زعمت الحكومة السودانية أن قوات حركات دارفور تقاتل كمرتزقة إلى جانب القذافي وزعمت أن هناك سودانيين يقاتلون كمرتزقة إلى جانب القذافي، لكن الآن وبعد مرور مدة كافية على أحداث ليبيا فقد تبين أخيرا الخيط الأبيض من الخيط الأسود: لم تكن أحداث ليبيا مثل مصر أو تونس أو اليمن فأحداث تلك البلدان كانت بين متظاهرين عزل وقوات شرطة في الغالب الأعم، أما في ليبيا فقد شهدت الأحداث منذ البداية الهجوم على معسكرات الجيش والاستيلاء على أسلحة ومن ثم الدخول في معارك شرسة ضد النظام والتمكن من السيطرة على مساحات كبيرة من البلاد. وأخيرا أصبحت قناة الجزيرة تبث فيديوهات يظهر فيها بوضوح هؤلاء المقاتلين ضد النظام، فإذا بهم نفس الهيئات التي لا تخطئها العين: لحى وبنادق ومن واقع معايشتي اللصيقة بالليبيين فمن النادر أن تجد بينهم من يتخذ لحية أو حتى شارب بخلاف الخليجيين مثلا، وفي غمرة ركوب الموجة الإعلامية المعادية للدكتاتورية لم يقف أحد ليسأل من هم هؤلاء و من أين أتى هؤلاء ومن الذي وقف وراءهم و دربهم هذا التدريب العالي ليتمكنوا من هذه الأعمال العسكرية الخارقة خلال مدة وجيزة، و السؤال الأكثر أهمية: ما هو دور الحكومة السودانية و أحهزة مخابراتها وعلاقات أجهزة مخابراتها السرية بمخابرات الدول الكبرى في توفير الدعم السري الذي أفضى أخيرا لهذه النتيجة؟ ولنقارن ذلك بالسودان الذي ظلت المعارضة فيه تجابه النظام عقدين من الزمان بما فيها العمل المسلح فلم تتمكن من تحقيق شئ يذكر مثلما حققه الأصوليون المسلحون في ليبيا خلال أيام! بالتأكيد هؤلاء الأصوليين لم يتلقوا مثل هذا الدعم من مصر أو تونس، وفي حين أن السعودية تدعم الوهابية في العادة لكن ليس لها سوابق في دعم وهابيين مسلحين، وبالتأكيد ليس دول آسيا الآخرى، فلا يبقى سوى التساؤل عن دور الجار القريب الذي كانت له سوابق في الدعم السري للمعارضة الليبية: الحكومة السودانية! كل سوداني عاش في ليبيا في منتصف التسعينات لابد وأن يتذكر الفترة التي ساءت فيها العلاقات بين الحكومتين الليبية والسودانية عقب أحداث قام بها أصوليون ليبيون مسلحون منطلقون من السودان كان من بينها محاولة اغتيال القذافي حينها، ويبدو أن الطرفين توصلا لتفاهم بعد ذلك بألا يدعم ايا من الطرفين معارضة الطرف الآخر، ولكن هل التزمت الحكومة السودانية بذلك؟ سعدنا كثيرا أنا وزملائي السودانيين الذين قبلوا لإكمال دراستهم بكلية الهندسة جامعة الفاتح بعد ترك الدراسة بالجامعات العراقية احتجاجا على قتل البعثيين من أزلام الطاغية صدام حسين لزميل دراستنا الشهيد الطيب الأمين النورابي في العراق، سعدنا حين اكتشفنا أن غرفتنا تقع أمام مسجد العمارة، لكن سرعان ما لاحظنا أن الصلوات في ذلك المسجد يصر على إمامتها جيراننا في السكن وهم ليبيون ملتحون ومعهم شخص أسمر اللون يبدو أنه أثيوبي أو اريتري، ولاحظنا أنهم يصرون على قراءة الآية :" إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات.... إلى آخر الأية " في كل صلاة جهرية! وكانوا يقصرون ثيابهم بالطريقة الوهابية المعروفة. ومرت الأشهر وذات يوم فوجئنا بورقة معلقة على جدار من جدران المسجد تتحدث عن مبطلات الإسلام الشركيات وكان بينها مما زعموا التصوف الذي نسبوا لأحد شيوخه بيت شعر يقول شطره: "وما الك ل ب والخنزير إلا إلاهنا"! وفوجئنا في تلك الأيام بأن كل با أخذ يأتي للمسجد ليلا بعد صلاة العشاء وينام في المسجد ليكتشفه الوهابية حين يأتون لأذان الصبح ويقومون بطرده ليعود مرة أخرى في اليوم التالي. كان المسجد يقع في الطابق الثالث من عمارة هي واحدة من عدد كبير من العمارات، ولم تكن الكلاب كثيرة في طرابلس ولم نكن نشاهد كلابا ضالة في الشوارع، لذلك فإن احتمالية اختيار الكل ب لهذا المكان بالذات لينام فيه تعتبر أمرا خارقا للعادة ودرس إلهي بليغ لأولئك القوم ولكن هل كانت لهم أعين يبصرون بها؟! كان غضبي شديدا من تلك الفرية بحيث لم يعد في استطاعتي الصلاة في ذلك المسجد، و زارنا ذات يوم عامل سوداني متصوف ومن فقراء الطريقة الصادقابية في السودان وحين أتى وقت الصلاة صلى بالناس إماما وهو لايدري عن الجهة التي تعتبر المسجد ملكا لها، وحين انتهى من الصلاة ورفع يديه بالدعاء سرت همهمة بين الحضور وصاح أحدهم:" إنه صوفي"! ويبدو أنهم أعادوا صلاتهم تلك! ومرت الأشهر وإذا بحيراننا يختفون فجأة ونسمع طرقا متكررا على بابهم لمدة أيام ولا يفتحه أحد، وأخيرا أتى الطارقون لغرفتنا وسألونا عن حيراننا أين هم؟ كان السائلون ذوي هيئة لا تخطئها العين: رجال الأمن! كانت تلك أول مرة أعرف فيها بوجود أصوليين ليبيين! كان الليبيون يقدرون الطلاب السودانيين الآتين من البلد الذي ثار وأطاح بجعفر نميري الذي طالما ناصب ليبيا العداء وقدم المأوى والدعم لمعارضي القذافي، ولذلك أعطوا الطلاب السودانيين حرية سياسية واسعة وسمح لهم بإصدار صحف حائطية كانت تنتشر في الساحة الرئيسية في الجامعة، وفي حين أن النظام السياسي الليبي لا يعرف الأحزاب فلم ينكر الليبيين على الطلاب السودانيين انتماءاتهم الحزبية، خاصة أن الحزبين الكبيرين ارتبطا بعلاقة جيدة بليبيا، وتمتع الأصوليين السودانيين الكيزان بحرية العمل الشئ الذي مكنهم من استقطاب عدد كبير من الطلاب ففازوا بأغلبية ضئيلة برئاسة المؤتمر الشعبي للطلاب السودانيين وهو الصيغة الليبية لاتحاد الطلاب والذي لم يدم طويلا، وقد أثار هذا التسامح من جانب الليبيين تجاه الأصوليين غضب بعض الطلاب المنتمين لحركة اللجان الثورية السودانية وأدى بهم لاحقا بعد سنوات لترك حركة اللجان الثورية، فالتحية لهم، ومنهم زميلنا في المنبر هشام هباني ! غير أن التسامح الليبي لم يشمل جميع الكيزان، فيبدو أن الليبيين ظلوا يراقبونهم، وفوجئنا ذات يوم باعتقال عدد من زملائنا الكيزان واختفائهم ومعهم من لم يكن