عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأملات في الوضع السياسي الراهن: نكون أو لا نكون؟ ومن يملك القرار؟
نشر في الراكوبة يوم 15 - 12 - 2011


تأملات في الوضع السياسي الراهن 1-4
د. عبد الرحمن السلمابي
[email protected]
تأملات في الوضع السياسي الراهن: نكون أو لا نكون؟ ومن يملك القرار؟
\"المسؤولية الوطنية\" كما صرح السيد/ محمد عثمان الميرغني هي التي حتمت على مرشد الطريقة الختمية ورئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل ضرورة المشاركة في حكومة \"القاعدة العريضة\" التي دعى لها حزب المؤتمر الوطني الحاكم بهذا المسمي وجادلهم الآخرون حتى في مسماها من حيث \"قاعدة عريضة\" أو \"قومية\" بالرغم من أن المغزي واحد وهي أن تكون حكومة تشمل كل الأطياف السياسية في هذا البلد في منظومة تخدم المصالح الوطنية والقومية وتحقق تطلعات وآمال كافة أفراد الشعب السوداني المتباينة وتواجه التحديات الداخلية والمؤامرات الخارجية وتحافظ على ما تبقى من دولة السودان بحيث نكون أو لا نكون.
عموماً علماء السياسة والقانون يعرفون مصطلح \"الدولة\" بأنها الرقعة الجغرافية من الأرض التي لها حدود معلومة ومعترف بها دولياً في غير تنازع على ملكيتها ويقطنها شعب يعيش فيها بسلام وفق تنظيمات إدارية وسياسية يكون على رأسها حاكم يرتضونه وبالطبع معه معية حكومية تساعده لتحقيق مصالح وتطلعات كافة أفراد الشعب المتضاربة في أمن وسلام وعدل. وهذا المفهوم الاصطلاحي والمثالى للدولة هي غاية يصعب الوصول اليها حيث هي عبارة عن معادلة تناقض معطياتها ويصعب فهمها للكافة وتحتاج الي ردح طويل من الزمن للوصول اليها وكذلك تجارب حكم مختلفة الصيغ والأنماط. وما زالت حتى الدول الأكثر عراقة وتجارباً وخبراتاً في أوروبا وأمريكا لم تصل إليه بعد.
لقد كان قدرنا في حوالي بدايات القرن الماضي أن يقوم المستعمر البريطاني بتحديد معالم الأرض التي عرفها بالسودان والتي كانت من مجمل ممتلكات الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس في مشارق ومغارب الكرة الارضية. ولتسهيل إدارة تلك المستعمرات أطلق على هذا الجزء الأفريقي إسم السودان بمساحة تقارب المليون ميل مربع.أما الشعب الذي يقطن تلك الرقعة الإدارية فهو \"شعوب\" أو مجموعه قبائل متباينة الأعراق الجنسية والسحنات واللغات والثقافات والديانات تقارب الستمائة (600) قبيلة تنتمي الي حوالي عشرين (20) عرق بشرى مختلف. فنجد في أقصى شماله قبائل النوبيين وفي أقصى جنوبه قبائل الزاندي وفي أقصى شرقه قبائل البجا وفي غربه قبائل الفورو غيرهم، كما عبر عن ذلك الاستاذ/ محمد أحمد المحجوب رئيس الوزراء الأسبق بحديثه الساخر عند قيام ثورة 25 مايو 1969 وإزاحته من رئاسة الحكومة واعتقاله في منزله. لقد تم الانقلاب العسكري ذلك بقيادة العقيد آنذاك جعفر نميري ورفاقه من صغار الضباط الذين معظمهم برتبه \"رائد\". وكانت الأقدار أن معظم اولئك ممن كان يعرفهم المحجوب شخصياً والقليل منهم من أبناء أهله من الهاشماب. حيث كان هو الذي \"توسط\" لهم بنفسه للدخول للكلية الحربية وفقاً لرغباتهم و شهاداتهم.
