ما أشبه وَعْصَةَ اليوم، بوعصاة البارحة..، لقد ظلّ الجيش السوداني، في العهود التي سُمّيت بالديمقراطيّة أو تلك التي وُسِمت بالعسكرية، يخوض حرباً شنعاء، تؤجّجها روح الكراهيّة والعُصبيّة العرقيّة (!) والدينيّة. وما همّ أن يكون الجالس على سدّة العرش موشىً بالدبابير أو مُعتمرا طاقيّة المشيخة أو الطريقة الأنصاريّة أو الختميّة؛ فهما وجهان لعُملةٍ بخسة، ورخيصة! فهل كانت في عهود المدنيّات، من برهةٍ مضت، دون أن تُسفك فيها دماء رجال ونساء وظاعنين في العمر أو رابضين في الطفولة مِن ناس الجنوب؟! فالمُفارقة (الما فارقة) أنّ لحظات التراضي والكفّ عن القتل، لم تتمّ إلى في عهود العساكر. فما فعله المدنيّون الملتحون بالسياسة أفظع وأوجع: قبل الإستقلال وبعده، لم يكُ هناك سوى النكوص عن العهود، والتملّصْ من المواثيق وحلف اليمين! وللذين يحارون في أمر عمر القشير في بصمهِ على إتفاق أبوجا، وتنازله عن شرعة الإسلام من أجل إرضاء عّبَدة الأوثان، ومغلّفا خَجْلته بدستور علماني.. فالأمر جدّ بسيط: كان لا بدّ من خلع وتر مثلّث التجمّع، الحركة الشعبيّة، وقد نجح في ذلك، إذ ترنّحت الأحزاب ذات اليمين نحو اليسار؛ وذات اليسار نحو اليمين/ ليتكاتفوا.. ولكن، ضدّ مَن..؟ ما عارفين! نجح في ذاك بدرجة “دكتوراة"، بَيْدَ أنّه فاتت عليه دبارة العبيد. فما كان يحلم به، مرتكزاً على إرث الساسة المُعمّمين وبعض أصحاب النياشين الذين كانوا يبيعون الخرز للجنوبيين ويقبضوا، مُتلذذين، بسن الفيل وعظْمةِ رأس الخِرتيت وعناقيد الذهب البِزَيّغ العينين؛ مرتكزاً على تراث من الغش والخبث والمُماحكة والمداههنة وبعض رِشىً لضعاف القلوب، بأنّه في غضون خمسة سنوات سيُنسي ناس الجنوب ما في العقول وما في الجيوب! وبعد أن فاتت عليه، ها هو، ينوي الحجَّ إلى جوبا.. لتحرير العبيد من أسيادهم/العبيد! (قبل كم يوم سمعت أحدهم يقول: العالم كلّو بيقول كلمة عبيد على عينك يا تاجر.. أما نحن فبنقوله تِحت.. تحت) ظانّا أنّ هذا من الكِياسة، لا فُضّ فوك: (إيه لازم الخجل..؟!) عند سؤال الأم أو الحبّوبة أو الجد في الشمال عن سبب زُرْقة الأخ أو الخال أو الجار، يكون الجواب: البطن بطرانة.. رامين بالسؤال إلى رحم الغيب.. فمنذا الذي أبْطرَها؟!! فبالنسبة لمواطني الجنوب، أن يتبدّل، أو يتحوّل الحكم من كتف عسكريّ إلى عُمامة مدنيّ؛ فالأمر سيّان: إن أل الأمر إلى العسكر، فهم مَن يُعيّن ريس الوزارات.. وفي حالة المدنيّ، فهم من يعيّن وزير الدفاع. ولحسم هذه الغلوطيّة، قامت “الإنقاذ" بِمَدْيَنَة الجيش/أدْلجَتِهِ؛ وعَسْكَرةْ رئيس الجمهوريّة والوزراء ومدير البنك المركزي والسُعاةْ ولذا، رأينا رئيس الوزراء المُنتخب مدنيّاً، يطلّ علينا بالنُجيْماة العسكريّة! فحين يُصبح الجيش هو الحِيكُومة، فكيف يتسنّى للمعارَضة المعارِضة للنظام الحاكم، أن تدعم الجيش الذي هو حاكم.. والتي هي مُعارضتهُ؟!!! لقد كفَّ جيش السودان منذ إنقلاب البشير/الترابي عن أن يكون جيشاً وطنيّا. فمنذ إغتيال شهداء رمضان، ومنذ أن تمّ فصل أربعة آلاف ضابط وقائد، وإعتقال الكثير منهم وتعذيبهم على أيدي أبناء الدفعة، ومَن هم دون ذلك أصبح الجيش خالصاً، ومُخلصا لطغمة الإنقاذ الإسلاماويّة التي هي “الجبهة الوطنيّة الإسلاميّة" بنت “الأخوان المسلمين" الذين هم “جبهة الميثاق". إنّ التحوّل الذي تمّ بالنسبة ل"جيشنا"، مِن أن يتلوّن حسب الحاجة لكي يحكم، طاله التغيير ليمُسّ جوهره: من وطني، إلى باطني يحكم بإسم المولى عزّ وجلّ. بالنسة إلى الجنوبي..