طالبا في الجامعة واتضح أنه ضابط في أحد الأجهزة الأمنية السودانية، واثارت تلك القضية ضجة بين الطلاب السودانيين في تلك الأيام كان نظام البشير يسفر تدريجيا عن وجهه الكيزاني الخفي! وكانت تلك أول حادثة تؤكد رصد الليبيين للعمل الأصولي الاستخباراتي في ليبيا! هل يصح أن الغرب يعتبر أن وصول نظام البشير للحكم وتمكنه ونجاحه في البقاء في السلطة طيلة عقدين من الزمان ممثلا لنوعية جديدة من الإسلاميين هي إسلاميو الغرب، هل يعتبر ذلك تجربة ناجحة يجب تكرارها في ليبيا بتسليم السلطة فيها لإسلاميين موالين للغرب ومدعومين من نظرائهم إسلاميي الغرب السودانيين؟ سؤال طاف بخاطري قبل قليل وأنا أقرأ في مواقع الأخبار البديلة باللغة الإنجليزية الأخبار عن صفوة القوات الخاصة التي هي على أهبة الاستعداد للنزول في الشواطئ الليبية دعما للحكام المنتظرين! كانت الملكية في العائلة السنوسية وهي عائلة صوفية لها طريقة تنسب إليها، وبسبب الجهل الذي شاع بين العوام من محبي الأولياء فيبدو أنه كانت هناك بعض الممارسات المستهجنة في المحيط الصوفي جعلت التصوف موضع نقد شديد واستهجان من جانب السلطات فخبا دوره، ونتيجة لذلك أصبحت الأرضية خصبة لدخول الوهابية المتطرفة، ولاحقا عادت الدولة لدعم التصوف ليقف في وجه المد الوهابي، وجرت محاولة أخرى مؤخرا لاستقطاب المد الوهابي حيث تم السماح لبعض مشايخ الوهابية بزيارة ليبيا مؤخرا حيث لقوا حفاوة كبيرة، وكان ذلك جزءا من الكارثة، وما قلته أنت عن الاشتباه فيمن يترددون على المساجد، فالمصيبة هي أنه في معظم بلاد العالم الثالث لاتكون أفضل العقليات هي التي تعمل في مجالات الأمن وبالتالي يصعب على هؤلاء التفريق بين الصالح والطالح فيختلط الحابل بالنابل. تلقيت رسالة من أخ كريم يرجوني فيها عدم مواصلة هذا البوست مراعاة لأوضاع الجالية السودانية في ليبيا التي هي الآن في حالة معاناة في مناطق شرق ليبيا كما تقول الأخبار، وأن هذا البوست سيجعل الجالية السودانية موضع اتهام من جانب السلطات أيضا فيصبح السودانيين بين نارين. بالنسبة للسلطات الليبية ثقتي كبيرة أنها لن تستهدف السودانيين لأنها تعرفهم جيدا وسوف لن تأخذهم بالشبهات، وإذا كان هناك خوف على السودانيين فهو من العنصريين الذين ظلوا يرددون أن أموال بلادهم يتم إهدارها في الإنفاق على الأفارقة وهو أمر غير صحيح وبناء عليه يصبون حقدهم على السود في ليبيا، أنا لا أعادي أي فئة من فئات الشعب الليبي، وإذا كانت أربعة سنوات في كندا قد جعلت مني مواطنا كنديا فلاشك أن خمسة عشر عاما في ليبيا تجعلني مواطنا ليبيا يشعر بالألم والحسرة لكل قطرة دم تراق في ليبيا، أسال الله أن يحقن دماء أهل ليبيا ويعيد لها السلام والرفاهية في أسرع وقت، وأعتذر عن مواصلة الكتابة في هذا البوست وأرجو من الإخوة الأعضاء عدم التداخل فيه وشكري لجميع القراء وللأخ صاحب الرسالة. محمد عثمان الحاج