تمردت ولاية جنوب كردفان وألوية عسكرية فيها ومعها ضد الخرطوم، كما شهدت معها موجة نزوح وهجرة سكانية جنوبا، كل ذلك قبل أيام قد تعد هي الأخرى بالساعات، فيها أقول قد يحتفل الرئيس السوداني وحزبه الحاكم في الثلاثين من الشهر الجاري بعيدهم الثاني والعشرين على رأس الدولة السودانية، التي تسلم زمام أمرها بعد انقلاب 30 حزيران/يونيو العام 1989 من القرن الماضي، وبالمقابل في مفارقة تاريخية اخرى موازية بعد عشرة أيام من عيده السلطاني العشريني، وبتقريب أكثر دقة، بعد مئتين وأربعين ساعة زمنية من تاريخ احتفاله واحتفائه يتم إعلان دولة سودانية أخرى جزءا من دولته التي سيطر عليها ومجاورة له في الجنوب بعدما انفرط العقد السوداني في أولى حلقات تفكيكه جنوبا في انتظار الملحقات الأخرى ما لم يتم التفكير جديا في تفعيل ما أسميه بأيديولوجيا ‘حصار وحرق الخرطوم مجددا'. طلاق مرتقب في مملكة العبدلاب والفونج! المؤكد في هذا الاتجاه ان حرب جنوب كردفان القائمة ضد التمركز السوداني، وبعيدا عن الأسباب التي عجلت باندلاعها مؤخرا، نجدها في المتن والجوهر تكيفا ضمن دائرة صراع المحيط ‘الهامش' والتمركز ‘الغردوني' جاءت تحت أي ستار أو هوية سياسية أو دينية أو عرقية او ثقافية لا يهم، وبالتالي يندرج في معادلات خلل جوهر الدولة السودانية الغردونية الكلي في تعاطيه مع العموم السوداني، حيث فيروس الخلل هنا يتطابق من حيث المرجعيات والمفردات مع ثورة دارفور وقبلهما جنوب السودان، الدولة اليوم، كما سوف تمتد وتتمدد في ظل بقاء معامل الخلل حتما إلى ولايات النيل الأزرق الوسطي، التي تسعى إلى حكم ذاتي وكأنها تريد بذلك أن تحدث الطلاق بين مملكة العبدلاب والفونج، كمملكة تاريخية سودانية مشتركة. إلى ذلك التمدد مستمر في شمال الشمال والشرق لتشديد الخناق على مشروع مثلث حمدي الذي سبق أن أطلقت عليه ‘جمهورية الحجرين' السودانية كمشروع قيد التنفيذ الدقيق على إثر انهيار المشروع الوطني السوداني أو بالأحرى البديل المعروض في تضاريس المشهد السوداني. سقوط شرعنة حرب شمال/ جنوب في هذا المنحي، المهم وللمزيد من التوضيح والتدقيق نحن أمام حقائق جديدة وذلك في أن ثورة جنوب كردفان السودانية قد تواجه بإعادة إنتاج نفس السياسات المصوبة ضد الثورة في دارفور، مع الرفع من درجتها لحساسيتها وخطورتها لغاية التقليل من عنفوانها وحدتها عبر توظيف جيد لأيديولوجيا الهوية والقبيلة والدين، وهي الواقعة على تخوم دولة الحجرين ومركزيتها ولها حدود هي الأطول مع دولة جنوبية صنفت ‘بالمعادية'. إلا ان الأكثر أهمية في ما أطلق عليه ‘تمرد' جنوب كردفان هو إسقاطه ‘لعبادات' سياسية في غاية الأهمية، لعبت دورا مهما في ما مضى في شرعنة صناعة الحروب السودانية وإدارة الصراع وفق مصالح النخبة، وأهمها سقوط شرعنة الحرب والصراع على السودان تحت إستراتيجية شمال أيديولوجي تجاه جنوب، كما قد يفرز بل يحسم طبيعية وأيديولوجية الصراع وعناونيه في ما تبقى من سودان شمالي، أهو صراع تجاه دولة مدينة ديمقراطية، بمعني دولة حقوق ومواطنة وعدالة اجتماعية وثقافية، ام صراع ثقافات او اعراق، أو غنائم أو أيديولوجيات، ولما لا صراع وصفته بعض الأدبيات المسكوت عنها ما بين ‘دولة العبيد السودانية' و'دولة الأحرار السودانية'! وكلاهما مشروعان متناقضان، اقصائيان، عنصريان، مدمران وغير ديمقراطيين. سقوط الخرطوم مجددا إن تمرد جنوب كردفان – بعد فصل الجنوب – يضع الشعوب السودانية في الشمال أمام نقلة مهمة في أدب الصراع والمصطلحات والشرعيات والشرعنات، بل إلى حصر الصراع ودوائره وامتداداته، وهو الشيء الذي دفعنا في وقت سابق إلى القول، وفي مقالة نشرت على صفحات ‘القدس العربي' في العام 2007 أن *'انتقالات وتحولات دينامكية التاريخ السوداني ومحركاته ومخرجاته وارتباطاته وتقاطعاته....... تنحو تجاه فتح الخرطوم مجددا..'. والخرطوم تمثل هنا رمزية لداينمو صناعة اللامعقول السوداني تجاه الوطن السوداني وشعوبه، بدءا من الاستبداد والهيمنة والاقصاء والتهميش والمنتج لثقافة التفكك والانهيار السوداني.... إلخ إنها الأزمة البنيوية للدولة السودانية في منتجاتها وبضاعتها السياسية والثقافية والدينية والاجتماعية، التي تفرخها بوعي وهندسة تشبه الأساطير. لذا الضرورة ملحة لفتح ملف الشمال السوداني من جديد، لأن المواصفات السودانية الخاصة والحصرية في القانون والدولة والمساءلة والمواطنة والحقوق غير مجدية وليست فاعلة، كما نرى على سبيل المثال في أن تقوم الدولة السودانية ‘الحجرية' بتنصيب أحد مطلوبي العدالة الدولية واليا ‘ديمقراطيا' ويقوم الأخير على خلفية ‘التمرد' بمطالبه منافسه ‘المناضل الثوري' بالمثول للعدالة قصد محاكمته وفق ‘عدالة' الوالي المتهم والمطارد دوليا، إن فتح ملف الشمال السوداني، لبناء عقد اجتماعي/ دستوري جديد هو المدخل لإقامة دولة وكيان في الشمال السوداني يرتكز على فلسفة الشراكة وليست المشاركة، ومن شأنه أن يكون المضاد السياسي للطوفان الشمالي السوداني المرتقب. هنا الرئيس السوداني أمام مسؤولية تاريخية وأخلاقية قد تغير وتدفع بموازين قواه إلى الإيجاب إن احتكم إليها. ‘ كاتب سوداني مقيم في بريطانيا نقلا عن القدس اللندنية