ثم لاحقاً إتصل بالمحجوب بعض من السياسيين الذين كانوا يشاركونه الحكم الديمقراطي بضرورة الحراك والمقاومة لضحد ذلك الانقلاب العسكري واستعادة الديمقراطية. فذكر لهم أنه لا يرغب في فعل شيء اكثر من المكوث في حبسه المنزلي وإكمال كتابة كتبه، وإذا ما اشتد عليه المرض سوف يطلب من هولاء القاده الجدد السماح له بالذهاب الي بريطانيا وقد يعود منها في صندوق مودعاً هذه الدنيا الفانيه.
وقد تعجب الكثيرون من زملائه من ذلك اليأس. فذكر لهم أنه اجتهد جداً فى حياته ودرس الهندسة وعمل مهندساً في معظم بقاع السودان، ثم عاد للجامعة ودرس القانون وعمل في القضاء ثم في المحاماة وجاب البقية الباقية من السودان ولم يجد قاسماً مشتركاً أوحد يجمع كل هذه القبائل- مثل اللغة أو اللون أو الثقافة او الدين أو غيره- وكان له أمل أن يعمل في السياسة محاولاً إيجاد قاسماً مشتركاً يوحد تلك القبائل، وانضم لحزب الأمة وطائفة الانصار لعلها مع طائفة الختمية ومن معها من الطوائف الدينية المختلفه أن يعملوا على حكم هذا البلد. ويعتقد أنه بالرغم من محاولته تلك -وهو شخص من المفكرين والسياسيين الأفذاذ- أتى اليهم ذلك الانقلاب الذي جل قادته من صغار الضباط المفتونين بالأفكار الشيوعية والاشتراكية والقومية العربية وغيرها من الأفكار الدخيلة والرائجة آنذاك وسط الكثير من أبناء الطبقة الأمدرمانية المثقفة.
لقد تنبأ لهم بالفشل آنذاك وبالفعل فشلت مايو الأولى في غضون عامين عبر انقلاب الرائد هاشم العطا ورفاقه الذي حكم السودان لمدة ثلاثة أيام فقط، ثم حدث الانقلاب المضاد من الرئيس جعفر نميري الذي نجح في تعديل المسار الفكري لمايو واستمر لمدة 16 عاماً بعد أن عضدد حكمه بالاتفاق مع الحزبين اللذان كان يطلق عليهما إبتدأً بالرجعية والطائفية و يصدح بالتقدمية و الثورية ضدهما.
بالطبع أن المفاهيم التي تدور حول الشيوعية اوالاشتراكية تحتاج الي شعوب لديها درجة عالية من التعليم والوعي الفكري والحضري و ليست لشعب درجة الامية فيه تكاد تصل الي 95% وقبائله رعوية أو زراعية، فكارل ماركس نفسه تنبأ بإنتشار تلك المفاهيم في الدول الصناعية الكبرى ذات الوعي والتعليم العالي و التحضر المدنى.
لقد فشلت مايو \"الأولى\" لعدم تطابق ما تدعو اليه من أفكار مع أفكار واقع المجتمع السوداني بتركيبتة القبيلة \"أو الشعبية\" و نشاطه الزراعى و الرعوى وبالتالي لم تسهم تلك المفاهيم فى إيجاد القاسم المشترك الذي الذي يوحد هذا الشعب المتباين. ثم رجع نميري في مايو الثانية الي \"الرجعية\" \"المرجعية\" التي يمكن أن تساعده في تجميع هذا الشعب في مرجعية ذات قاسم مشترك وهذا هو ربما يكون \"فردوس\" المحجوب \"المفقود\" في السياسة السودانية.
لقد كان لنا فرصه توجيه سؤال في برنامج مجهر سونا قبيل الانتخابات السودانية في أبريل 2010 للدكتور لام أكول باعتباره مرشح الرئاسة لحكومة جنوب السودان الموحد آنذاك، وذكرنا له أن من الأسباب التي عددها الدكتور سالم أحمد سالم لفشل الديمقراطية في أفريقيا تكمن في أن الأحزاب السياسية لم تكن مبنية على أساس فكري متطور ولكن على أساس تجمعات قبلية أو طائفية دينية. لقد تحدث الدكتور لام أكول مؤمناً على ذلك ولكنه ذكر بأن الطائفية الدينية أفضل من القبلية لأنها تذوب مفهوم القبلية بداخلها.وقد يفهم من حديثه أن السودان الشمالي أفضل تطوراً بطوائفه الدينية في سلم الوصول الى الأحزاب الديمقراطية الفكرية المتطورة الحديثة كما فى العالم الغربى.
