عادل إبراهيم حمد كاتب سوداني [email protected] عاد حزب المؤتمر الوطني إلى التفاوض مع قطاع الشمال. أي إلى المربع الذي نكص عنه بعد رفض المكتب القيادي للاتفاق الإطاري الموقع في 29 يونيو من العام الماضي بين الدكتور نافع علي نافع القيادي المعروف في الحزب والسيد مالك عقار رئيس الحركة الشعبية بقطاع الشمال. ورغم أن الاتفاق الإطاري أشار بطريقة فضفاضة إلى حقوق يكفلها النظام الديمقراطي للحركة الشعبية. لكن مرارات الحرب بين الجيش والحركة الشعبية كانت وراء عدم تطوير الإطاري إلى اتفاق نهائي ينظم وضع الحركة الشعبية بعد انفصال الجنوب وانتقالها النهائي من العمل العسكري إلى العمل السياسي. لم يكن صعباً على الرئيس البشير استصدار أمر من المكتب القيادي للمؤتمر الوطني. فالسودان كغيره من دول العالم الثالث لم ترسخ فيه الممارسة المؤسسية. وقد ألغى الرئيس بالفعل الاتفاق في خطبة بمسجد النور قبل انعقاد المكتب. ثم منح القرار غطاء تنظيمياً بعقد اجتماع لا ينتظر منه رفض قرار رئيس الحزب (قائد الجيش). وقد كانت الصفة الأخيرة هي الحاسمة لإسكات أي صوت قد يدافع عن الاتفاق الإطاري. وبعد عام من الرفض أزهقت فيه أرواح وأريقت دماء واستنزفت موارد بعث الاتفاق الإطاري من جديد. إذ لم يصمد منطق القوة العسكرية لأكثر من عام في مواجهة المنطق السياسي. الجيش في السياسة السودانية لاعب أساسي. وله صنو يشاركه في هذه الصفة وأعني الطائفة. فقد لعب هذان الكيانان أدواراً خطيرة ولا تخلو من إثارة، حيث إن الجيش من تنظيمات الدولة الحديثة. بينما تصنف الطائفة ضمن الكيانات التقليدية. لكن الاثنين كانا أذرعاً للحزبية وتضخمت هذه الأذرع حتى صعب التمييز بين الأصل والذراع. نشأت الأحزاب في السودان في أربعينيات القرن الماضي من طلائع مثقفة أدركت ضرورة البعد الجماهيري للحزب. فلجأت لطائفتي الختمية والأنصار. وفي ميدان آخر رفضت الطلائع المثقفة من العقائديين الاستعانة بالطائفية. ولما فشل العقائديون في التمدد جماهيرياً لجؤوا إلى تنظيم أكثر جاهزية ويتفوق على الطائفة بحسن التنظيم وبالقوة المادية المباشرة، هو الجيش. فلجأ اليسار للجيش في انقلاب مايو 69 ولجأ الإسلاميون للجيش في انقلاب يونيو 89. قد يبدو من هذا العرض المبسط أن الأحزاب اعتمدت بالكامل على الكتلة الجاهزة. لكن هذا تعميم يظلم الأحزاب الجماهيرية. ولا بد من التمييز بين الاستعانة بالطائفة والاستعانة بالجيش. فرغم أن الكيانين غير أصيلين في التركيبة الحزبية لكن الطائفتين -رغم عللهما- ارتبطتا بتحالف حزبي في إطار حكم ديمقراطي بينما ارتبط التحالف مع الجيش بالقهر وإجراءات التعسف من اعتقال وتشريد وتصفيات. ولم تشفع تبريرات الحسم والقفز فوق التلكؤ والبطء الذي يصاحب العملية الديمقراطية. فقد ثبت بالتجربة أن البطء الديمقراطي لازم لضمان القرار المتروي السليم. بينما يرتبط الحسم الثوري بالتهور الذي أفضى إلى قرارات جرت على البلاد مصائب كبيرة. وبالمقارنة أيضاً لم يلغ التحالف الطائفي الحزبي دور الطليعة المثقفة في الحزب خاصة في الحركة الاتحادية فقد كان إسماعيل الأزهري ورفاقه أصحاب الكلمة العليا في الحزب بل تفوق الاتحاديون على طائفة الختمية لما حاول السيد علي الميرغني اختبار قوته الفردية بإنشاء حزب مستقل. ولم يكن السيد عبدالرحمن يتغول