القدس العربي رجلان يوقعان على اتفاق ثم يلوحان بكراسة التوقيع في إشارة للإنجاز الذي تم، يتكرر نفس المشهد بشخصيات مختلفة وأماكن وأزمنة مغايرة، ممثل للحكومة يوقع وثيقة سلام مع واحد من فصائل دارفور المنشقة من فصيل منشق بدوره عن حركة، تكاد من كثرة تكرار المشهد تظن أنه إعادة لخبرٍ قديم. في الخامس عشر من الشهر الجاري وقع فصيل من حركة تحرير السودان إتفاقاً جديداً مع ممثل الحكومة اللواء جمال الدين عمر محمد مدير الإدارة العامة للإستخبارات، وبرغم روتينية الامر لكنه حمل بعض الجديد فقد أكد على قناعة الحكومة بجدوى التعامل مع مجموعات لا تأثير لها على المستوى العسكري والسياسي في قضية دارفور، إذ جاء في تصريح اللواء جمال عمر ( إن الإتفاق يأتي في ظل توجهات الدولة بالحوار مع حاملي السلاح فرادى لأجل السلام ونبذ العنف ) والآن وبعد مضي عشرة أعوام على انفجار الأوضاع بدارفور هل لا زالت توجهات الحكومة كما هي ؟ هل حققت السلام المنشود ؟ هل رتقت النسيج الإجتماعي بدارفور ؟ هل ترسخت قناعة السلام لدى حاملي السلاح ؟ تظل اسئلة قد نجد لها إجابات وقد لا نجد. توجهات الحكومة في دارفور تتغير بشكل تكتيكي، فلكل فترة طريقة للمعالجة. بدأتها بالقتال ثم جنحت للحوار والتفاوض لتحقق إتفاق أبوجا في مايو 2006م ومنذ هذا التاريخ اختلفت طريقة التعاطي مع الأزمة، بعد أبوجا خفت حدة الإنتقادات الدولية للحكومة فبدأت تتعامل مع الأمر بالطرق التي تناسبها وحسب اجتهادات الممسكين بالملف. في أواخر العام 2008 عندما كان نافع علي نافع مسؤولا عن ملف دارفور قررت الحكومة إعتماد الخيار العسكري مع الحركات غير الموقعة وقال دكتور نافع حينها: 'ألا قوة ستمنعهم من إستعادة أراضيهم' فبدأت الحكومة حملة سمتها حملة تنظيف شمال دارفور من النهابين وقطاع الطرق استخدمت فيها الطائرات والاسلحة الثقيلة ونجحت في إضعاف الوجود العسكري للحركات التي كان يرتكز أغلبها في مناطق بشمال دارفور. كانت دوافع الدكتور نافع لتلك الحملة هي ميله للحل العسكري ربما إضافة لمحاولة تحقيق نصر عسكري بعد غزو أم درمان من قبل حركة العدل والمساواة في مايو من ذات العام، وأصبحت المواجهة العسكرية سمةً للتعامل مع الحركات طيلة فترة إمساكه بالملف. بعد إتفاق الدوحة في يوليو 2011 م اتجهت الحكومة لطريقة جديدة في التعامل مع الرافضين، هذه الطريقة مع حداثتها في السياسة السودانية إلا أنها سلاح ذو حدين وأسهمت بشكلٍ سالب في تأجيج الغبن ودفع الخصم لرفع سقوف تعنته لما لا نهاية. ففي ديسمبر من 2011 تم اغتيال الدكتور خليل إبراهيم رئيس ومؤسس حركة العدل والمساواة. وقد حقق اغتياله أمرين: أراح الحكومة من خصم عنيد وخطير، فقد رفض التوقيع على إتفاق الدوحة واعتبره حلا جزئيا يطيل المعاناة. تأتي خطورته من أنه من 'أولاد البيت' فهو خريج مدرسة الحركة الإسلامية وأحد أبنائها البررة، قضى صباه وشبابه جنديا من جنودها، عمل بالتنظيم ومؤسساته وقاتل حين ناداه منادي الجهاد، عالج جرحى المجاهدين وقادهم للإنتصارات فأوضح اغتياله بتلك الطريقة أن الإنقاذ في نسختها الحالية لا ترعى ذمة ولا تقدر جهاد مجاهدٍ ولا جهد وعرق أخٍ مسلم، ولا تمايز الناس على أساس القرب الأيدولوجي، وإلا لكان خليل أقرب حاملي السلاح إليها. ولعل حادثة إغتيال خليل لم تمر ببساطة هكذا، فهاهم أولاد البيت 'أبناء الحركة الإسلامية' من العسكريين تتخطفهم أسنة الغدر الواحد بعد الآخر، وها هم ضحايا المحاولة (التخريبية) يقبعون خلف قضبان الغدر، لعلها روح خليل تلاحق قادة الإنقاذ. الأمر الثاني الذي حققته الحكومة بإغتيال دكتور خليل أنها سارعت بإحداث إنقسامين بحركة العدل والمساواة وأدخلت المنشقين في برنامج (الحوار مع حاملي السلاح فرادى). سياسة الحكومة بدعم الإنشقاقات واحتضان المنشقين وإلحاقهم باتفاق السلام مع نجاحه الظاهري لكنه خيارٌ مكلف، فقد تساهم هذه الطريقة في اخراج المنشقين من دائرة العنف والحرب بدارفور، وقد تعكس عدم قدرة الحركات المسلحة على الإحتفاظ بمقاتليها، لكنها بالمقابل تكلف الحكومة ألاموال الطائلة للصرف على المسلحين العائدين وخلق مناصب لهم في المركز والولايات والتعامل مع خلافاتهم مع بعضهم ومع الفصائل الأخرى. وفوق ذلك فإن التعامل الجزئي مع القضية يجعل مسار السلام طريق باتجاهين، فبمجرد خلاف صغير أو كبير قد يعود الموقعين من حيث أتوا وكأنك يا أبو زيد ما غزيت. لذلك أظنه تكتيك غير مجدي ومكلف وعبثي لا يغني عن التعامل مع حملة السلاح الحقيقيين. فبعد كل الإجتهادات والتكتيكات والرحلات الماكوكية للمفاوضين في مدن أفريقيا وآسيا وأعدادٍ لا تُحصى من الفصائل الموقعة على اتفاقات سلام مع الحكومة هاهي الآن تواجه ذات الحركات التي كانت تقاتل في 2003 بدا فور في تنظيمٍ جديدٍ هو الجبهة الثورية السودانية، وهم الآن يقاتلون باسم الهامش السوداني ويديرون معاركهم بجانب دارفور في النيل الأزرق وجبال النوبة. فهل لا زالت سياسة الحكومة الرامية للحوار فرادى مع الحركات مفيدة؟ ألا يذكرنا ذلك بملوك البوربون الذين لا يتعلمون شيئا ولا ينسون شيئا؟. أعتقد وبعد مضي عشرة سنوات من اندلاع الأزمة بدارفور لم تصبح أمام الحكومة خيارات ولا وقت لتجريب الحلول الجزيئة في معالجة قضايا السودان، ربما ليس أمامها وقت حتى لمعالجة جذور الأزمات إن قررت ذلك.