضغط عليه انتهت كالمواجهة السابقة إلى فشل ذريع. ويضيف الباحث أن النهضة لم تنجح طوال قيادتها للترويكا إلا في إحكام الطوق عليها بالشكل الذي جعلها تقر بفشلها وتسلم الحكم إلى حكومة كفاءات. هادي يحمد: النهضة فتحت عليها طوال عامين من حكمها مواجهات عدة ويعيد الكاتب الصحفي اهتزاز ثقة التونسيين في الحركة إلى عامل مهم يتمثل في تعاملها مع الملف السلفي، إذ تفطنت الحركة الإسلامية بتأخر شديد إلى خطورة المارد السلفي الذي تسبب في أزمة أمنية حقيقية في البلاد أدت إلى حدوث اغتيالات وتفجيرات في البلاد لا تزال تعاني تداعياتها إلى اليوم مما جعل الناخب التونسي يصنف النهضة خطرا يجب تجنبه. عن مدى مساهمة المشروع المجتمعي (تقدمي) الذي تبنته حركة نداء تونس في حسمه الانتخابات لصالح هذا الحزب يقول يحمد إن اختلافات عدة تحوم حول تحديد هوية نداء تونس، لكن وبصرف النظر عن تقديمه كحزب حداثي وتقدمي فإنه حزب خليط من تيارات عدة تعتبر أن النظام البورقيبي الذي سنه الرئيس الأول للبلاد يمثل النموذج الذي من المهم الاحتذاء به. ويضيف يحمد أن هذا الحزب الذي يقدم نفسه بمثابة المنقذ من الخطر الإسلامي الذي يتهدد البلاد وتوقيت نشأته في أواسط 2012 كان عنوان الأزمة السياسية والاجتماعية التي تعيشها البلاد في ظل حكومة الترويكا وتزعمه لما سمي بجبهة الإنقاذ التي تكونت بعد مقتل القيادي محمد البراهمي، كلها أسباب ساهمت في تسيده للمشهد الجديد ليس بالضرورة كحامل لمشروع حداثي تقدمي ولكن باعتباره الجهة الأقدر على الخروج من حالة الارتباك والإرهاب التي تعيشها البلاد. عن فقدان حركة النهضة لجزء من قاعدتها المتمثلة في الشباب المتعصب والمتعاطف مع التيارات الجهادية قال يحمد إن تشدد حركة النهضة مع التيار جاءت متأخرة في نهاية سنة 2013 بعد سنتين من حكمها للبلاد إذ اتسم تعامل النهضة مع التيار السلفي الجهادي في البداية بالتساهل في سياسة قوامها انسحاب الدولة من مراقبة المساجد وترك الدعاة المتشددين يفدون على البلاد بالعشرات هذا فضلا عن تمكينهم من اقتحام الفضاء العام عبر الخيام الدعوية التي نصبوها في كل مكان باسم مبدأ الحرية الدينية. يؤيد يحمد الآراء التي تقول إن نتائج الانتخابات التشريعية في تونس تأثّرت دون شك بالوضع الإقليمي وانحسار دور الإخوان، حيث يشير في هذا السياق إلى أن الحالة المصرية التي تمت فيها محاكمة قادة الإخوان المسلمين والحالة الليبية التي يخوض فيها الإخوان صراعا مسلحا من أجل بقائهم مثلتا حالتين مهمتين في مراجعة النهضة لسياستها داخل البلاد، إذ وجدت حركة النهضة نفسها في السياق الإقليمي مدفوعة إلى اتباع المثل القائل فلننحني حتى تمر العاصفة. ويضيف الباحث في شؤون الحركات الإسلامية أن النهضة حاولت طوال الأشهر الأخيرة التي سبقت الانتخابات ترويج صورة جديدة قوامها الاندماج الكلي في النموذج التونسي وعمدت إلى استبعاد كل العناصر المتشددة المنتمية إلى الحركة التي قد تمثل لها إشكالا في حملتها الانتخابية حيث اختفى العديد من قادة النهضة المعروفين بتشددهم على غرار الحبيب اللوز والصادق شورو (كان حاضرا في أول مؤتمر لأنصار الشريعة الذي صنف تنظيما إرهابيا في تونس)، إلا أن ذلك لم يكن كافيا ليتذوّق الإسلاميون، مرة أخرى، طعم الفوز بالصدارة والسيطرة على شعب عرف عنه طوال تاريخه العريق أنه شعب وسطي ومعتدل ومتسامح.