كثيراً على حركة المثقفين الاستقلاليين في حزب الأمة. باستعراض محطات بارزة كان للطائفة أو الجيش فيها حضور طاغ. نجد الحضور الأبرز لطائفة الأنصار في أحداث مارس 1954 حين حاول الحزب عبر الطائفة إرسال رسالة في استقبال الرئيس المصري محمد نجيب مفادها أن الانتخابات البرلمانية الأولى التي اكتسحها الاتحاديون لا تعبر عن إجماع سوداني حول الاتحاد مع مصر. وكانت أحداث مارس الدامية التي لا يمكن أن تقدم عليها غير كتلة صماء. أما الكيان الآخر، أي الجيش، فقد كان تدخله الأول بانقلاب نوفمبر 1958 قاطعاً الطريق أمام إسماعيل الأزهري للعودة لرئاسة الحكومة. ولعل المثير في انقلاب نوفمبر أنه قد جسد تحالفاً بين الجيش والطائفية. تبلغ الإثارة مداها الأقصى حين يتصادم الكيانان. حدث ذلك لأول مرة في مواجهة محدودة بين الأنصار والجيش خلال عهد نوفمبر فيما عرف بأحداث المولد لكن المواجهة الأخطر كانت بين إمام الأنصار الهادي المهدي ونظام مايو حيث كانت الغلبة للآلة العسكرية المحترفة. أما طائفة الختمية فقد دعمت حزب الشعب الديمقراطي الذي استمد بعده الجماهيري من هذه الطائفة بينما مثل القوميون العرب واجهته السياسية. لكن الحزب لم يحقق التفوق على الوطني الاتحادي فاضطر إلى العودة إلى الحزب الأصل تحت مسمى الاتحادي الديمقراطي. ورغم أن الختمية لم يعرفوا بالمخاشنة لكن حزب الشعب الديمقراطي استغل طاعة الطائفة العمياء في أحداث دامية محدودة حين أطاع بعض أفراد الطائفة الأوامر بالهجوم على مراكز انتخابية في انتخابات 1965 بالهجوم على بعض المراكز الانتخابية تعزيزاً لدعوة مقاطعة الانتخابات. وقد وجدت الطائفة مساحة أكبر للتحرك السياسي بعد وصول مرشد الطريقة الختمية محمد عثمان الميرغني لزعامة الحزب الاتحادي ففقد الحزب خطه التحرري التاريخي الذي عرف به. يمكن القول إن الطائفة لا يمكن أن تمنح دعمها الجماهيري بلا مقابل كما أن الجيش لا يمكن أن يمنح دعمه العسكري بلا مقابل. لكن التجربة تقول إن التنازل الذي يقدمه الساسة للطائفة في مقابل دعمها أقل بكثير من التنازل الذي يقدم للجيش. ولكن هل كتب على السودان أن يبحث عن أخف الضررين أم إن في الإمكان تجاوز الطائفة والجيش. وبسؤال مباشر: هل يمكن أن تبنى الحزبية في السودان بلا حاجة المضطر للجيش أو الطائفة؟ يمكن أن نجيب ب(نعم) وبلا تحفظ.. فقد انتشر التعليم وارتفع كثيراً مستوى الوعي. وإذا أمكن للأزهري أن يواجه في الخمسينيات تحالف طائفتي الختمية والأنصار، فإن القوى الحديثة يمكنها الآن إذا أحسنت تنظيمها أن تنتظم في تيار حداثي مستنير يتجاوز الأطر التقليدية التي فقدت موضوعياً أسباب بقائها كما افتقدت ألقاً تاريخياً ارتبط بزعامات سابقة. أما الجيش فإنه كثيراً ما يبرئ نفسه من تهمة التدخل في ما لا يعنيه بالقول إن الجيش لم يتدخل في السياسة إلا بإيعاز من الساسة. وهذا يعني أن التوافق بين كل القوى السياسية على اعتماد التداول السلمي للسلطة هو المخرج الوحيد من هذا المأزق. وقد يعين على ذلك (ندم) كل من استعان بالجيش على هذه الخطوة بعد أن أذاق العسكر الساسة الذين استعانوا بالجيش الأمرين. ويكفي أن نشير إلى مصير الحزب الشيوعي والحركة الإسلامية على يد العسكريين الذين لم يرضوا بدور ثانوي خلف السياسيين فقفزوا إلى المقدمة تدعمهم القوة ثم القوة.