وإذا تفكرنا بعمق فى هذا الحديث من ذلك المفكر السياسي نجد أن ما ذهب اليه المحجوب بانتمائه لحزب الامة والذي يتبع لطائفة الأنصار كان صحيحاً. وكذلك كل من كان معه أنذاك من المستنيرين رفقائه فى حزبه او غرمائه من الذين ينتمون لحزب الشعب الديمقراطي والذي يتبع لطائفة الختمية (والذى إتحد او إندمج مع الحزب الوطنى الاتحادي مكوناً ما يعرف بالحزب الاتحادي الديمقراطي).
وبالتأمل نجد أن الغالبية العظمي لمجموعة قبائل النيل الأبيض وغرب السودان ينتمون الي حزب الأمة وكذلك الغالبية العظمى لقبائل شرق وشمال السودان ينتمون الي الحزب الاتحادي الديمقراطي (اللاحق) والذي انضمت اليه أيضاً طائفة الطريقة الهندية (أتباع الشريف يوسف الهندي) في وسط السودان. وبالتمعن أكثر نجد أن الإمام محمد أحمد المهدي مؤسس طائفة الأنصار و مفجر الثورة المهدية تحالف مع كثير من الطرق الصوفية المختلفة في السودان و من ثم فجر الثورة في وجة المستعمر التركي بنجاح في عام 1885م.
إذاً المحجوب ورفاقه او غرمائه الوطنيون ربما أدركوا حقيقة أن القاسم المشترك لحكم الشمال هو الإسلام الطائفى (الصوفي) كقاعدة عريضة تضم قبائل السودان المختلفة ومرحلة أكثر تطوراً تبعد الشعب عن مفهوم التشرزم او التكتل القبلى كمخرج لتطوير الأحزاب و تحقيق الديمقراطية الفكرية اللاحقه. وقد ساعد على ذلك التفهم العالي للسيدين (السيد/ عبد الرحمن المهدي والسيد/ على الميرغني) لأدوارهما الاجتماعية والسياسية والمصلحة الوطنية. و هذا بلاشك كان له دوراً كبيراً في الحفاظ على كيان دولة السودان. وقد كان لهما أيضاً رؤى ثاقبة في محاولتهما لاستقطاب أتباع الطرق الصوفية المختلفة لحزبيهما ودور محوري لجذب المثقفين والسياسيين بغرض المساعده فى لعب الأدوار السياسية المختلفة. وقد خطط البريطانيون أصلاً لعزل الجنوب بما لا يسمح لجعل الإسلام (اي كان صوفي أو خلافة) ليكون قاسم وحدة مشترك مما أعجز كل الحكومات السودانية المتعاقبة لإحتواء أزمة المطالبه المستمره لفصل جنوب السودان عن شماله.
إذاً أن الطائفة الدينية ذات البعد الإجتماعى و التي تحولت الي أحزاب سياسية صارت متأصلة في الشعب السوداني وبديل أفضل من التشرزم القبلي للعدد الوافر من قبائل السودان المختلفة. لقد نجد أن بزوغ وانتشار طائفة الختمية في شمال وشرق السودان صار من الثقافات الاجتماعية في تلك المجتمعات. وقد نجد بعض الأدله متمثله في أسماء الأفراد قاطني تلك المناطق وخصوصا ً للمواليد ما بين عام 1930 حتى 1980م حيث تكثر فيها وسطهم أسماء أقطاب وشيوخ الطريقة الختمية مثل محمد الحسن، محمد عثمان أو حسن وعثمان وعلى ومحجوب وسر الختم وإسماعيل وخليفة ومصطفي وغيرهم كدليل على انتمائهم لتلك الطريقة. وقد يكون الاسم الأول او التانى او حتى الثالث دلالة على قدم المريدين مثل مصطفي عثمان إسماعيل، أو محمد عثمان محجوب، او مصطفي \"ساتي\" أو على \"أرباب\"، أو محمد عثمان \"همرور\" أو محمد الحسن \"أوهاج\" . وحتى أسماء كريماتهم مثل ست/مريم، ست/علوية ، ست/نور ، ست/زينب و غيرهم من الأسماء تسمى تيمناً باسماء امهات او كريمات أقطاب الختمية. ونفس الحال بالنسبة لطائفة الأنصار فنجد في اتباعهم أسماء لرموز تلك الطائفة مثل المهدي، بشري، الفاضل، عبدالرحمن، الصادق، الصديق، الهادي، يحي أو حتى \"الأنصاري\". وكذلك تيمناً بأسماء كريماتهم مثل ، مقبولة وصديقة والطاهرة والتى هى إسم باخره الإمام عبدالرحمن وغيرهم من الأسماء.