، أنّ المعارضة الشماليّة، إذ إنتقلت إلى الحكم، فهي ليست سوى إستراحة المُحارب، إلا قليلا. هناك قصّة رويْتُها عشرات المرّات، ولسوف لن أملّ عن حكْيِها: في سنوات “الديمقراطيّة" الثمانينيّة، كان إبن أختي/ قُصيْ، في فصله الثالث الإبتدائيّ، إبّان دخول جيش الحركة الشعبيّة للكرمك، وفي حصّة الجغرافيا، ذكرت لهم المعلّمة بأنّ الكرمك تقع في جنوب السودان.. فغالطها. فقالت له أن يسمع كلامها دون لجاجة. فردّ عليها: يا أستاذة، لو ما بتعرفي جغرافيا، ما بتعرفي السياسة؟ إنتي ما شايفه الزيطة والزمبريطة العاملاها الأحزاب الشماليّة اليومين ديل دعمو الجيش كي يُخرج الجنوبيين من أرضٍ شماليّة..؟!! فهل من دلالة أعمق؟ ففي ذلك الوقت، تبارزت الأحزاب الطائفيّة في دعمها المعنوي والمادي ل"جيش السودان" الذي يحمل قائده العصى، الآن، في وجه الجنوبيين. وتبرّعَ حتى الحزب الشيوعي الفقير وقتها وبعدها، بعشرة آلاف دولار لدعم الجيش الحكوماتي. * لا يُخفى أنّني أتحدّث عن المعارضة الشماليّة التقليديّة بأحزابها الثلاث. فتاريخها البعيد والقريب، في صراع الشمال/الجنوب، تاريخٌ مُخزي.. حين كانت ترفض جميع مطالب القوى الساسيّة الجنوبيّة. فهي التي تسبّبت، حاكمة/مُعارضة، بتعنّتها وتكبّرها وعُنصريّتها، في رفع سقف تلك المطالب : من فيدراليّة، إلى كونفدراليّة، إلى المطالبَة بحقّ تقرير المصير../ الذي نالوهْ! ففي التاريخ القريب، ولنفس الأسباب التعنّت والتكبّر والعنصريّة جرى صراعٌ مرير بداخل التجمّع الوطني (بالخارج) كان نتيجته أن ذهبت الحركة الشعبيّة منفردة لتوقيع نيفاشا، هذا الذي أسمته الأحزاب الشماليّة ب: الخيانة. ولكي لا نخوض في تفاصيل ذاك الصراع الكتوم، فهو يحتاج إلى مداد دونه البحرُ. فقط ، سنسأل قادة تلك الأحزاب: لماذا تفرّقت “القيادة الشرعيّة" الذراع العسكري للتجمّع، أيادي سبأ؟ ولماذا رفضتم فكرة الحركة الشعبيّة لتكوين “لواء السودان الجديد" وبدون تقديم بديل، أو تصوّر، قابلٌ للتحقّق، ل"وحدة البندقيّة"، فذهبتم إلى إرتريا أحزاباً وقبائل تُقاتل وتخوّن وتنكر بعضها بعضا؟ وأما السؤال الجدير بالإجابة عليه الآن: لماذا وقّعتم على إتفاقيّة القاهرة؟! لأنّه، لو كانت الحركة الشعبيّة قد خانت التجمّع بتوقيعها على نيفاشا فالتجمّع قد خان مواثيقه وعهوده، والتي هي خيااااانةٌ لشعوب السودان أجمع، حين وقّع؟!! ظلّت مُعارضة الأحزاب الثلاث، تردّد “الخيانة" رافعة قميص عثمان في وجه “الحركة" طيلة الفترة الإنتقاليّة. حسناً، فلو أنّ الحركة تنازلت في سبيل ضمانة نيْل حقّ تقرير المصير عن الكثير الذي يصبّ في مصلحة برامج الأحزاب/المعارَضة؛ فلماذا تنازلت هي عن كلّ ما جاء في إتفاقيّة القاهرة؟ فإنطبق المثل: أب سنينة يضحك على أب سنينتين! وُقّعت إتفاقيّة القاهرة بدون أيّ ضمانات إقليميّة أو دوليّة، بعكس ما فعلت الحركة. فراعيها كان “جهاز المخابرات المصري" بقائده عمر سليمان. لا رئيس دولة أو وزراء أو دبلوماسيّة أو يحزنون. بالمعنى الصريح، أنّها إتفاقيّة لا سياسيّة، إتفاقيّة خفر سواحل وحدود. نَسِيو أمر الدستور الإنتقالي وإعادة تشكيل الأجهزة الأمنيّة والإعلاميّة، التنمية وحريّة التعبير والإعتقاد. فيا أيّها المعارضون: خطّئوا حكومة الحركة الشعبيّة ما شئتم، طالبوها بالخروج من أيّ بقعة شماليّة بكلّ ما أعْطيْتم من قوّة، قولوا لها: أنّ البترول خطٌّ أحمر.. حتى، ولكن، لمَ تدعمون جيش الإنقاذ الجيش الذي تماهت لواءاته وكتائبه ودبّاباته وطائراته، مع الجنجويد والدبّابين.. لمَ تدعمون جيش الأخوان المسلمين، إن كنتم معارضين؟!! [email protected]