لرمضان في القاهرة طعم وشكل ولون ورائحة...لم أنس يوماً تلك الطقوس عندما كنت صغيرة وأنا أطرق باب الجيران لأجمع وصديقاتي إسهاماتهم في الزينة والأنوار والفوانيس التي نذهب لشرائها أنا ومن ثم يعلقها شباب المنطقة ونقف نحن الفتيات في الشرفة المطلة على الشارع لنربط معهم أسلاكها في سور (البلكونة) ، وما أن تضئ هذه الأنوار حتى نصفق ونغني وحوي يا وحوي واهلا رمضان ، وبعد انتهاء صلاة التراويح كنت التقي بأصدقائي ثم أذهب للسهر في الحسين حيث رمضان في طقس مختلف بكل ما تحمل الكلمة من معنى الفوانيس منتشرة في كل أرجاء المكان ، وبائعو (العرقسوس والسوبيا) هنا وهناك ، والمقاهي التي يسهر روادها سمراً على أنغام الأغنيات القديمة لعبد الحليم حافظ والست أم كلثوم ، ونبض الكلمات لشعراء شباب وكبار يلقون قصائدهم على مسامع الناس ، والباعة الجائلون يتنقلون بين الطاولات (فل يابيه..فل يا هانم..من غير فلوس خالص..خد فكرة وتعالي بكرة). كان هذا رمضان الذي أحبه وأعرفه في مصر وكعادتي لا أستطيع قضاء رمضان إلا هناك حيث ولدت وترعرت على هذه الثقافة الحياتية التي تميز مصر دون بلدان العالم أجمع..! سافرت قبل رمضان بأيام قليلة لكن رمضان هذه المرة كان على غير ما اعتدت عليه ، تمنيت لو لم أشهد هذا اليوم أبداً الذي استيقظ فيه وأجد القاهرة وكأنها مدينة أخرى لا أعرفها ضاقت بي رغم اتساعها كان الطقس حاراً حد الغليان ، والرطوبة خانقة ، أما الجو العام فكان ساكناً رغم الزحام ، وجوه الناس حائرة ..وأعينهم تسأل ألف ألف سؤال في صمت ..أين نحن؟ وماذا جرى لبلادنا؟ ومتى ستنتهي هذه الفوضى؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟؟ لكن ما من مجيب...!؟؟ ، ذهبت يوماً لأسير ليلاً كما أحب دوماً في كورنيش النيل حيث مشاهد المحبين والعشاق و(جروبات ) الأصدقاء وبائعي الذرة المشوي والترمس والزهور والحلبة ، أعجبني منظر شاب عشريني مع حبيبته يجلسان في ركن قصي يغني لها وهو يعزف على الجيتار أما هي كانت ابتسامتها مشرقة عيناها حالمة قلبها فرحاً حيناً يحلق بين السحاب وحيناً يغوص في النيل الذي تقف فوقه..لكن ظهور رجل عابث لحيته تقترب من بطنه أفسد هذه الجلسة جاءهما سائلاً الشاب بنبرة حادة عن صلة القرابة التي تربطه بحبيبته وهو يقول له إن هذه خلوة ، وإن جلوسهما سوياً في الكورنيش لا يجوز وحرام واحنا في رمضان ، رغم أن البراءة كانت تطل من روحيهما قبل أعينيهما ..فما كان من الشاب إلا أن رد على الرجل : وإنت مالك إنت يا عم ، فقال الملتحي مالي في جيبي يا قليل الأدب إنت لازم تتربى واشتبكا سويا واجتمع الناس حولهما ، أما أنا فواصلت سيري ، وحاجباي منعقدان من الدهشة وأتساءل هل أصبح هناك نظام عام في القاهرة؟؟ سبحان مغير الأحوال هاهم السلفيون في مصر يخرجون من جحورهم وتعلو أصواتهم ويصبح لهم كلمة وموقف يفرضونه على الناس في شوارع مصر الحرة التي يتنفس قاطنوها ليبرالية فطرية ، وجاء اليوم الذي ينادون فيه لمليونية اللحي والنقاب ، واسفاه أن أرى بنت المعز الساهرة ولياليها الساحرة مدينة تستيقظ على خوف لتعيش نهارية من الفوضى تنام بعدها على حيرة لا تنتهي..! لا يسعني سوى أن أقول نار مبارك كانت وستكون أرحم من جنة الإخوان والسلفيين..! لم احتمل تلك المشاهد في المدينة التي أعشقها حد الجنون ، فقررت العودة لاستكمال الشهر الكريم في الخرطوم وأهو لو زهجنا عندنا شارع النيل وقصة تلتوار وأخيراً لينا الله..!؟ أستراحة مفاجأة...النظام العام في القاهرة..! رفيدة ياسين [email protected]