علماَ بأن هذا النهج قد نجده أيضاً في أتباع ومريدي الطرق الصوفية الأخرى والي هي أيضا تدير تحالفاً مع إحدى تلك الطائفتين مثل الطريقة الهندية فنجد اسم محمد الأمين ويوسف وحسين والصديق، والطريقة القادرية مثل جيلاني وعبد القادر، واسم الريح و ابوشراء عند العركيين وفى الطريقة الخاتمية السمانية في كركوج نجد اسم الخاتم ومحمد الأمين وطه النور، و إسم الشيخ حامد \"أبوعاصاة سيف\" عند العمراب وهكذا.
والملاحظة الثانية ليست فقط في تشبه اتباع الطائفتين بأسماء أئمتهم أومرشديهم بل حتى في أنماط اللبس والزي. فالأنصار يرتدون العراقي (على الله) والجلابية الانصارية والمركوب \"الجزيرة أبا\" والطاقية (الحربة) ولديهم لفة عمامة بطريقة تميزهم ويتدلي جزء منها خلف الرقبة(عزبه). أما الختمية فلديهم الجلابية (أم لياقة) المشابه للجلابية السعودية وكذلك لفة عمامة بطريقة معينة. والملاحظ أن معظم منتسبي الطرق الصوفية الأخرى لديهم من اللبس ما يميزهم عن غيرهم كدلالة للإنتماء وتعتبر كظواهر اجتماعية تحولت إلى عادات تعود عليها الناس.
وقد نستشف من ذلك أن أحزاب الطائفية السياسية لديها جذور ضاربة القدم في أعماق ووجدان الشعب السوداني وأنه بعد حوالي 6 أعوام من حكم الفريق عبود عادت كقوة سياسية حزبية فى عام 1965 ، علماً بأن الفريق عبود نفسه من أسرة ختمية ولديه ابن يدعى \"سر الختم\". وكذلك بعد 16 عاماً من حكم النميري عادت مرة أخرى فى عام 1986، علماً بأن النميري نفسه ينتمي لأسرة أنصارية وللسيد/ عبد الرحمن والسيد/ الصديق لديهم أفضال عليه مثل مساعدته لدخول الكلية الحربية وإعادته بعد فصله من الجيش السوداني. وكذلك المشير سوار الدهب من أسرة تنتمي لطائفة الختمية.
عموماً ما أفرزته كل الانتخابات الديمقراطية (عدا عام 1953م) كانت أقل من أن تسمح بالحصول على الغالبية النسبية المطلوبة للأنفراد بالحكم لطائفة من تلك الطائفتين ومن ولاهم والتي آخرها في عام 1986م. والملاحظة المهمة هي أن طائفة الأنصار وطائفة الختمية هي طوائف ذات عمق ديني اجتماعي أكثر من عمق سياسي حيث وجدتا أن مسئوليتهما الوطنية تحتم عليهما الولوج في السياسة والحكم فاستعانت بأهله السياسة من الوطنيين لممارسة المهام السياسية بأسمهم وكان لهم دور الرقابة والإرشاد والتوجيه.
