لم تبالِ إكرام أبكر بهمهمات الساخرين والمشفقين وهي ترتدي زيها الثقيل استعدادا للبدء في البحث عن ألغام أرضية دفنها عسكريون خلال سنوات الحرب المتطاولة في ولاية جنوب كردفان السودانية التي تعد واحدة من أكثر المناطق الملوثة بهذا السلاح الفتاك. تعمل إكرام (29 عاما) الآن في منطقة "الحمرا" الواقعة على بعد عشرين كيلومترا جنوب شرق كادقلي ضمن فريق (RVCT) التابع لبرنامج مكافحة الألغام الممول من "المعونة البريطانية"، حيث تعمد إلى نظافة الطرق والتحقق من خلوها من الألغام والأجسام المتفجرة قبل فتحها أمام الحركة والمشاة. وكانت "الحمرا" ساحة معارك شرسة بين الجيش السوداني والحركة الشعبية طوال حقبة التسعينيات والحرب الأخيرة التي انفجرت في 2011، وبطبيعة الحال باتت المنطقة ملوثة بالألغام وغيرها من الذخائر المتفجرة. مع تقدم محادثات السلام افتتح أخيرا سوق "السلام" في المنطقة الحدودية، وتزايدت حركة الأشخاص داخل وخارج الأراضي الخاضعة لسيطرة الحركة الشعبية. ومن أجل ضمان المرور الآمن للأفراد نشرت دائرة الأممالمتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام فريق التحقق في هذه المناطق لتطهير الطرق الملوثة. وعثر فريق الإزالة حتى الآن على تسعة ألغام أرضية مضادة للأفراد وأربعة مضادة للمركبات، وتقول إكرام إن نصيبها منها كان اكتشاف اثنين قرر الفريق تفجيرهما في موقعهما. التاريخ يسطر دخلت إكرام التاريخ كأول امرأة تعمل بمجال إزالة الألغام في السودان منذ العام الماضي، بعد أن كانت هذه المهمة مقتصرة على الرجال وبعد اجتيازهم اختبارات شاقة. واختارت الشابة خوض التجربة عن قناعة كاملة كما تقول للجزيرة نت وفضلت مواجهة مخاطر الألغام الأرضية وحماية مجتمعها في جنوب كردفان، كبادرة إنسانية في المقام الأول خاصة أن المناطق التي تعمل فيها محاطة بالحقول الملغمة ويحتاج معظم سكانها المعرفة بالمخاطر المميتة للأجسام المتفجرة بسبب عدم نشر الوعي الكافي حول طبيعة التعامل مع هذه الأسلحة المدفونة تحت الأرض. بدأت إكرام مسيرتها في إزالة الألغام بالعمل في إحدى المنظمات الإنسانية عام 2018 بكادقلي عاصمة ولاية جنوب كردفان، ضمن مشروع يهدف للتوعية بمخاطر الألغام، وتوجهت إلى منطقة "أبوكرشولا" التي شهدت في منتصف عام 2013 معارك عنيفة بين الحكومة السودانية وتحالف الجبهة الثورية. وتقول إكرام "في أبوكرشولا وجدت فريق إزالة يتبع للجنة الوطنية وبدأت العمل معه، وصادف أن فريق الإزالة كان يدرب أحدهم على الإزالة وكنت أرقبه عن بعد وأتمنى خوض التجربة". وبعد نهاية التدريب تسللت إكرام إلى المكان يسبقها حلمها الكبير وعمدت إلى ارتداء ملابس الإزالة والبدء بتطبيق الإرشادات الخاصة بكيفية اكتشاف الألغام ثم إبطال مفعولها، وحين وقع بصر أحد المشرفين على منظرها تملكته الدهشة دون أن يخفي سعادته بطموحها في الوصول إلى هذه المرحلة. وتشير إلى أن مصدر الدهشة والاستغراب في أعين الآخرين كان نابعا من قدرتها على ارتداء زي ثقيل وحمل معدات عديدة في وقت واحد، وتغلبها على كل ذلك دفع بالمشرفين في المشروع لتشجيعها، وتقديم الوعود لتمكينها من خوض تجربة إزالة الألغام. بالرغم من وجود المثبطين من همتها والراغبين في شحنها بطاقة سلبية في المشروع ذاته، فإنها لم تلتفت إلى هذه الأصوات كما تقول، فأسرتها كانت تشجعها وتحترم قراراتها على الدوام. وبعد أيام من كشف رغبتها واستعدادها الكبير لخوض غمار التجربة الخطرة، وبالتزامن مع اليوم العالمي لمكافحة الألغام الذي يصادف الرابع من أبريل في كل عام، تبنى مدير المشروع رغبة إكرام وقرر تدريبها بشكل عملي على عمليات الإزالة. وتضيف أنه بعد ذلك استخف الكثيرون بالأمر وراهنوا على عدم قدرتها على العمل في هذا المجال، بل واعتبره البعض بدعة، وأن المرأة دورها محصور في التوعية ولن تنجح في الإزالة، وظلوا يحاولون إقناعها بالعدول عن الفكرة، لكنها كانت في كل يوم تتعلق برغبتها أكثر وتمضي في التدريب بسرعة واستيعاب عال إلى أن اجتازت كل الاختبارات، على حد قولها. تحدي الصعاب تعترف إكرام بأنها واجهت مصاعب كثيرة في بداية الأمر، بينها إلزامية ارتداء الحذاء الضخم ثقيل الوزن، كما أن عليها وضع واقٍ على الرأس وحمل جهاز الكشف بإحدى اليدين بجانب دلو وحقيبة، ثم الاضطرار في بعض الأحيان للمشي مسافات طويلة جدا، بخلاف عملها الميداني على الحقل حيث عليها تحديد المنطقة الآمنة التي ستقف عليها قبل أن تشرع في عملية البحث عن المتفجرات، لكن كل تلك المتاعب كما تقول لم تزعزع طموحها. تزيل إكرام الآن الألغام من الطرق لتنقذ الأرواح وتمهد الطريق أمام وصول المساعدات الإنسانية والتنموية، وهي طموحة للغاية ولديها خطط لتمكين النساء الأخريات في مجتمعها لدعم هدف السودان لخلو الألغام الأرضية بحلول عام 2023. كفاح للوفاء بالعهد الدولي بحسب الاتفاقية الدولية لمكافحة الألغام، فإن السودان كان يفترض أن يعلن خلوه من الألغام الأرضية بحلول أبريل من عام 2014، لكن تفجر الصراع في النيل الأزرق وجنوب كردفان، جعل من الصعوبة الإيفاء بالالتزام، وتم تمديد المهلة حتى 2019 ولم يفلح أيضا في تنظيف أراضيه ليعطي مهلة إضافية تنتهي في 2023. ومع ذلك ما زالت الشكوك تحيط بإمكانية الإيفاء بهذا التعهد الرهين بتحقق الأمن في مناطق النزاع المسلح وتوفر دعم المانحين الدوليين لعمليات المكافحة المعروف بأنها باهظة التكاليف. وبسبب مواسم الأمطار الطويلة في عامي 2018 و2019 تأخرت عمليات التثقيف والمسح وإزالة الألغام، وعلى الرغم من ذلك حقق البرنامج تقدما كبيرا، واعتبارا من نهاية سبتمبر 2019 نجح في تطهير 24 كيلومترا من أصل مئة كيلومتر المستهدفة من الطرق ذات الأولوية لإيصال المساعدات الإنسانية، مع إيصال برامج توعوية بمخاطر الألغام إلى أكثر من 47 ألف شخص من أصل مئتي ألف مستهدف.