ولكن في انتخابات عام 1986م ظهرت الجبهة الإسلامية القومية كحزب إسلامي ذو بعد سياسي مكون من أطياف الطبقة المستنيرة (او الصفوه او النخبه) في المجتمع ومعظمهم متأثرين بأطروحات الشيخ حسن البنا وسيد قطب، ومحمد الغزالي، وأبو الأعلى المودودي، ومالك بن نبي...إلخ، حيث أخذت معظم أفكارها الأصولية من حركة الإخوان المسلمين فى مصر التى انبثقت منها، واستقطبت بعض القوى الإسلامية في السودان لتكوين جبهة واحدة ضد الأحزاب الأخرى. ثم بدأت تنحو منحاً بعيداً نسبيًّا عن منهج الإخوان المسلمين حيث كان موقف الحركة من الحرية والسلطة موقفاً وسطاً، فقد رحبت بالنظام الديمقراطي التعددي على عِلاَّته. عموماً فكرها مرتبط بالهوية الإسلامية، والبعد عن الانتماء إلى الولاءات الأخرى و كذلك إحياء لمجد الإسلام، وذلك بإتمام الدين وإقامة جوانبه التي أُميتت أو ضعفت حسب رؤيتهم. وقد ظهرت كبديل منافس للأحزاب الطائفية التي يغلب عليها الطابع الاجتماعي. وقد كان تمحورهم حول أطروحات الشيخ حسن الترابي كرمز للمفاهيم الإسلامية الحديثة حيث انه استنار في علوم الدنيا فى أوربا واجتهد وتفقه في علوم الدين ونجح في أن يجعل منهم الحزب الثالث في السودان. و قد تاثرت الجبهة الإسلامية القومية كثيراً من فكر التنظيم الأوروبي وتجاربه، فهو فكر إداري متقدم جدًّا كما يقول الترابي ولكنه ليس بديلاً للفكر الإسلامي. وقاد الشيخ حسن الترابي الحركة الإسلامية في السودان منذ الستينات كمراقب عام للإخوان المسلمين تم كان من المؤسسيين لجبهة الميثاق الإسلامي والجبهة الإسلامية القومية. و اختير كأمين عام لجبهة الميثاق الإسلامي 1964م 1969م والجبهة الإسلامية القومية 1985 1989م. والشيخ حسن الترابي نفسه سليل أسرة الشيخ الصوفي حمد النحلان في ود الترابي وهي أسرة دينية تمارس الإسلام من منظور إجتماعي ولها موالاة مع طائفة الختمية نفسها.
لذلك نجده ساهم فى وضع استراتيجية استيعاب المجتمع، ومنافسة الأحزاب التقليدية ذات الولاء الجماهيري العريض. وفي هذا السبيل بدَّلت لوائح العضوية، فتجاوزت منهج الانتقاء الفردي، وأصبح متاحاً للناس أن يدخلوا في الجماعة أفواجاً لا أفراداً؛ فقد تدخل القبيلة والطائفة والفرقة كما يدخل الأفراد ولا يترتب عليهم في ذلك أدنى حرج، حتى لو دخلوا بما يحملون من ولاءات فرعية في الطرق الصوفية أو القبائل أو الأحزاب الفكرية والسياسية، إذا جعلوا الولاء الأعلى للجبهة الإسلامية التى تحولت الى حزب المؤتمر الوطنى لاحقاً.
وعليهً ربما لأن حزب الجبهة الإسلامية القومية هي أصلاً حركة الإسلام السياسي بينما طائفة الأنصار و طائفة الختمية والطرق الصوفية المختلفة من دعاة الإسلام الاجتماعي التي وجدت نفسها في المعترك السياسي حيث هذا الإختلاف فى النشأه و التكوين قد يتبعه تباينات فى اساليب الممارسات و الأهداف السياسية .
وهنالك بعض من الكتاب وصفوا الجبهة الإسلامية القومية (الحركة الإسلامية) بأنها نفسها صارت طائفة دينية جديدة ولها شيخها وهو الدكتور الترابي بينما الآخرين صاروا حواري له ويأتمرون بأمره ورجاحة عقله وفكره . ولكن قد يكون هذا الوصف قد جانبه الصواب من حيث أنه حزب سياسي (أو حركة سياسية) والتي تعني أنها ترغب في الوصول الى الحكم لنشر الأفكار الإسلامية الحديثة بعيداً عن مفهوم التبعية الصوفية العمياء لشيوخ الطوائف الدينية الاخرى، وأن كل أتباعها من الصفوة المتعلمة تعليماً عالياً وبدرجة أن معدل الذكاء الجمعي لهم قد يفوق معدل المجتمع السوداني التابع للطوائف الدينية المختلفة من حيث أعداد حملة الدرجات الجامعية و ما فوقها.
عموماً نجحت \"الحركة الإسلامية\" بمسمياتها المختلفة في تولى السلطة عبر انقلاب عسكرى يقوده البشير عام 1989م، والذي استمر حتى عام 1999م بمفهوم الزعامة الفعلية للشيخ حسن الترابي ثم حدثت المفاصلة الشهيرة ومن ثم انعدم تأثيره المباشر في الأحداث السياسية. وقد كتب عن تلك المفاصلة ما كتب. ولكن السؤال الأهم هل هنالك قداسة مع السياسة في حزب ذو بعد سياسي إسلامي؟ ولكن بالطبع قد تكون هنالك قداسة مع الاسلام الاجتماعي والاحزاب ذات هذا البعد وهو فرق كبير. لقد نجد الأن أن بعض خلفاء الختمية الكبار والمقربين من السيد/ محمد عثمان قد اختلفوا معه سياسياً في أمر المشاركة فى الحكم ولكنهم قطعاً لم ولن يتركوا مذهبهم الختمي الذي هو مرشده.
بالمقابل لقد عز على الكثير من الإسلاميين التخلي عن مرشدهم الديني الشيخ حسن الترابي وطلبوا منه التخلي عن الدور السياسي ولكن ذلك صعب المنال لتركيبة الحركة الإسلامية السياسية التي لا يمكن الفصل فيها ما بين الدين والدولة حيث هما عبارة عن وجهان لعملة واحدة. عموماً مفهوم ولاية \"الفقيه\" كما تم تطبيقها في إيران نجحت الي حد ما في الفصل ما بين أدوار فقهاء وعلماء الدين وممارسي السياسة البراغاماتية اليومية. حيث صار الآن الشائع هو ولاية \"العلماء\" اى المختصيين و االمتخصصين فى ضرب من ضروب العلوم الدينية أو الدنيوية.
والسؤال الذي يطرح نفسه في أن نكون أو لا نكون كدولة هو الأهم. فبعد حوالي 22 عاماً من الحكم سعى القائمون على الأمر لتكوين حكومة ذات قاعدة عريضة تضم كل الأحزاب السياسية (الإ من أبى) والتي بالتأكيد تشمل حزب الأمة (وطائفة الانصار) و مشتقاته والاتحادي الديمقراطي (وطائفة الختمية من والاهم من الطوائف الدينية ذات البعد الاجتماعي) و مشتقاته. والدعوة هذه ربما تكن عن إدراك أن هذا الشعب بتركيبته الاجتماعية يصعب تغيير مفاهيمه السياسية. وقد يكون نتيجة القناعات بأن الأحزاب الطائفية هي مرحلة أفضل من التشرزم القبلي الماثل الآن. حيث أن الحركة الاسلامية قد قادها الصراع الداخلي إلي بزوغ القبلية مجدداً حيث لابد من تذويبها بكيفية \"ما\" للمحافظة علي وحدة ما تبقى من هذا الوطن.
و تبقى الأسئلة المهمة: هل هذا الشعب السودانى بتركيبته الاجتماعية و السكانية يصعب تغيير مفاهيمه السياسية مما يحتم تقبل التعامل مع الأحزاب الطائفية مجدداً ؟ و هل الأحزاب الطائفية نجحت فى تذويب التشرزم القبلي؟ و هل إنشقاق المؤتمر الوطنى (الحركة الاسلامية) أفضت إلى تغير فى منهجيه الإسلام السياسى كبديل للإسلام الإجتماعى؟
نستكمل في يوم الأحد القادم إن شاء الله


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.